شحاتة العريان يكتب : بهاء طاهر كاتب لم يهادن أحداً

الأديب بهاء طاهر
الأديب بهاء طاهر

تقدير كاتب فى مكانة بهاء لعمل هو الرواية الأولى لمؤلفها من الأمور التى كنا نسمع عنها بين أجيال الخمسينيات والستينيات، ولم نعاينها كثيراً فى أجيالنا.

قرب أواخر التسعينيات كنت أعمل مع الأستاذ محمد البساطى مديراً لتحرير سلسلة «أصوات أدبية» بهيئة قصور الثقافة، ونجتمع أسبوعياً بمقهى الندوة الثقافية بباب اللوق وكانت فى أوج عزها، وفى تلك الأيام تمتد مقاعدها بطول وعرض الممر جوارها حتى باب العمارة بأعماقه.

وتتيح الجلسة الهادئة مراجعة أعمال السلسلة، وكان من بواكير إصداراتها مجموعة قصصية لبهاء طاهر اسمها «ذهبت إلى شلال»، وهو ما أتاح لى التعرف إليه، فهو والبساطى أصدقاء بينهما ممازحات لا تنتهى.

وقد ينضم آخرون كإبراهيم منصور -الكبير- وكان يضفى مرحاً بحضوره الصاخب البهيج، قبل أن يلتحقوا -كما فى أحيان كثيرة- بقعدة فاروق عبد القادر الأسبوعية بمقهى سوق الحميدية المجاور.

كنت أروح معهم مرات وأتنصل أخرى، كنت أعرف بهاء طاهر ككاتب طبعاً ومفتون بـ«أنا الملك جئت»، وأرى فى تلك الكتابة قرارة من صوفية شفافة محملة بالأسى الرفيق بالحجر والبشر تنبنى رؤيتها على معطيات مسار وطنى لا ينقطع فيه اتصال إنسان المكان بجذوره الضاربة فى الماضى الذى لم ينقض تماماً للآن.

ولعلها كانت أبعد أعماله -حتى ذلك الوقت- عن الانشغال بالهم السياسى أو بالتقابل بين الشرق بالغرب، وما إليها من عناوين عامة تُتخذ كمداخل معتادة لعمله الأدبى، ولعلى لا أكون مجافياً للصواب لو قلت إن امتداد «أنا الملك جئت»، كانت رواية أخرى مكتملة هى «واحة الغروب»، التى لم يكن قد أنجزها بعد فى تلك الأيام.

ولم أكن شديد الحماس لمجموعة «ذهبت إلى شلال»، وإنْ أعجبتنى بعض قصصها، ولا بد أن رأيى هذا انتقل إليه عبر ممازحات البساطى، فتناقش معى مرة حول العنوان، وهو اسم إحدى القصص بالمجموعة كذلك ووجهة اختيار قصة لتسمية المجموعات بها لا يمنح المجموعة كياناً مستقل وقدراً لا يتيح الربط بين تلك القصص وهو ارتباط موجود بالفعل إذ كانت فى معظمها حول تجربة السفر للغرب، وأن ابتكار عنوان جديد أفضل، ولكنه أبقى على عنوانه الأول.

بعد ذلك بنحو عامين وفى عام 1999 صدرت روايتى «دكة خشبية تسع اثنين بالكاد»، واستقبلها إبراهيم منصور بما يشبه الاحتفال مطلقاً حولها بين المثقفين ما يخجلنى تكراره من مديح، ولعل حفاوته تلك لفتت اهتمام الأستاذ بهاء فطلب منى نسخة أحضرتها له ووعدنى أن يخبرنى عن رأيه حين يقرأ.

ومرّ بعض الوقت عدة أسابيع ربما، ووجدته يكلمنى كى أقابله بالأتيلييه لأن لديه هدية لى، كان مقالاً نشرته الشاعرة اللبنانية عناية جابر عن روايتى بجريدة السفير اللبنانية، ولأن الجريدة لا تدخل مصر فقد اعتادت عناية أن ترسل له مادتها مقصوصة فى رسائل بالبريد، وفوجئ هو كما قال لى بمقالها عن روايتى وأنه ما سيحفزنى لقراءتها معتذراً بلطف ونظرة حانية عن إبداء رأى.

ولكنه لمح تحرقى لمعرفته وتفادياً أن ابتدره بالسؤال المتوقع، أعطانى قصاصة الجريدة التى بها المقال قائلاً: «لن تجد أحداً يكتب عن عملك بمثل هذا الحب ثانية.. لقد أحببت روايتك من كلامها»، وبالفعل كانت عناية التقطت فى مقالها القصير بعض أخص ما فى العمل مشيدة به.

وحين تعرفت إليها كان استفهامى عمن يكون لفت نظرها لرواية فى طبعة صغيرة بالقاهرة وهى فى بيروت، وقالت إن البساطى كلمها، وحين شكرته -وكان ينكر أن الرواية تعجبه- قال إنه حذرها من مثل تلك الكتب.

وقال كذلك إن بهاء طاهر لم يأخذ تحذيره مأخذ الجد وكتب عنها مقالاً أرسله للغيطانى وبطريقته فى المزاح قال: «تلاقيه شاتمك يالا.. بهاء ما بيعجبوش العجب ولو منك أشوف صرفة يوقفوا نشره فى أخبار الأدب».

ووجدتنى أكاد أطير من السعادة، فتقدير كاتب فى مكانة بهاء لعمل هو الرواية الأولى لمؤلفها هو من الأمور التى كنا نسمع عنها بين أجيال الخمسينيات والستينيات، ولم نعاينها كثيراً فى أجيالنا، كأن يقدم يوسف إدريس كثيراً من مجموعات قصص ذلك الجيل الأولى ويساهم مادياً بتبرع كبير لإصدار مطبوعتهم «جاليرى 68» لتدشين جيل شعاره «نحن جيل بلا أساتذة».


 وقال لى الاستاذ محمود الوردانى حين رأيته على قهوة البستان إنهم سينشرون مقال بهاء طاهر عن روايتى معقباً فى ضحك «عشان بهاء طبعاً مش عشانك»، ولعل ذلك المقال كان من بين أسباب لفتت الانتباه لعملى ثم منحى جائزة الدولة التشجيعية فى ذلك العام، وبعدها تواصلت لقاءاتنا وتكاثفت ضمن حراك «جماعة أدباء وفنانين من أجل التغيير».

والتى شارك بهاء طاهر فى جميع فعالياتها ووقفاتها الاحتجاجية بميدان طلعت حرب، وكان ذلك الحراك السياسى هو المتاح وقتها. أتذكر رافقناه بإيعاز من هانى عنان الذى لا يستطيع الوصول لسيارته لتوصيله أنا ومحمد عبد النبى من شارع قصر النيل، لنحمله تقريباً حتى مطلع كوبرى أكتوبر وسط الغاز والخرطوش.

وفى محاولة لاستيقاف أى سيارة لتنقله من بيته بالزمالك، لذا ليس مقبولاً بالمرة أى حديث الآن عن «مهادنته السلطة»، فلم نر منه ما يشى بذلك أبداً على مدار الربع قرن الاخير -على الأقل- التى كنا شهوداً عليها.

اقرأ ايضا | الأديب بهاء طاهر: الوجه المنسى لبهاء مخرج وصوت إذاعى أنيق