أحمد الزناتي: الزيت والنار بين تولستوي ودوستويفسكي

دوستويفسكى
دوستويفسكى

تبدو حياة تولستوى وحياة دوستويفسكى رائعتيْن وإنْ بشكل متعاكس، وذلك بسبب غلبة الجسد على الروح عند الأول، وغلبة الروح على الجسد عند الثانى. وبذلك فإنهما تكملان وتتمان بعضهما البعض، وكل واحدة ضرورية للأخرى.

 أظنّ لو قُـدّر لرجل حقيقى أن يختار عيشة سوية، لعاشَ عيشة دوستويفسكى،مكافحًا، مصطبرًا على نوائب الدهر، مكافحًا لأجل أسرته بكدٍ حتى الرمق الأخير من حياته، ولو قُدّر له أن يختار ميتة هنية، لمات فى العراء بطلًا مثل تولستوى.

فى فقرة من أشد الفقرات جرأة فى «الإخوة كارامازوف» نقرأ على لسان إيفان وهو يخاطب الشيطان المُتخيّل (أو الحقيقي، من يدري؟):» ستبقى بالنسبة إلى حقيقتان، واحدة هناك،عندهم فى السماء، وهى الحقيقة التى ما زالت مجهولة لى تمامًا، والأخـرى حقيقتى أنا. ولا يدرى أحد إلى الآن، أيّ الحقيقتيْن أشرف».  
لكن ربما نرى لاحقًا فى نهاية هذه السطور إلى أى الحقيقتيْن كان ينتمى تولستوى ودوستويفسكي.  ليس هذا – فى قراءتي- عملًا سيريًا لأهم كاتبيْن فى تاريخ الأدب: تولستوى ودوستويفسكي، وإنما هو عمل عن المصالحة بين الأضداد. صحيح أن الموضوع قُتل دراسة على يد مئات الباحثين، أشهرهم نابوكوف (المتجنّى على دوستويفسكي) وغيره، لكن لا بأس من ترديد اللحن الجميل فى أوقات هيمنة الرداءة. 

 وَفق المؤلف لا يوجد كاتبان أكثر قربًا من الداخل وفى الوقت ذاته أكثر تناقضًا لبعضهما البعض منهما، وهذا هو قوّة العمل أنه تورّط أو ربما وقع (عن وعى أو لاوعي) فى الإشادة بعظمة الكاتبيْن على حد سواء.

وأما عنى،وهذه فرضيتى الرئيسة التى أسعى إلى إثباتها عبر هذه المادة، فأرى العملَ إنفاذًا أدبيًا للمادة الأولى من مدوّنة أحكام كارل ج. يونج التى تنصّ على أن وجود العوامل المتضادة (المقدّس والمدّنس، الإنسان وظلّه، الوعى واللا وعى،الزيت والنار) هـو المبدأ الراسخ فى الكون.

وأن الحكمة الحقيقية تكمن فى المصالحة بين الأضداد، يجزم يونج أن حـضور الله يتجلّى فى أبهى صوره داخل النفس الإنسانية، أو باللاتينية فى مبدأ coincidentia oppositorum (وحـدة الأضداد).

ويشهد تاريخ الأديان فى مجملها على حقيقة أن مبدأ وحدة الأضداد هـو أقدم المظاهر الدالة على وجود الله، أو كما يقول عبد الجبار النفّري: «مَن لم يرنى من وراء الضدَّين رؤية واحدة ما رآنى (موقف الرفق).

