عاجل

الأديب بهاء طاهر: صور متناثرة وخيط موصول

صورة أرشيفية
صورة أرشيفية

عزيزى بهاء
أريد أن أحكى لك اليوم الحكاية باختصار، حكايتنا معا.
فى منتصف السبعينيات، وكنت فى العاشرة من عمري، رأيتُ الطبعة الأولى من «الخطوبة» ترقد فوق مكتب أبى وسط كومات كتب وأوراق بخط يد سعد الكبير ذى الانحناءات الصريحة. لا أتذكر متى قرأت الكتاب، لكن الباقى فى ذاكرتى من بيت طفولتى هو أنك تخرجت فى قسم التاريخ بكلية الآداب جامعة القاهرة.

وهو نفس القسم الذى درست فيه أمى قبلك بعامين أو ثلاثة، وأنك زميل لأمى فى الإذاعة، تعمل هى فى البرنامج العام، وأنت فى البرنامج الثاني. الحديث عنك بين أبى وأمى يشى بالودّ، ولا يخفى مرارة تركك مبنى الإذاعة والبلد كلها. بعدها بعقدين جاء «الحب فى المنفى».

وأخبرنى أشياء عنكَ، عن تلك الذات التى كتبت الحكاية وملأت تعاريجها بالأسى وبالفقد والافتقاد. جاءتنى الرواية أيضا بأسئلة عن بناء النص، واختيارات اللغة، وشعور المنفى المؤلم والمانح للرؤية، وكيف تشكل ذات الكاتب وتاريخه مغناطيسا للحدث الروائي.


فى الأعوام الأولى من الألفية كنتُ قد بدأت ألتقيك فى فعاليات ثقافية مختلفة، وفى كل مرات لقائنا كنت أرى فى عينيك ابتسامة ربما كانت لأمى أكثر من كونها لي، «انتى بنت جمالات!»، قلتها بودٍ لا يحمل أثرا لأبوة مفترضة، كأنك تصل بين لحظتين ومكانين وزمنين ربما. 


 فى حفل دار الشروق بمناسبة حصول «واحة الغروب» على جائزة البوكر العربية فى دورتها الأولى فى 2008، فاجأنى اقتراحك أن أكون من بين المتحدثين عن الرواية. هل كان الدافع ثقة أم الود القديم؟ لا أعرف. أربكنى الأمر وأسعدني. 


فى ٢٠٠٥ وما بعدها جمعنا الغضب على سياسات ثقافة فاروق حسني، غضبٌ تصاعد فى أوساط الأدباء والفنانين كما فى أماكن وقطاعات أخرى فى مصر، إلى أن وصلنا معا إلى شتاء الثورة فى ٢٠١١، وكونى «بنت جمالات» تراجع كثيرا (وإن لم يختفِ)، كنا قد أصبحنا رفقة شارع ومطالب تختص بالحريات وبالوطن الذى نريد. 


تقابلنا فى صيف ٢٠١٤ فى مكتبة ديوان فى الزمالك. لا أتذكر موضوع الندوة، لكننى لا أنسى حديثنا قبلها. عندما سألتنى عن موقفى من الانتخابات الرئاسية، أخبرتكَ إننى لن أنتخب. وأنت قلت لى أنك سوف تذهب للصناديق.

وأنك تعرف أن اختيارك لن يعجبني. كان هذا صحيحا، لكننى كنت أفهم أن دافعك هو حماية الدولة المدنية، مثلك مثل كل أبناء وبنات رفاعة. أخفيتُ الغصّة فى قلبى واحترمتُ اختيارك وأمسكت بخيوط المحبة. 


المرة الأخيرة التى تكلمنا، كانت شاشة الانترنت بيننا. كان هذا فى عام الكورونا الأول فى ٢٠٢٠ حين عقدت مكتبة «ديوان» ندوة إلكترونية عن أعمالك تحدث فيها سيد محمود وأنا. لم تشاركنا أنتَ الحضور على الهواء، لكن «يُسر» ابنتك صورت لك مقطع فيديو وأنت تتابع الندوة، ثم ترسل الامتنان لنا وللمكتبة.

وعندما رأيت صورتك على الشاشة امتلأ جسدى بدموع مفاجئة. ربما كانت خليطا من المحبة والخوف من رحيلك والوحشة إلى لقاءاتنا التى على الرغم من كونها خاطفة، إلا أنها موصولة من أول جمالات وسعد حتى اللحظة التى كانت الشاشة تفصل بيننا. 


لم أخبرك أبدا إننى أعتقد أن فيك شبهًا من أبي، ربما هو هذا الإيمان بمشروع تنويرى لم تتعاملا معه على أنه مجرد فكرة نبيلة، لكنكما سمحتما له أن يصبح جزءاً من أداء إنسانى لا يمت للسلطوية بصلة، أداءٌ يتسم بكرم ورحابة وفضول ودهشة وقدرة على اللجوء إلى الفن وقت الشدة، والتمسك به كطوق نجاة وسط طيش الموج.
لم أخبرك أشياء كثيرة، لكننى أظن أنك تعرف بعضها، كما أن الحديث بيننا موصول.

سحر.
اقرأ أيضا | الأديب بهاء طاهر: الوجه المنسى لبهاء مخرج وصوت إذاعى أنيق