بقلم د. علاء الجرايحي: إرث الأجداد.. وخليفة عواد !!

د. علاء الجرايحي
د. علاء الجرايحي

بين الماضى والحاضر والمستقبل مسافات مليئة بالصعاب، بقصصٍ وحكايات وتواريخ فى الإخفاقات والبطولات، هناك من يقطعها فى لحظة، عائدًا لإرثه الحضارى والثقافى والدينى والعلمى، وموروثه من العادات والتقاليد والأعراف، والطبائع والأخلاق التى نمت على أرض الدولة التى يعيش فيها؛وهناك مَنْ يُحاول استحضارها، فيصعب عليه مجرد السير نحوها أو تذكُّر أى شىءٍ منها، لأنه لم يعش فيها ولم يبغِ سماعها ممَّن عاصروها أو تناقلوها جيلًا بعد جيل، ويحفظونها عن ظهر قلبٍ، إعجابًا وافتخارًا بها، واعتزازًا وانبهارًا بأحداثها وما وقع فيها على طول الزمان وعرضه.
 
فى طيات التاريخ، تُوجد ذكريات لا ينبغى أن تُنسى، ومواقف يجب التوقُّف عند استحضارها طويلًا، وأزمات وانفراجات لا بد أن تُؤخذ فى الاعتبار حين التعامل مع أشباهها فى الحاضر المُعاش والمُستقبل المُنتظر، فمَنْ ليس له ماضٍ، بالطبع لا يُمكن أن يكون له حاضر ولا مُستقبل، والتسلسل الزمنى للأعمار والوقائع والأحداث فى عُمر الدول والشعوب أساسٌ فى كيانها، وركنٌ أصيلٌ من أركانها، ومخطوطات محفوظة فى سجلات دواوينها ومراكز توثيقها وتأريخها، تعود إليها الأجيال ويستحضرها الأحفاد؛ ليطلعوا على أمجاد مَنْ سبقوهم، وسقطاتهم، ما حقَّقوه فى أيامهم، وما عجزوا عنه وتركوه لهم؛ لإكمال المسيرة، وصناعة مجدٍ جديد يذكرهم به التاريخ، كما ذكر آباءهم وأجدادهم من قبل، عبر صفحات النضال ناصعة البياض.
 
المُتغيرات المستمرة فى حياة البشر دائمًا ما تُنتج لنا الجديد والحديث، الذى يكون فى جزءٍ منه متعلقًا بالماضى البعيد، وفى تفاصيله وتطوراته ممزوجًا بواقعٍ تخيُّلىٍّ سابق عليه استدعته الظروف الآن، وهو ذلك الماضى المتعلِّق بتاريخ حياة بنى الإنسان، وإرثهم المبنى على مُعتقدات آمنوا بها، وأسماءٍ وشخصيات لعَظمة إسهاماتها أجلُّوها وعظَّموها، وعلاقات طيبة، وتفاصيل ثرية مهمة فى محطاتهم الحياتية اكتسبوها واختزنوها بعقولهم، وجميعها بلا شكٍ تتحكم فى الحاضر القريب، وما يُخبئ فى مجهوله من مستجدات، لذا لزامًا علينا الحرص كل الحرص على الربط بين ماضينا وحاضرنا ومستقبلنا، وعدم تناسى أو تدارك ذلك فى خُططنا وخطواتنا وقراراتنا التى نتخذها، ووضع الأمر بجدية فى الاعتبار، لأننا نعلم عِلم اليقين أن الأيام تدور، والفواجع تتكرَّر، والتعلُّم من التجارب أعظم درسٍ يستفيد منه الفرد فى علاقته ببيته مع أسرته، وفى تعامله مع أقربائه وجيرانه وأصدقائه فى الشارع والعمل، وأيضًا بمجتمعه ووطنه الذى يستوطنه، ويعتبره البيت الكبير للعائلة.
 
الناظر للحال الذى وصلنا إليه الآن، يرى تنافرًا واضحًا ومرئيًا رأى العين، بين الفترات الزمنية الثلاث التى تتشكَّل منها خريطة حضارتنا، وكأن الخِصام المُتعمَّد فيما بينها، أحدث فجوةً زمانيةً بين الأجيال، وخلق تباعدًا فكريًا ودينيًا ملحوظًا جدًا غير خافٍ على أحد، ويُشير إلى إسقاطنا لعِدَّة أجيال متتالية، حتى هذا الجيل المستقبلى الذى نعقد عليه الآمال لبناء دولته وتحضُّرها والدفع بها قُدمًا للأمام، فَقَد أولى قواعد التنشئة، وإحدى أهم مراحل التأسيس وتشييد البنيان الإنسانى، من تربيةٍ وأخلاقٍ وسلوكٍ ودينٍ ووطنية، معظمهم فضَّل الكراهية والعنف على المحبَّة والتسامح، وحبَّذ علو الصوت واستخدام العضلات، بدلًا من الإنصات للحُجة وسماع البرهان، والاعتذار عند الخطأ وانحناء المخطئ، بل إنه نجح فى الابتكار والاختراع، وبرع فى التكنولوجيا ودروب العالم الرقمى المُتقدِّم، وسقط فى مبادئ التعامل ومعرفة سُبل التعايش، وكيفية التعامل مع المجتمع الذى ينتمى إليه، مما يشى بوجود هزة كونية فى التركيبة المصرية، نتج عنها شقوقٌ وتصدعات فى همزة الوصل بين الأبناء والآباء والأجداد، وهى العودة للجذور الضاربة فى أعماق التاريخ.
 
