..يحمل المجتمع الدولى موازين دقيقة مع كل الأمم والدول التى تتشارك فيه بحكم حجم المصالح التى تتشابك بين أعضائه، فهناك الأمم والدول المؤثرة صاحبة القرارات المصيرية والتى على أساس مواقفها تتعقد أو تتيسر المصالح الدولية على كافة المستويات السياسية والاقتصادية والعسكرية وهى أمم ودول معروف حجمها بدقة على المستوى الدولى لكل خبير.
فى بعض الأحيان يخلط البعض عن جهل أو عن عمد بين قوة النفوذ لأمة ودولة راسخة على الساحة الدولية وبين حالة الظهور الدعائى لدولة أخرى أو شبه دولة تملأ العالم ضجيجًا عن قوتها وتأثيرها ويزداد الخداع فى هذه الحالة الدعائية عندما يجد المنبهرون بالحالة الدعائية عاصمة هذه الدولة أو شبه الدولة قبلة الوفود من دول كبرى وعظمى تلتقى فيها وتصبح هذه العاصمة اسمًا مكررًا فى كل ساعة بنشرات الأخبار بوسائل الإعلام الدولية ويتصور المنبهرون أن العاصمة المنتفخة بهواء الدعاية مشاركة مثلا فيما يجرى على أرضها، والحقيقة أن كل ما يمكن أن تقدمه عواصم الدعاية مراسم الضيافة والاستقبال للقادمين إليها مقابل أن يشعر الضيوف بالراحة ويسعد المستضيفون بفرحة البروباجندا التى حصلوا عليها وأنفقوا عليها الكثير بل سعوا بكل قوة لكى يكونوا محط الأنظار فى الدوائر الدولية.
هذه الحالة من الظهور أو الانتفاخ الهوائى الدعائى لبعض العواصم سببها الرئيسى أن هذه العاصمة أو تلك لا تملك إلا وسائل البروباجندا لتشترى هذه الهالة الملونة فهى لا تمتلك المقومات الحضارية والتاريخية والاستراتيجية التى تعطيها نفوذًا حقيقيًا ومؤثرًا وقد يصاب الباحثون عن حب الظهور بعقدة نفسية وسياسية من الأمم والدول صاحبة النفوذ الحقيقى والمؤثر فتوجه جزءًا ليس بقليل من البروباجندا المشتراه إلى مهاجمة أصحاب النفوذ والقوة متصورين أن هذا الهجوم يمكن أن يخصم من حجم نفوذ وقوة هذه الأمم والدول أو أن نتيجة هذا الهجوم الطفولى قد يذهب بعض من نفوذ الأمة الراسخة إلى حساب العاصمة الدعائية.
الحقيقة أن هناك فارقًا شاسعًا بين نفوذ وقوة الأمم الراسخة وهذه الحالة الدعائية فالأمم الكبرى الحضارية لا تعرف هذه الألعاب البهلوانية عندما تتحرك على الساحة الدولية أوتتخذ بثقة قرارها السياسى والاستراتيجى تجاه موقف دولى معين، بل الأكثر من ذلك فالصفة التى تلازم حركة الأمم الكبرى وهى تدير مصالحها على الساحة الدولية هى الصمت الذى يصل إلى درجة السكون الكامل . عند هذه الحالة بين صمت النفوذ وضجيج البروباجندا تصل السذاجة بالمنبهرين واللاهثين وراء الحالة الدعائية إلى تصور غريب وهو أن حالة الصمت تلك تعنى أن الأمم الكبرى تراجع دورها وقل نفوذها لصالح سيرك الدعاية المنصوب فى عاصمة هنا أو هناك.
رغم الدقة الكاملة التى يمتلكها المجتمع الدولى فى تحديد ثقل الأمم والدول بسبب حجم المصالح فهناك ميزان آخر يزن ويفرق بين حقيقة النفوذ وحالة الانتفاخ الدعائى وهو تصدر أزمة دولية كبرى المشهد العالمى وعند هذه الأزمة تحدث عملية فرز سريعة ومنضبطة تفصل بين النفوذ الراسخ للأمم وبين هشاشة الدعايات وتبدأ الأمم الكبرى المؤثرة تتلاقى من أجل الوصول إلى حل يحجم خطورة هذه الأزمة التى تهدد السلم والأمن الدولى وهنا يصدرالأمر للاعبين بألعاب الدعاية بالكف عن الضجيج والصياح لحين انتهاء الكبار من إدارة الأزمة وفى نفس الوقت يملك المجتمع الدولى بعض التسامح تجاه هؤلاء اللاعبين بالبروباجندا فيمكن بعد انتهاء الأزمة أن يعودوا إلى لعبهم وضجيجهم وتفرح عواصمهم بالمؤتمرات والقرارات التى لايتعدى تأثيرها مدى القاعات التى عقدت فيها.
