خواطر الإمام الشعراوي.. تعدد الأهواء

الإمام محمد متولي الشعراوي
الإمام محمد متولي الشعراوي

يواصل الإمام الشعراوى خواطره حول سورة البقرة فى الآية رقم 213: «كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِى مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيم».

«كَانَ الناس أُمَّةً وَاحِدَةً» لكنهم اختلفوا لحظة الاستئثار بالمنافع، وأصبح لكل إنسان هوى ، ولو شاء الله أن يجعل منهجه لآدم منهجاً دائماً إلى أن تقوم الساعة لفعل، لكنه سبحانه برحمته يعلم أنه خلقنا، ويعلم أننا نعقل مرة ونسهو مرة، ونلتزم مرة، ونهمل مرة أخرى، فشاء الله أن يواصل لخلقه مواكب الرسل، ولذلك يأتى قول الحق: «فَبَعَثَ الله النبيين مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ»، ومهمة التبشير والإنذار هى أن يتذكر الناس أن هناك جنة وناراً، ولذلك يبشر كل رسول مَنْ آمن من قومه بالجنة، وينذر مَنْ كفر من هؤلاء القوم بالنار.

ويذكرنا الحق سبحانه بأنه أشهدنا على أنفسنا على وحدانيته فقال: «وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بنى ءَادَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ على أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بلى شَهِدْنَآ أَن تَقُولُواْ يَوْمَ القيامة إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غَافِلِينَ أَوْ تقولوا إِنَّمَآ أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِن قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِّن بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ المبطلون» «الأعراف: 172-173».

يخبر سبحانه أنه استخرج ذرية آدم من أصلابهم شاهدين على أنفسهم أن الله ربهم ومليكهم، وأنه لا إله إلا هو كما أنه فطرهم على ذلك: ثم بعد أن أخرجهم إلى الوجود من آدم جاء للخلق الأول وهو آدم وأعطاه المنهج وكانت الأهواء غير موجودة، فظل المنهج مطبقاً بين بنى آدم.

اقرأ أيضًا | خواطر الإمام الشعراوي.. نشأة الاختلاف بين البشر

وبعد ذلك تعددت الأهواء، وتعدد الأهواء إنما ينشأ عن الاستئثار بالمنافع، وذلك بسبب الخوف من استئثار الغير، فنشأ حب الذات، ولما كانت المنافع لا تتسع لأطماع الناس فقد استشرى حب الاستئثار والتملك، ونجد هذه المسألة واضحة حينما تتوافر السلع وتغمر الأسواق ،وتستطيع أن تشترى أى سلعة فى أى وقت تحب، وتجدها متوافرة، عند ذلك لا توجد أزمة، لكن الأزمة تنشأ عندما تقل الكميات المعروضة من السلع عن حاجة الناس، فيتكالب الناس على الاستئثار بها، وهكذا نعرف أن المنافع عندما توجد، وتكون دون الأطماع هنا تتولد المشكلات، ومن رحمة الحق سبحانه وتعالى بالخلق، ومن تمام علمه سبحانه بضعف البشر أمام أهوائهم وأمام استئثارهم بالمنافع، أرسل الرسل إلى البشر ليبشروا ولينذروا، «وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الكتاب بالحق لِيَحْكُمَ بَيْنَ الناس فِيمَا اختلفوا فِيهِ وَمَا اختلف فِيهِ إِلاَّ الذين أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَآءَتْهُمُ البينات» فكأن الحق لم يشأ أن يترك البشر ليختلفوا، وإنما الغفلة من الناس هى التى أوجدت هذا الاختلاف، «مِن بَعْدِ مَا جَآءَتْهُمُ البينات بَغْياً بَيْنَهُمْ» ومن هذا القول الحكيم نعرف أن الاختلاف لا ينشأ إلا من إرادة البغى، والبغى هو أن يريد الإنسان أن يأخذ غير حقه ، وما دام كل منا يريد أن يأخذ غير حقه فلابد أن ينشأ البغض ، «فَهَدَى الله الذين آمَنُواْ لِمَا اختلفوا فِيهِ مِنَ الحق بِإِذْنِهِ» أى أن الله يهدى الذين آمنوا من كل قوم بالرسول الذى جاء مبشرا ومنذرا وحاملا منهج الحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه ،وبذلك يظل المنهج سائداً إلى أن تمضى فترة طويلة تغفل فيها النفوس، وتبدأ من خلالها المطامع ويحدث النسيان لمنهج الله، وتنشأ الأهواء، فيرسل الله الرسل ليعيدوا الناس إلى المنهج القويم، واستمر هذا الأمر حتى جاءت رسالة الإسلام خاتمة وبعث الله سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم للدنيا كافة، وبذلك ضمن لنا الحق سبحانه وتعالى ألا ينشأ خلاف فى الأصل؛ لأننا لو كنا سنختلف فى أصل العقيدة لجرى علينا ما جرى على الأمم السابقة، هم اختلفوا فأرسل الله لهم رسلا مبشرين ومنذرين، لكن أمة محمد صلى الله عليه وسلم أراد الحق لها منهجا واضحا يحميها من الاختلاف فى أصل العقيدة، وإن اختلف الناس من أمة محمد صلى الله عليه وسلم فعليهم أن يسترشدوا بالمنهج الحق المتمثل فى القرآن والسنة.