«وقال لى إذا كنت عندى رأيتَ الضدين والذى أشهدتهما فلم يأخذك الباطل ولم يفُتك الحق» ( موقف المطلع). هل من قبيل المصادفة أن تاريخ ميلاد دوستويفسكى  هو 9 نوفمبر، وأن تاريخ وفاة تولستوى 20 نوفمبر؟ 
 أتكلم هنا عن كتاب تولستوى ودوستويفسكى: الحياة والإبداع لدميترى ميريرجكـوفسكى،بترجمة ممتازة للأستاذ تحسين رزاق عزيز (دار المأمون للترجمة والنشر 2021). صحيح أننى فى البداية شعرتُ بميل المؤلف إلى جانب دوستويفسكى قليلًا (وقد اعترف الرجل صراحة بذلك) إلا أن الرجل عَدل الكفّة وعاد واعترف (ص 136) بأنه عندما ينظر إلى وجه كل واحد منهما على حِدة، يمكن الحُكم عليهما ومقارنتهما، و تفضيل أحدهما على الآخر، لكن عندما يراهما معاً لا يعود يعرف أيهما أقرب إليه، وأيهما يحبّ أكثر. وأنا كذلك. 


دوستويفسكى لا يحبّ الحديث عن نفسه، على العكس من تولستوى. يلاحظ ستراخوف (ناقد أدبى ومؤلف كتاب ذكريات دوستويفسكى): «لم يُلاحَظ عليه قط أى حزن أو مرارة من المعاناة التى تحمّلها، ولم يكن ظلًا للرغبة فى أداء دور المتألّم، بل على العكس، بدا مبتهجًا ونشيطًا». 


لم يكن الرجل يعرف كيف يثير الفضول بحياته الخاصة، لديه القليل من فضح الذات، كما لديه القليل من اللوم، برغم ظروف حياته القاسية وحُكم الإعدام الذى نجا منه فى اللحظة الأخيرة.

وهذا ما يعجبنى فى شخصية الكاتب. أنه «رجـل» بالمعنى الأخلاقى/السلوكى الواسع للكلمة، ليس شكاءً بكاءً يولول على الهيافات فى الحارات وعلى المنصّات. اللحظات التى قضاها فى انتظار الموت المحقق كان لها تأثير لا يُمحى على حياته الروحية اللاحقة بعد أن فهم شيئًا لا يفهمه الشخص الذى لم يختبر انتظار الموت. 


قِبَلَ دوستويفسكى حكمَ الأشغال الشاقة ولم يشتكِ منه حاول أن يسمو على ذكرياته وأن يعظّمها، رأى فى التجربة درسًا من دروس القَدَر، لكنه دَرس الخلاص. قال كلمة، والله، لم أرَ ما يضايهها فى الأدب روعةً وقوة وعظمة بعد الكتب المقدسة، رسالة إلى أخيه من سيبيريا:» أنا لا أشتكى،فهذا صليبى الذى أستحقُه» (ص 98). كان دوستويفسكى يحمل صليبه الذى يستحقّه ولم يشكُ منه مرة واحدة.


أما تولستوى – والكلام هنا للمؤلف- فكل ما كان يحلُم به ويطمح إليه أن يتخلّص من نبذ الملكية والعمل الجسدى والاندماج وسط الناس، هذا كلّه كان على دوستويفسكى أن يختبره عمليًا، وبأشدّ قساوة ممكنة.

ومهما قطع تولستوى الأشجار لأجل الفقراء، ومهما حرث الأرض بعرق جبينه، فإن سعيَه لا يقارَن بالخطر الحقيقى من عدم العثور على لقمة يسدّ بها رمق أسرته (أقصد أسرة دوستويفسكى). 


يذهب المؤلف إلى أن دوستويفسكى كان فى هذا الصدد أكثر سعادة من تولستوى،لأن القَدر أرسل له فرصة لتجربة الأشغال الشاقة وحاجات البشر العاديين ليس من خلال الأفكار المجردة، بل عبر القرب الحقيقى من الموت وهو يقف على سقالة الإعدام، أو وهو يرهن سرواله وملابس زوجته ليأكل.

