جذور الخيانة

علاء عبد الكريم
علاء عبد الكريم

‭..‬هناك‭ ‬فرق‭ ‬بين‭ ‬تاريخ‭ ‬نكرهه‭ ‬أو‭ ‬نضطر‭ ‬لتدوينه‭ ‬لنتجنب‭ ‬الأخطاء‭ ‬التي‭ ‬وقع‭ ‬بها‭ ‬الأقدمون؛‭ ‬فأمور‭ ‬الدنيا‭ ‬تتشابه‭ ‬في‭ ‬أحوالها‭ ‬وفق‭ ‬ما‭ ‬اعتاد‭ ‬عليه‭ ‬الناس‭ ‬في‭ ‬حياتهم‭ ‬اليومية،‭ ‬ولكن‭ ‬حتمًا‭ ‬تختلف‭ ‬في‭ ‬حوادثها؛‭ ‬ففي‭ ‬خاتمة‭ ‬المطاف‭ ‬ستقرأ‭ ‬هذا‭ ‬التاريخ‭ ‬أجيال‭ ‬تأتي‭ ‬من‭ ‬بعدنا،‭ ‬لا‭ ‬يصح‭ ‬أن‭ ‬تتلقاه‭ ‬شفاهة‭ ‬أو‭ ‬مشوهًا‭ ‬حسب‭ ‬رغبة‭ ‬وعاطفة‭ ‬من‭ ‬يكتبه،‭ ‬فكاتب‭ ‬التاريخ‭ ‬مثلًا‭ ‬لا‭ ‬يجب‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬من‭ ‬رجال‭ ‬الدين‭ ‬وإلا‭ ‬أخضع‭ ‬ما‭ ‬يكتبه‭ ‬إلى‭ ‬النصوص‭ ‬الدينية،‭ ‬فيحذف‭ ‬ما‭ ‬يراه‭ ‬مختلفًا‭ ‬مع‭ ‬هذه‭ ‬النصوص‭ ‬حسب‭ ‬هواه‭ ‬وفهمه‭ ‬لهذه‭ ‬النصوص‭ ‬الدينية‭ ‬أو‭ ‬موروثاته،‭ ‬وإنما‭ ‬هو‭ ‬شخص‭ ‬مؤهل‭ ‬لهذا‭ ‬النوع‭ ‬من‭ ‬الكتابة،‭ ‬يبذل‭ ‬كل‭ ‬طاقته‭ ‬البشرية‭ ‬حتى‭ ‬تأتي‭ ‬كل‭ ‬الحوادث‭ ‬والوقائع‭ ‬التي‭ ‬جرت‭ ‬في‭ ‬الوقت‭ ‬الذي‭ ‬عاصر‭ ‬فيه‭ ‬حدوثها‭ ‬صادقة‭ ‬وحقيقية‭ ‬دون‭ ‬تزييف‭ ‬أو‭ ‬تحريف،‭ ‬متجردًا‭ ‬من‭ ‬النزعات‭ ‬السياسية‭ ‬والدينية،‭ ‬محبًا‭ ‬وعاشقا‭ ‬لما‭ ‬يكتبه،‭ ‬متفرغًا‭ ‬له‭ ‬تمامًا،‭ ‬فعندما‭ ‬تحدث‭ ‬الجبرتي‭ ‬مثلًا،‭ ‬وهو‭ ‬مؤرخ‭ ‬مصري‭ ‬عاصر‭ ‬الحملة‭ ‬الفرنسية‭ ‬على‭ ‬مصر‭ ‬ووصف‭ ‬تلك‭ ‬الفترة‭ ‬بالتفصيل‭ ‬في‭ ‬كتابه‭ ‬الأشهر‭ ‬‮«‬تاريخ‭ ‬الجبرتي‮»‬‭ ‬لم‭ ‬يتحدث‭ ‬عن‭ ‬حبه‭ ‬أو‭ ‬كراهيته‭ ‬للاستعمار‭ ‬الأجنبي،‭ ‬وإنما‭ ‬رصد‭ ‬العلماء‭ ‬الذين‭ ‬جاءوا‭ ‬مع‭ ‬نابليون‭ ‬وما‭ ‬حققوه‭ ‬وانجزوه‭ ‬من‭ ‬أعمال‭ ‬ربما‭ ‬لم‭ ‬تستوعبها‭ ‬عقولنا‭ ‬وقتها‭ ‬من‭ ‬تقدم‭ ‬علمي‭ ‬في‭ ‬وقت‭ ‬تدهورت‭ ‬فيه‭ ‬علومنا،‭ ‬بعدما‭ ‬كنا‭ ‬أمة‭ ‬لها‭ ‬تاريخ‭ ‬عريق‭ ‬وحضارة‭ ‬شامخة‭.‬