مجتمعٌ بلا هوية أو أخلاق، هو مجتمعٌ فقير، ليس لديه ما يمنحه لأحد، لأن فاقد الشىء لا يُعطيه، فترى مواطنيه ليس لديهم أدنى درجات الضمير والمشاعر الإنسانية، وفى هذا الزمان ستصبح هذه السمة نادرة الوجود، والعُملة الأعلى قيمةً، مَنْ يملكها سيكون أغنى الناس وأثرى أثريائها، فالغنى يكون لمن يملك ذلك الكنز، وإذا شحَّت المشاعر والإنسانيات وخفت نجمها فى مجتمعٍ ما، مع وفرة المال وطفرة التقدُّم الاقتصادى والتكنولوجى والعلمى فيه، تعرف أنه دون طعمٍ وليس له بريقٌ أو رائحة، فالعبرة تكمن فيمن يعيش فيه، بمَنْ سيجعل أحفاده مالكين للمبادئ والقيم والأخلاق والتقاليد والأحاسيس والمشاعر، هؤلاء المحافظون المربون وحدهم هم الذين يستطيعون الحفاظ على الموروثات الأجيال وروابطها من تلك الفجوة المُتسعة، ومن الممكن أن يقومون بتنميتها بأن يُوجِّهوا الآخرين فى بلادهم بالحفاظ على التنشئة والتربية، وبمنح خبراتهم لأصدقائهم وأقاربهم وجيرانهم، فنحن نعيش فى مجتمعٍ واحدٍ، وأرض واحدة، والحفاظ على الأصول يجعلنا بالتأكيد نحفظ إرث أجدادنا التربوى من الضياع فى غياب المدنية المنشودة، لأنه إرث العِزة والكرامة والحضارة، والحفاظ عليه وتناقله للأجيال يجعلنا نحافظ على ماهية الوطن وكيانه، وإذا علمنا قيمة تلك الموروثات سنحتفظ بها، ولن نبيعها لأجل المال أو أى شىءٍ آخر.
 
أردتُ فى مقالى المتواضع هذا لفت انتباه الجميع بأن الحفاظ على موروثاتنا من أجدادنا وصيانة أراضينا وحماية أوطاننا التى تركوها لنا، فرض عينٍ وواجبٌ على الجميع، فهى أعراضنا وسُمعتنا، ففى السابق كان الذى يبيع أرضه، كأنه يبيع عِرضه، كما كانوا يزفونه بالشوارع متى فعل ذلك بجملةٍ شهيرة (عواد باع أرضه يا ولاد، باع طوله وعرضه يا ولاد)، ويُعدون ذلك مصيبةً كبرى فى حق صاحبها لا تُغتفر حتى ولو كان لديه ضائقة مالية أو أصابه عُذر لأى سببٍ، هكذا مَنْ يبيع تاريخه وتاريخ آبائه وأجداده، فمَنْ لا يملك العِرض لا يملك الكرامة، ومن المستحيل أن نُوليه أمرًا أو نترك له أُذنًا تسمع منه أو عينًا تنظر إليه، فهو لا يدين بدينٍ ولا يعرف معنى أرض أو وطن أو عرض أو جنسية، خسيس يستحق انتقام الفراعنة، فهم بالفعل ينتقمون لتاريخهم وإرثهم وعزتهم ووطنهم من أى تدليسٍ أو تدنيسٍ، أو سرقته والاستهانة به، فيا هذا الشعب الأبى حفيد أعظم سلالات الأرض، حافظ على إرثك الحضارى وعلى أرضك عِرضك ووطنيتك، من عاهرات آخر الزمان، شرذمة السوء، حثالة الأمم الذين لا ينتمون لوطنٍ، وإنما مُكتسبون للجنسية المصرية اسمًا فقط، لكن ولاءهم كله للخارج المُغرض.. يا شعب مصر لا تستجيب لمن يتكلَّم عن بيته وأهله بسوء، فهو ليس أصيلًا ولا يعى قيمة الأهل أو الوطن أو الدين، هو فقط مختلٌ نفسى لا يُجدى معه العلاج.. نحن أحفاد الفراعنة، أصحاب حضارات صنعناها بأيدينا، وما زلنا نبنى ونُعمِّر ونصنع معجزات، وهذا ما أثبتته مصر بمؤتمر المناخ بشرم الشيخ، حيث أكدنا للعالم كله أننا بلد الأمن والأمان، بلد الفكر والعمل والتطور، ونسعى لنُحقِّق نهضةً عريقةً، مثل تلك التى فى سنغافورة والصين والدول المتقدمة، وأدعو المصريين جميعًا برفع أكف الضراعة والدعاء لقيادتنا وجيشنا وشرطتنا بأن ينصرهم الله ويُثبت أقدامهم ويُعينهم على المسئولية الثقيلة المُلقاة على عاتقهم، ويُوفّقهم لما فيه الصالح لمصر وشعبها العظيم.