ويذهب المؤلف أيضًا إلى دوستويفسكى لا يحتاج إلى التأملات المجردة التى تدعو إلى نبذ الملكية وظروف المجتمع الثقافى،فهو نفسه منبوذ. أما تولستوى فقد قدّمَ حسابًا صحيحًا ودقيقًا، ولكن فى الحقيقة، تبيّن أنه غير مثمر لحياته، يضيف المؤلف نصًا:» إننا نشعر أن ثمة فارقًا كبيرًا فى الأصالة، إن لم تكن فى الأفكار والنيّات، ففى الأفعال والأحاسيس». 


فى أحيان كثيرة تميل الكفّة لصالح دوستويفسكى،وهذا لا يُعجبنى،أو أقول لا يبرز الحقيقة الكليّة الشاملة لكليهما. تصادفَ وأن اطلعتُ مؤخرًا على كتاب «ليف تولستوى: الهروب من الجنة»، بترجمة نزار العيون السود، حيث نتابع الأيام الأخيرة من حياة تولستوى،وتحديدًا ملابسات هروبه من «ياسنايا بوليانا». 


مهيبًا وعظيمًا كان وصف مشهد هـروب شيخ طاعن فى السنّ، واهن القوى فى جنح الظلام من وراء زوجته، ثمّ يأس الزوجة من هروب زوجها (الذى كان متوقعًا من زمان)، وكلمته القاسية:»أرجوكِ..لا تلحقينى إذا ما عرفتِ مكاني»، هذا الهروب البطولى النبيل، فى الليلة المصيرية 28 أكتوبر 1910 يعادل – فى ظنى - كل ما كتبه الرجل، وكل ما كتبَه الكُتاب على مـرّ العصور. 


كان هـروب تولستوى من حياته هـو ترجمة أمينة لآية سفر الجامعة:» وجهت قلبى لمعرفة الحكمة ولمعرفة الحماقة والجهل فعرفتُ أن هذا أيضا قبض الريح» (17:1). 


 لم يكن تولستوى يهرب من الصعوبات، على العكس، فى سنواته الأخيرة كان يحمد الله عندما يرسل له النوائب والمصائب، وكان يتقبّل بقلب خاشع أية منغصات حياتية. يرى المؤلف أن هروب تولستوى كان مظهر ضعف، لكن أرى العكس، أراه مظهر قوة أبرَزَ معدنه الحقيقى فى أن يخطو خطوة شجاعة ليجتاز الجسر.

وفى هذه اللحظة تحرّرَ تولستوى،وكان هروبه عملًا تحرريًا، يختم به حياته بطريقة لائقة به، شىء على طريقة أفيال فتحى غانم. فى رسالة من بين عدّة رسائل وداع إلى زوجته قال:» لم أعد أستطع العيش بعد الآن فى ظروف البذخ والفخامة التى عشتُ فيها، وأفعل ما يفعله الشيوخ المتقدمون فى السن، يخرجون من الحياة الدنيوية المدنية ليعيشوا آخـر أيامهم فى العزلة والسكينة». هل من تفسير باطنى للمسألة؟
فى كتاب «عن الحياة – بحث فى طبيعة الحياة ومغزاها» بترجمة بارعة للكاتب والمترجم المصرى يوسف نبيل، وفيه يبثّ الرجل أفكاره ورؤاه حول الحياة ومغزاها نقرأ الفقرة التالية (ص 64):»لا تولد الثمرة لأنها تود أن تُولَد، ولأن من الأفضل لها أن تُولد، بل لأنها نضجَتْ، ويستحيل أن تواصل وجودها السابق. عليها أن تُسلم نفسها لحياة جديدة، ليس لأن حياة جديدة تناديها وحسب، بل لأن الأمر يرتبط أكثر بزوال إمكانية مواصلة وجودها القديم». 


أقول ربما ارتأى تولستوى أنه صار من المستحيل عليه اجتياز الجـسر، والعبور إلى الولادة الجديدة (الموت) وفى قدميه نعلا الحياة القديمة. كان لا بدّ من خلع النعلين. كان لا بد لهذا الطود أن يموت ميتة لائقة بجلال قدرِه.