فلا‭ ‬أظن‭ ‬أن‭ ‬التاريخ‭ ‬لن‭ ‬يكذب‭ ‬أبدًا‭ ‬حين‭ ‬يقول‭ ‬بالأدلة‭ ‬والبراهين؛‭ ‬إن‭ ‬الجهاز‭ ‬السري‭ ‬لتنظيم‭ ‬العصابة‭ ‬قل‭ ‬أن‭ ‬يوجد‭ ‬له‭ ‬مثيل‭ ‬في‭ ‬دول‭ ‬العالم،‭ ‬فقد‭ ‬تميز‭ ‬في‭ ‬احتراف‭ ‬القتل‭ ‬والإرهاب‭ ‬والتخريب‭ ‬حتى‭ ‬فيما‭ ‬بينهم‭ ‬رأينا‭ ‬ثقافة‭ ‬الاغتيالات؛‭ ‬فهي‭ ‬ليست‭ ‬بدعة‭ ‬جديدة‭ ‬عليهم‭ ‬لكنها‭ ‬عرف‭ ‬راسخ‭ ‬ومتبع‭ ‬مع‭ ‬كل‭ ‬من‭ ‬يختلف‭ ‬أو‭ ‬يعارض‭ ‬توجهاتهم‭ ‬حتى‭ ‬داخل‭ ‬هذا‭ ‬التنظيم‭ ‬الإرهابي‭ ‬ذاته،‭ ‬منذ‭ ‬تأسيسه‭ ‬على‭ ‬يد‭ ‬مؤسس‭ ‬أول‭ ‬تنظيم‭ ‬إرهابي‭ ‬في‭ ‬العالم‭ ‬حسن‭ ‬البنا‭ ‬في‭ ‬عشرينات‭ ‬القرن‭ ‬الماضي‭ ‬وحتى‭ ‬اللحظات‭ ‬الراهنة‭ ‬وما‭ ‬نراه‭ ‬بين‭ ‬جبهتي‭ ‬الضلال‭ ‬واحدة‭ ‬في‭ ‬إسطنبول‭ ‬والأخرى‭ ‬في‭ ‬لندن،‭ ‬ويقيني‭ ‬أيضًا‭ ‬أن‭ ‬كاتب‭ ‬تاريخهم‭ ‬الأسود‭ ‬لن‭ ‬يجافي‭ ‬الحقيقة‭ ‬حين‭ ‬يكتب‭ ‬أن‭ ‬تنظيم‭ ‬الإخوان‭ ‬هم‭ ‬أكبر‭ ‬عصابة‭ ‬للإرهاب‭ ‬عرفها‭ ‬العالم‭ ‬في‭ ‬التاريخ‭ ‬القديم‭ ‬والحديث‭ ‬على‭ ‬السواء؛‭ ‬ولما‭ ‬لا‭ ‬وقد‭ ‬وجد‭ ‬التنظيم‭ ‬في‭ ‬سيد‭ ‬قطب‭ ‬منظر‭ ‬التكفيريين‭ ‬والدم‭ ‬من‭ ‬يفلسف‭ ‬اتجاهاته‭ ‬الإرهابية‭ ‬ويجد‭ ‬لها‭ ‬سندًا‭ ‬فكريًا‭ ‬مهمًا‭ ‬مهما‭ ‬بلغ‭ ‬به‭ ‬الحمق‭ ‬والسخف‭.‬