تفجرت الأزمة الروسية الأوكرانية على الساحة الدولية لتكون من هذا النوع الفارق الذى يستدعى نفوذ وحكمة الأمم الكبرى وينأى عن ضجيج وهشاشة الدعاية لأن العالم فى مواجهة الأزمة الأخطر منذ نهاية الحرب العالمية الثانية فى القرن الماضى بل هى أزمة يلوح فى أفقها خطر السلاح النووى الذى يهدد بقاء الجنس البشرى وأغلب المتداخلين فى دوائر هذه الأزمة يمتلكون من هذا السلاح الكثير، منذ اللحظات الأولى مع اندلاع الأزمة الروسية الأوكرانية فى فبراير الماضى تطلعت كافة دوائر الأزمة إلى موقف القاهرة وتعاطيها مع هذا الحدث الجلل الذى لو خرج عن حدوده لدفعت البشرية وجودها ثمنًا له فلا يوجد منتصر أو مهزوم فى معادلة الفناء.
هل يوجد تزيد عندما نرى أن كافة الدوائر المتداخلة فى الأزمة الروسية الأوكرانية تطلعت إلى طبيعة موقف القاهرة وتعاطيها مع الأزمة الأخطر التى تمر بالعالم لأنها من الأمم الكبرى؟ الإجابة على السؤال يحكمها أمرين ينفيان وجود أى نوع من التزيد بل تحمل الإجابة فى داخلها ثوابت وحقائق ووقائع تابعها الخصوم قبل الأصدقاء ويدركها العالم أجمع منذ فبراير الماضى وقت أن اندلعت الأزمة.
يرتبط الأمر الأول بالثوابت المرتبطة بطبيعة الأمة والدولة المصرية فنحن هنا وبوضوح شديد نشير إلى حجم النفوذ والتأثير المصرى على مستوى الإنسانية قبل حتى المستوى الدولى والاستراتيجى وهذا نفوذ وتأثير يمتد إلى آلاف السنين منذ أن خلق الله هذه الأمة العظيمة على هذه الأرض والتى سبقت التاريخ فى وجودها وبالتأكيد لا يمكن شراء آلاف السنين من التاريخ أو استئجارموقع جغرافى استراتيجى أو صناعة حضارة بالبروباجندا وبالتاريخ والجوغرافيا نحن هنا نرى ثوابت راسخة لايمكن لأحد أن يجادل حولها جعلت الأمة المصرية فاعلا رئيسيًا وصاحبة نفوذ دائم فى مشاركة الأمم الأخرى عند اتخاذ القرارات المصيرية فى مواجهة الأزمات الدولية ومن يريد الاطلاع على حجم ثوابت الأمة المصرية ومدى رسوخها فليقرأ تاريخ الإنسانية أو بمعنى أدق يقرأ تاريخ مصر.
يتعلق الأمر الثانى بالحقائق والوقائع التى توالت مع اندلاع الأزمة الروسية الأوكرانية فكل دوائر الأزمة المباشرة وغير المباشرة وأغلبها تنتمى إلى الدول العظمى حرصت منذ اليوم الأول على استيضاح الموقف المصرى حول الأزمة لأن بالحسابات السياسية و الاستراتيجية عندما تتخذ القاهرة بثقلها موقفًا تجاه طرف ما فى هذه الأزمة الدولية الخطيرة فهذا يعنى أن معادلة الحل تحتاج إلى كثير من المراجعة لطبيعة وحجم الدور المصرى المؤثر ويمكن رؤية هذا الحرص من خلال البيانات التى وجهتها الدول الكبرى دون استثناء إلى القاهرة من أجل أن تكون مصر مركز اتزان رئيسى وشريك حكيم تستفيد من خبراته فى إدارة الأزمة بالتأكيد هذه الحقائق والوقائع مثبتة من خلال يوميات الأزمة الدولية ومن ناحية أخرى فقد تحولت القاهرة منذ فبراير الماضى وقت بداية الصراع إلى مركز يلتقى عنده الفرقاء للتشاور مع رؤية الدولة المصرية حول تداعيات مايحدث وللتأكد دائمًا أن النفوذ والثقل الذى تمتلكه الأمة المصرية لن يناصر طرفًا على حساب طرف آخر من المتشابكين داخل هذا الصراع والحقيقة أن الموقف المصرى فى أى أزمة دولية وليست الأزمة الروسية الأوكرانية فقط تحكمه الثوابت الحضارية الراسخة للأمة المصرية وهى ثوابت لا تعرف انتهازية المكاسب أو تتراجع أمام تهديدات لأنها روح هذه الأمة والتاريخ شاهد عدل على ذلك.
