كنوز| كامل الشناوي يروي حكايته مع رخا والبقَّال الرومي

كامل الشناوى
كامل الشناوى

يعترف الشاعر الرقيق كامل الشناوى فى كتاب «زعماء وفنانون وأدباء» أنه عرف فن الكاريكاتير وهو طفل من خلال «اللطائف المصورة»، أعجب بما كانت تنشره «الكشكول» من رسومات للفنان الإسبانى «سانتس» التى ينتقد بها الزعماء والسياسيين، وتمنَّى «الشناوى» أن يلتقى به لكنه رحل قبل أن تتحقق الأمنية، «الشناوى» يكتب عن أول مرة رأى فيها فنان الكاريكاتير الأرمنى «صاروخان» بمكتب محمد التابعى وظن أنه بقال رومى، ويتحدث فى نفس المقال عن رسام آخر هو «رخا».. فماذا قال؟ تعالوا لنعرف: 

منذ مدة ذهبت إلى مجلة «روز اليوسف» لزيارة الأستاذ محمد التابعى، كنت أحمل له رسالة من شخصٍ تربطه بى وبه صلة القرابة، ووجدت عنده بقالًا روميًّا، كان البقال يجلس أمام الأستاذ التابعى، وقد وضع كلتا يدَيْه فوق زجاج المكتب، كنا فى أول الشهر فظننته جاء يطالب بحساب الشهر،عندما رآنى رمقنى بنظرةٍ ساخرة وتراجع بكرسيه إلى الوراء، وأطبق شفتَيْه على ابتسامة أو كلمة، لا أدرى!

ولما انتهت مقابلتى للأستاذ التابعى زحف البقال بكرسيه إلى المكتب، استعدادًا لمراجعة الحساب معه ! دارت الأيام واشتغلتُ فى «روز اليوسف»، كنتُ أرى هذا البقال داخلًا من غرفة وخارجًا من غرفة، فى خطواته نشاط وضجيج، كان دائمًا عارى الساعدين متجهم الوجه، رأسه أصلع ليس فيه شعر، وملامحه أيضًا صلعاء، ليس فيها نبض ولا تعبير، عيناه مفتوحتان وفمه مغلق وأذنه مرهفة، إذا ضحك قهقه ثم زمَّ شفتَيْه بسرعة كأنما تذكَّرَ شيئًا يمنعه من أن يضحك !

التقيت بهذا البقال بعد ذلك فى «آخر ساعة» ثم فى «أخبار اليوم» وتعاملت معه أنا وسائر القراء، كنا نأخذ منه أجمل أصناف الضحك والسخرية والتهكم، نأخذ منه الكاريكاتير النابض بالحركة، حتى لَيُخَيَّل إليك أن الصور تقفز وتثب وتطير فى الهواء ! وهذا الذى حسبته بقالًا عندما رأيته أول مرة لم يكن إلا الفنان «صاروخان» الذى جاء إلى مصر من سنواتٍ ولم يتركها يومًا واحدًا، عثر عليه الأستاذ محمد التابعى ودفع به إلى طريق الكاريكاتير فمشى فيه بخطوات عملاقة، وظل يقدم رسوما لساستنا وحكامنا، يختار لهم الملامح والقسمات التى تعبر عن فكرة الكاريكاتير، ريشته لم تضع ملامح ساستنا وحدهم، بل وضعت كثيرًا من ملامح السياسة المصرية نفسها زهاء ثلاثين عامًا !

حاول «صاروخان» طيلة سنوات أن يظفر بالجنسية المصرية، فكانت العقبات توضع فى طريقه ولم يجرؤ أحد على منحه الجنسية المصرية ؛ فقد كان متهمًا بأنه عدو السراى، وعدو الإنجليز، وعدو الوفد، وعدو خصوم الوفد، ثم اتهم بأنه ضالع مع الشيوعيين، وأخيرًا استطاع الكسندر صاروخان الأرمنى أن يظفر بالجنسية المصرية فى عهد ثورة يوليو بعدما أصبح شيخًا فى الستين من عمره !