بعد‭ ‬أن‭ ‬عُين‭ ‬الهضيبي‭ ‬مرشدًا‭ ‬عامًا‭ ‬لأفراد‭ ‬تنظيمه‭ ‬الإرهابي‭ ‬لم‭ ‬يأمن‭ ‬إلى‭ ‬أفراد‭ ‬الجهاز‭ ‬السري‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬موجودًا‭ ‬في‭ ‬وقت‭ ‬مؤسس‭ ‬شجرة‭ ‬الإرهاب‭ ‬الخبيثة‭ ‬البنا‭ ‬الساعاتي‭ ‬برئاسة‭ ‬عبد‭ ‬الرحمن‭ ‬السندي؛‭ ‬فعمل‭ ‬على‭ ‬إبعاده‭ ‬معلنًا‭ ‬بأنه‭ ‬لا‭ ‬يوافق‭ ‬على‭ ‬التنظيمات‭ ‬السرية‭ ‬لأنه‭ ‬حسب‭ ‬زعمه‭ ‬لا‭ ‬سرية‭ ‬في‭ ‬الدين،‭ ‬ولكنه‭ ‬في‭ ‬نفس‭ ‬الوقت‭ ‬بدأ‭ ‬تكوين‭ ‬تنظيمات‭ ‬سرية‭ ‬جديدة‭ ‬تدين‭ ‬له‭ ‬بالولاء‭ ‬والطاعة بل‭ ‬عمد‭ ‬إلى‭ ‬التفرقة‭ ‬بين‭ ‬أفراد‭ ‬النظام‭ ‬السري‭ ‬القديم؛‭ ‬ليأخذ‭ ‬منهم‭ ‬إلى‭ ‬صفه‭ ‬أكبر‭ ‬عدد‭ ‬ليضمهم‭ ‬إلى‭ ‬جهازه‭ ‬السري‭ ‬الجديد؛‭ ‬وفي‭ ‬هذه‭ ‬الظروف‭ ‬المريبة‭ ‬وبكل‭ ‬خسة‭ ‬وانحطاط‭ ‬–‭ ‬واقصد‭ ‬الكلمة‭ ‬هنا‭ ‬بمعناها‭ ‬الشعبي‭ ‬والدارج‭ ‬لا‭ ‬اللغوي‭ ‬وهي‭ ‬التعبير‭ ‬الأدق‭ ‬لسجلهم‭ ‬الإرهابي،‭ ‬خطط‭ ‬مع‭ ‬أفراد‭ ‬عصابته‭ ‬الذين‭ ‬يدينون‭ ‬له‭ ‬بالولاء‭ ‬والطاعة‭ ‬لقتل‭ ‬السيد‭ ‬فايز‭ ‬عبد‭ ‬المطلب؛‭ ‬بواسطة‭ ‬صندوق‭ ‬من‭ ‬الديناميت‭ ‬وصل‭ ‬إلى‭ ‬منزله‭ ‬على‭ ‬أنه‭ ‬هدية‭ ‬من‭ ‬الحلوى‭ ‬لمناسبة‭ ‬عيد‭ ‬المولد‭ ‬النبوي،‭ ‬وقد‭ ‬قتل‭ ‬معه‭ ‬بسبب‭ ‬الحادث‭ ‬شقيقه‭ ‬الصغير‭ ‬البالغ‭ ‬من‭ ‬العمر‭ ‬تسع‭ ‬سنوات‭ ‬وطفلة‭ ‬صغيرة‭ ‬كانت‭ ‬تسير‭ ‬تحت‭ ‬الشرفة‭ ‬التي‭ ‬انهارت‭ ‬نتيجة‭ ‬الانفجار؛‭ ‬وكشفت‭ ‬تحريات‭ ‬الشرطة‭ ‬وقتها‭ ‬أن‭ ‬الهضيبي‭ ‬واتباعه‭ ‬يسيرون‭ ‬سيرًا‭ ‬سريعًا‭ ‬في‭ ‬سبيل‭ ‬تكوين‭ ‬جهاز‭ ‬سري‭ ‬إرهابي‭ ‬جديد‭ ‬ويسعون‭ ‬في‭ ‬نفس‭ ‬الوقت‭ ‬إلى‭ ‬التخلص‭ ‬من‭ ‬المناوئين‭ ‬لهم‭ ‬من‭ ‬أفراد‭ ‬الجهاز‭ ‬السري‭ ‬القديم،‭ ‬وأمام‭ ‬شهواتهم‭ ‬الخبيثة‭ ‬ظنوا‭ ‬أن‭ ‬المسؤولين‭ ‬من‭ ‬رجال‭ ‬الأمن‭ ‬غافلون‭ ‬عنهم‭.‬