وسط انشغال القاهرة بإدارة موقفها المتوازن فى التعامل مع الأزمة الروسية الأوكرانية وتداعياتها والتطلع الدائم من الدول الكبرى الذى يصل إلى درجة الترقب للموقف المصرى كانت الدولة المصرية تدير الاستعداد لاستقبال الحدث الأهم على مستوى العالم وهو مؤتمر المناخ ورغم أن طبيعة المؤتمر للوهلة الأول تشير أنه بعيد عن أجواء الصراع إلا أن ظلال الأزمة الروسية الأوكرانية كانت حاضرة لسبب واضح أن الأطراف الدولية المشاركة فى المؤتمر هى نفسها متورطة فى الأزمة الدولية ولسبب آخر أن من تداعيات الصراع الدائر على الجبهات الروسية الأوكرانية موضوع الطاقة والمؤتمر المناخى على رأس أولوياته فتح آفاقًا جديدة للبشرية للحصول على طاقة نظيفة تحمى هذا الكوكب من كارثة الفناء.
فى تلك اللحظات الفارقة من تاريخ الإنسانية والتى تتعرض فيها إلى تهديد نووى ناتج عن أزمة دولية خطيرة و من ناحية أخرى تبحث عن قارب نجاة لهذا الكوكب من كوارث تدمير البيئة من خلال المؤتمر الدولى كانت الأمة المصرية حاضرة على الجبهتين بالمشاركة فى إدارة حلول الأزمة الدولية وإدارة مؤتمر النجاة وهنا تتأكد الثوابت وتترجم الحقائق والوقائع لهذه الأمة إلى فعل وتدور بقوة ماكينات النفوذ الاستراتيجى والسياسى والثقل الحضارى فيعلن الرئيس عبد الفتاح السيسى من خلال المؤتمر الحاضرة فيه الأزمة الدولية الخطيرة بظلالها عن استعداده للعمل على وقف هذه الحرب و إنهاء الأزمة الروسية الأوكرانية.
هذا الاستعداد واختيار التوقيت للتدخل من أجل العمل على إنهاء هذه الأزمة الدولية فى هذا المحفل العالمى من الرئيس السيسى يمثل التطبيق الدقيق لاستخدام نفوذ الأمة المصرية كأمة كبرى تتخذ قرارها الاستراتيجى والسياسى تجاه أزمة دولية على هذا المستوى من الخطورة فى لحظة فارقة تعلم جيدًا بخبرتها الحضارية أن ماتعلن عنه سيكون عامل الحسم وليس استهلاكًا دعائيًا فى نقل الأزمة إلى أفق الحل.
هذا التحرك المصرى النافذ دون ضجيج تم وفق حسابات سياسية واستراتيجية لا تقبل الشك فقبلها الرئيس الروسى بوتين يعلن من موسكو أن مصر هى الشريك الأهم لروسيا فى إفريقيا والعالم العربى وبعد التحرك كان الرئيس السيسى يلتقى بالرئيس الأمريكى جو بايدن فى شرم الشيخ وبالتأكيد التحرك المصرى فى الأزمة كان على قمة المباحثات الثنائية بين الرئيسين.
ثم يتم الإعلان ولأول مرة أن اللجنة الاستشارية الثنائية الأمريكية الروسية ستجتمع فى القاهرة لمناقشة معاهدة ستارت 3 النووية بين القوتين وهى المعاهدة الأخطر فى العالم والتى يمثل وجودها المحافظة على السلم والأمن الدوليين وإذا كان العنوان الصريح لهذا اللقاء التاريخى والفارق هو بحث المعاهدة فإن العنوان الضمنى إنهاء الأزمة الروسية الأوكرانية بين القوتين على ضفاف نيل القاهرة.