فى عام 1933 كنا جماعة من الشبان، نكره صدقى باشا ونتحمس لحزب الوفد، بكل ما فينا من تعصبٍ واندفاع، وكان صدقى باشا وقتها رئيسًا للوزارة، وقد استعمل فى حكمه كل أساليب الضغط والتنكيل، وصب غضبه على الصحافة، فكان يغلق عشرات الصحف بجرة قلم ويسوق أصحابها ومحرريها إلى السجون بتهمة العيب فى الذات الملكية، وكان مجرد توجيه هذه التهمة إلى شخص كفيلًا بسجنه على الأقل رهن التحقيق، وأصدر أحد الشبان الوفديين مجلة تنطق بلسان الشباب الوفدى، كانت المجلة تحاول تقليد «روز اليوسف» فى أسلوبها الساخر، وكان ينقصها أن تقلد رسام الكاريكاتير «صاروخان»!

فى أحد الأيام جاء صاحب امتياز المجلة إلى النادى السعدى، وهو يتهلَّل فرحًا ومعه بضعة رسومات عرضها على الموجودين، فأعجبوا بها وأجمعوا على أنها مثل رسومات صاروخان، قال إن الرسومات لشابٍّ يقلده أحسن تقليد، واسمه المختصر «رخا»، اسمه الكامل محمد عبد المنعم رخا، قال إنه شخص موهوب لم يُضيع وقته فى تكملة الدراسة واشتغل بالرسم، ظهرت رسومات «رخا» وأعجب بها القراء، كان هدف «رخا» محاكاة «صاروخان»، فهو ينقل الملامح كما يرسمها «صاروخان»، ويترسم حركة يده فى الرسم والتعبير، رسم «رخا» صورة لصدقى باشا، وكتب فيها بحروفٍ دقيقة عبارات تناولت الملك فؤاد، ثار الملك وقُدِّم «رخا» إلى المحاكمة ودخل السجن وأمضى فيه أربع سنوات، وكنا مُشفِقين عليه من أن ينسيه السجن موهبته فى الرسم.

خرج رخا من السجن، وإذا به ينسى فعلًا موهبته فى تقليد «صاروخان» ! وإذا السجن الذى أنساه تقليد غيره يذكِّره بنفسه فيهديه إلى موهبته الأصيلة الكامنة فيه، موهبة الفنان الخالق المبتكر، خرج «رخا» إلى الشارع فلقى «ابن البلد - وبنت البلد» وعاش فيهما وعاشا فيه ؛ فصور «بنت البلد» بالبرقع والملاية اللف والجمال الذى يريد أن يقول نعم، ولا يستطيع أن يقول غير «لا»، وصور «ابن البلد» بجلبابه البسيط النظيف وذكائه الفطرى وكفاحه ونبضات قلبه وخلجات نفسه، واستطاع أن يصور نبرة صوته المبحوح من طول ما صاح وشكا وهتف!

سُجِن رخا يوم 6 يونيوعام 1932، وهو يوم ميلاده فى الحياة، كما ثبتته شهادة الميلاد، وكان أيضًا يوم ميلاده كفنان؛ فمنذ هذا اليوم صارت لرخا شخصيته الفنية الطاغية.

كان ساستنا عندما ظهر الكاريكاتير يخافون أن يمسهم، كانوا يفزعون من رؤية صورهم، وقد تناولتها الريشة بالسخرية والاستخفاف، وكان أشد هؤلاء الساسة ضيقًا بالكاريكاتير مصطفى النحاس باشا، وعلى ماهر باشا، وكان أكثرهما فهمًا للكاريكاتير وحبًّا له أحمد ماهر باشا، والثلاثة تولوا رئاسة الوزارة فى فترات زمنية مختلفة.

لم أجرب بعدُ أثرَ الكاريكاتير فى نفسى، فالصور التى رسمها لى «صاروخان ورخا» بعيدة عن شكلى الحقيقى، ربما كانت أجمل، وربما كانت أقبح ! عبد السميع وحده هو الذى استطاع أن يرسمنى، وهو الوحيد الذى لم أتحدث عنه.

كامل الشناوى من «زعماء وفنانون وأدباء»

اقرأ أيضا | حياة كامل الشناوى.. زهور وأشواك!