وما كان للفيلسوف الروسى الماجن، العمّ يروشكا، العائش خارج نواميس الإنسان وخارج الخير والشرّ بحسب المؤلف- إلا أن يموت هذه الميتة التراجيدية؛ ألا يموت فى فراشه حتف أنفه كما يموت البعير. أظنّ لو قُـدّر لرجل حقيقى أن يختار عيشة سوية، لعاشَ عيشة دوستويفسكى،مكافحًا، مصطبرًا على نوائب الدهر، مكافحًا لأجل أسرته بكدٍ حتى الرمق الأخير من حياته، ولو قُدّر له أن يختار ميتة هنية، لمات فى العراء بطلًا مثل تولستوى. 


ثمة نقطة شجعتنى قليلًا على اختيار تشبيه «الزيت والنار» عنوانًا لهذه المادة، والتشبيه نفسه ابتكره المؤلف، ولكن فى سياقٍ آخر متّصل بوصف أهل الثقافة بأنهم زيت بلا نار. لكنى لويتُ عنق التشبيه ليلائم غرضى.الزيت والنار لا يجوز أن يلتقيا، ولو حدث والتقيا لنشب حريق.


 فى كتاب «أبى فيودور دوستويفسكى» لِـلوبوف فيودوروفنا دوستيوفسكايا، ابنة دوستويفسكى (ت: د. أنور محمد إبراهيم، 2020)، نقرأ أن كل واحد كان يُكنُّ إعجابًا عظيمًا لصاحبه، كانا يتبادلان المجاملات عن طريق صديق مشترك هو نيكولاى ستراخوف، لكنهما لم يلتقيا قط. نقرأ فى صفحة 286: «لماذا؟ يُخيّل إليَّ أنهما كانا يخشيان بدرجة مميتة أن يدخلا فى شجارٍ بمجرد أن يلتقيا، كان كل منهما يُقدّر موهبة الآخر تقديرًا رفيعًا، لكن أفكارهما ورؤيتهما للعالم كانتا على طرفى النقيض».

وعندما مات دوستويفسكى كتبَ تولستوى (صفحة 289 من الكتاب نفسه): «علمتُ بوفاة دوستويفسكى،يُخيّل إليَّ أننى فقدت إنسانًا عزيزًا، أكثر الناس الذين كنتَ بحاجة إليهم». لم أستغرب أن تولستوى لم يحاول رؤية أكثر الناس الذين كان بحاجة إليهم، لأنه فنان، رجل بيفهم. فى تراثنا الشعبى المصرى فزورة تقول: «بيقولك إيه؟ بيقولك اثنين إخوات ساكنين جنب بعض...وعمرهم ما شافوا بعض؟ يبقى إيه؟ يبقى عينيك يا ناصح». 


الآن بدأت أتنبّه إلى سـرَّ إعراضى منذ سنوات – عن جهلٍ وثقافة ضحلة- عن أدب تولستوى،وهو أننى لم أفهم. حـاجز غامض طالما وقف بينى وبينه، برغم أن أول ما قرأتُ فى حياتى،وكنت فى العاشرة، نسخة من سلسلة كتابى من الحرب والسلم بإعداد حلمى مراد، اشتراها لى أبى من فرشة كتب على ناصية ميدان الجامع فى أواخر الثمانينيات.

ولسبب مجهول ابتعدت عنه. ولما كبرت فضّلت عليه دوستويفسكى،ثم اكتشفت شيئًا مؤخرًا؛ تولستوى يذكّرنى بأبي: تجربة الحياة الطويلة، الهاديء المتجرّد من الانفعالات والأهواء.

أما دوستويفسكى،برج العقرب، فهو يمثّلني: الانفعالى الذى لا يخلو من عاطفة وتسرّع وتهوّر، كما أن دوستويفسكى هو الكاتب الذى يُشعركَ أن ترهلات الرواية قد تكون ميزة جمالية، أو لو اقتبست من يوميات مصطفى ذكري:» نحمد الله أن سرعته فى الكتابة، وميلودراميته، وروحانيته العاصفة، وتعثراته المؤثرة، وسوء بناء رواياته، كانت سرّ فنه العظيم». 