ولأن‭ ‬حوادث‭ ‬التاريخ‭ ‬تعيد‭ ‬نفسها‭ ‬أحيانًا‭ ‬خاصة‭ ‬بين‭ ‬جماعات‭ ‬الشر‭ ‬بعضها‭ ‬البعض؛‭ ‬استشعر‭ ‬زعيم‭ ‬العصابة‭ ‬إبراهيم‭ ‬منير‭ ‬خطرًا‭ ‬كبيرًا‭ ‬يهدد‭ ‬حياته؛‭ ‬فاضطر‭ ‬لتعزيز‭ ‬الحراسة‭ ‬الشخصية‭ ‬عليه‭ ‬وعلى‭ ‬أسرته‭ ‬في‭ ‬منزله‭ ‬ومقر‭ ‬عمله‭ ‬بلندن،‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬تلقى‭ ‬قبل‭ ‬وفاته‭ ‬رسالة‭ ‬تهديد‭ ‬بالقتل‭ ‬من‭ ‬أحد‭ ‬العناصر‭ ‬الداخلية‭ ‬المحسوبة‭ ‬على‭ ‬جبهة‭ ‬خصمه‭ ‬القيادي‭ ‬الإخواني‭ ‬الإرهابي‭ ‬محمود‭ ‬حسين‭ ‬الهارب‭ ‬في‭ ‬تركيا،‭ ‬بعد‭ ‬اتهامه‭ ‬محمود‭ ‬حسين‭ ‬وجماعته‭ ‬بأنهم‭ ‬سرقوا‭ ‬أموال‭ ‬الجماعة،‭ ‬مشيرًا‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬الثاني‭ ‬وجماعته‭ ‬قرروا‭ ‬عزل‭ ‬الأول،‭ ‬بعد‭ ‬إقراره‭ ‬بالسرقة‭.‬

وقد‭ ‬عبر‭ ‬عن‭ ‬هذا‭ ‬واحد‭ ‬من‭ ‬اتباع‭ ‬جبهة‭ ‬لندن‭ ‬وهو‭ ‬الإرهابي‭ ‬عصام‭ ‬تليمة‭ ‬حين‭ ‬قال‭ ‬في‭ ‬فيديو‭ ‬بثه‭ ‬بعد‭ ‬وفاة‭ ‬الإرهابي‭ ‬منير؛‭ ‬‮«‬إنه‭ ‬كان‭ ‬الواجب‭ ‬على‭ ‬محمود‭ ‬حسين‭ ‬أن‭ ‬يصبر؛‭ ‬وذلك‭ ‬في‭ ‬إشارة‭ ‬لتورطه‭ ‬في‭ ‬عملية‭ ‬اغتيال‭ ‬إبراهيم‭ ‬منير‭ ‬مضيفًا‭ ‬أن‭ ‬هناك‭ ‬معركة‭ ‬حالية‭ ‬حول‭ ‬من‭ ‬يتولى‭ ‬موقع‭ ‬إبراهيم‭ ‬منير؛‭ ‬الأمر‭ ‬الذي‭ ‬جعل‭ ‬هناك‭ ‬نزاعًا‭ ‬بين‭ ‬أعضاء‭ ‬وفصائل‭ ‬الجماعة‭ ‬الإرهابية،‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬السيطرة‭ ‬على‭ ‬أموالها‭ ‬وثرواتها‮»‬‭.‬

فلا‭ ‬غرو‭ ‬إذن‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬نصف‭ ‬هذه‭ ‬الجماعة‭ ‬بالدناءة‭ ‬والخسة‭ ‬مثلهم‭ ‬مثل‭ ‬جماعة‭ ‬القرامطة‭ ‬في‭ ‬التاريخ‭ ‬الذين‭ ‬عمدوا‭ ‬إلى‭ ‬نشر‭ ‬الرعب‭ ‬والإرهاب‭ ‬والفزع‭ ‬في‭ ‬كافة‭ ‬أنحاء‭ ‬البلاد‭ ‬الإسلامية،‭ ‬فقد‭ ‬كانوا‭ ‬يبيحون‭ ‬دماء‭ ‬من‭ ‬يخالفونهم‭ ‬حتى‭ ‬لو‭ ‬كانوا‭ ‬مسلمين ويرون‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬أمرًا‭ ‬مشروعًا،‭ ‬فحق‭ ‬القول‭ ‬على‭ ‬العصابة‭ ‬الإخوانية‭ ‬بأنهم‭ ‬قرامطة‭ ‬القرن‭ ‬الواحد‭ ‬والعشرين‭.‬