السبب الثانى أن موهبة تولستوى السردية أقوى وأشدّ تماسكًا، وكلامَه الوعظى لا يشوّه أدبه كثيرًا. هناك شعور بأنك لا شىء أمام فخامـة المعمار الروائى عنده، وكأنك تقف أمام Kölner Dom؛ شىء مـرعب لا تستطيع مجاراته، أنتَ (أقصد مهما كنتَ من أنتَ باستثناء جويس وكونراد فى اعتقادى) نكرة، لا شىء على الإطلاق.

واصلتُ البحث حتى عثرتُ على تفسير وجيه عند هارولد بلوم  فى المعتمد الغربى فى الأدب، إذ يقول: «ربما ثمة شىء فى تولستوى لم يتخلّص منه، وهو الرغبة فى مضاهاة  بل تخطّى هوميروس والكتاب المقدّس».

ومعه حق؛ تولستوى مغرور، مزهوّ بذاته مثل جـوته، بارد المشاعر بحسب بلوم، لكنه طود ثابت لا يهزّه ريح، ودوستويفسكى تسخن مشاعره بسرعة ثم تبرد بسرعة أكبر، لكنه لا يضمر ضغينة لأحد.  هل كــفَّر تولستوى عن غروره وصلفه بفعل الهروب؟ هذا متروك للمؤرخين والمتخصصين ولا يعنينى كثيرًا. 


ها نحن أولاء أمام نمطين رفيعين من الأدب: أدب يشوبه الانفعال والترهّل والتسرّع وقسوة الشـرّ، وأدب مشحون بالرصانة والرزانة والعُمق والرسوخ. وها نحن أمام نمطين متباينيْن من أنماط الحياة: حياة استمرّت صاخبة مؤلمة طافحة بالمعاناة ومات صاحبها على فراشه بعد قراءة آيات من الإنجيل بحسب مذكرات ابنته.

وحياة أخرى جرَّب صاحبها رغـد العيش وملذات الدنيا ومات غريبًا بعيدًا عن أهله (باختياره). يقول مونتينى لا أحد يستطيع أن يحكم على حياة إنسان إلا فى نهايتها. علمتَ فالزمْ. كلاهما كشف عن جانب مظلم وآخـر مشرق من جوانب الحياة. أفكُّر لو أنى وضعت كفّة دوستويفسكى/تولستوى أمام كفّة توماس مان/هسّه، لرجحتْ كفّة الروسيَيْن بلا ذرة تردد، الحياة شىء والأدب شىء آخـر.

أحيانًا تكون حياة الكاتب أعظم من أعماله (حياة جورج أورويل أمام رواياته المتواضعة للغاية)، وأحيانًا تكون أعماله أعظم من حياته (كتوماس مان وكوتسى مثلًا)، وأحيانًا يكون الفنّ قويًا صاخبًا مثل حياة صاحبه (دوستويفسكى،تولستوى.

وأضيف كونراد وأسرار حياته الغامضة). وربما هذا ما سيضمن للحضارة الروسية الصمود أمام فضلات ما بعد الحداثة الغربية وتشوّهاتها. وتبدو حياة تولستوى وحياة دوستويفسكى رائعتيْن وإنْ بشكل متعاكس، وذلك بسبب غلبة الجسد على الروح عند الأول.

وغلبة الروح على الجسد عند الثاني. وبذلك فإنهما تكملان وتتمان بعضهما البعض، وكل واحدة ضرورية للأخرى. فى نهاية الكتاب يورد المؤلف فقرة، ربما تختزل كل شىء فى حقيقية بسيطة مؤداها أنهما رائعان هكذا فى تناقضهما الأبدى وفى وحدتهما الأبدية. تولستوى هو عرّاف الجسد، ودوستويفسكى هو عرّاف الروح، واحد يسعى إلى بعث الروح فى الجسد، والآخـر يسعى إلى تجسيد الروح، وإن أملنا (ربما كان الأجدر بالمؤلف أن يقول وعينا) يكمن فى حقيقة أنهما اثنان وأنهما معًا، وأنه لا يُمكن أن يكون أحدهما دون الآخـر. 


لنعد إلى بداية هذه المقالة، أقصد الفقرة المأخوذة من كارامازوف على لسان إيفان. فى اعتقاد المؤلف كانت هاتان الحقيقتان (الإيمان/الشك) متعايشتيْن حتى عند المؤمن الورِع ليف تولستوى،ليس فى وعيه المرئى،بل فى الاستبصار فقط (صفحة 272)، لكن تولستوى لم يكن يملك القوة والشجاعة اللازمة، مثلما عند دوستويفسكى،للنظر فى عينى (الإيمان/الشك) نظرة مباشرة والإفصاح عن ذلك إفصاحًا مبينًا. هل هذا صحيح؟ أظن أن الجزم بالأمر يتجاوز قدراتى المتواضعة، ربما يحتاج إلى فيلسوف متخصص أو عالم نفسى.


تجربة الحياة وحدها هى ما تكشف لكَ حقائق الأشياء. تقرأ فى البداية، ربما لا تفهم، ثم تمرّ بتجارب تشرح لك ما قرأتَ. قبل الحُكم عليه بالإعدام كان دوستويفسكى يكرّر فى قلبه: «ارحمنى..كما رحمتَ اللص الذى خلّصتَه». كان يقصد لصّ اليمين بالطبع.

وفى الفصل الأخيرة من مذكرات ابنة دوستويفسكى (مصدر سابق) نقرأ أن دوستويفسكى فى لحظات احتضاره اعترف وتناول القربان المقدّس وأوصى أفراد أسرته ألا يقعوا فريسة اليأس لو ارتكبوا خطيئة، وأن الله سيفرح بعودتهم كما يفرح بعودة الابن الضال. ميتة هادئة تبرّد أوار حياة مضطربة.

وهى نقيض طريقة اختيار تولستوى لميتته لما أحسَّ بدنوّ أجله. لكن برغم هذا التناقض حتى فى طريقة الموت ألا نرى وحدة الأضداد من وراء كل ميتة؟ ألا نرى قاسمًا مشتركًا خفيًا يُدرك بالقلب ولا يُقال باللسان؟ هل كان كلاهما لصّ اليمين على طريقته؟ 
يُورد المؤلف فى الصفحات الأخيرة قصيدة جميلة لبوشكين، أراها مثالًا حيًا لوصف طبيعة الرجليْن، تقول: «لقد كانا صورة لشيطانَـيْـن اثنين، أحدهما صنم من دلفى،وجه فتى كان غاضبًا، مفعمًا بفخرٍ رهيب وكله يلهث بقوة خارقة، والآخـر مثال مريب وكاذب شهوانى،كاذب، لكنه مليح». هكذا هما، هذا الإلهان، أو الشيطانان فى تناقضهما الأبدى وتوافقهما الأبدى.


ذكّرنى فخ التناقض الظاهرى بين تولستوى ودوستويفسكى بأربعينى هاوٍ كتبَ رواية واحتار فى نهايتها حتى ألهمه السيد يونج النهاية فى حُلم فقال: «فى مذهبنا إيفان وإليوشا واحد يا غشيم». فى الأرجح بصيرة دوستويفسكى هى نفسها بصيرة تولستوى،كلاهما لص اليمين، وكلاهما فَهم وقفزَ إلى الأعلى فى اللحظة الأخيرة.  

اقرأ ايضا | 200 عـــام ميـــلاده دوستويفسكى .. مفتاح فهم الحياة