عمرو الخياط يكتب: الجاسوس العلنى

عمرو الخياط
عمرو الخياط

فى عصر التكنولوجيا لم تعد أجهزة الاستخبارات فى حاجة إلى عناء التجنيد السرى الذى قد يُعرَّض عملاءها إلى مخاطر جسيمة، كما قد يُعرَّض دولها إلى أزمات دبلوماسية، بعدما أتاحت وسائل التواصل الاجتماعي وأجهزة الهواتف الذكية وفضاء الإعلام المفتوح إمكانية كثيفة لزرع عملاء معلنين من خلال كوادر بشرية يتم تضخيمها كرموز دولية متسلحة بدعاوى الحرية التى تتعامل مع قواعد النظام والقانون باعتبارها قيودا تنتقص من حقوق الإنسان . لقد أصبح الحق فى التخابر العلنى أمرا مستباحا لا يعرف حدودا لفكرة الانتماء أو الوطنية.

عمليات التجنيد المعلنة للكوادر البشرية التى يتم تضخيمها كرموز لمبادئ الحرية الانتقائية والموجهة تتيح لتلك الأجهزة الدفاع المباشر عن العملاء، بعدما تم تحويل أساليب التجنيد من عمل استخباراتي إلى تيار فكرى يستطيع أن يجاهر أمام المجتمع بالأفكار والمعاني المراد زرعها وترويجها وتحويلها إلى سياقات اجتماعية وسياسية تظهر عمليات مواجهتها كسياسات قمعية وقسرية تستوجب التصدى لها بهدف غل أيدى الأنظمة والمجتمعات عن التصدى لتيار العملاء الجدد، وفرض عملية انسحاب إجرائى وقانونى فى مواجهة موجات الاختراق المنظم.

تتيح عمليات الجاسوسية العلنية لأجهزة التجنيد والتشغيل مزايا عديدة تسمح باستخدام غير شريف لمبادئ ومواثيق القانون الدولي فى الدفاع عن عملائها، كما تسمح للأنظمة السياسية التي تتبعها تلك الأجهزة فى التظاهر طوال الوقت بمظهر المدافع عن الحقوق والحريات والإنسانية، فضلا عن منح أدوات للضغط المتواصل على دول وأنظمة بعينها لفرض أجندات معينة أو لتوجيه قسرى نحو سلوك سياسى أو اقتصادي محدد حتى لو تعارض مع أولويات الأمن القومي للدول والأنظمة والمجتمعات المستهدفة.

كما أن عمليات التجنيد المعلنة تتيح للعملاء حرية الحركة فى الأوساط الاجتماعية والثقافية والسياسية لنشر الأفكار المراد ترويجها.

عديدة هى مسارح التجنيد العلنى فقد تجدها داخل منظمات حقوقية، أو قنوات فضائية، أو فى أروقة حزب سياسى، أو من خلال مراكز ثقافية أو مؤسسات فنية، تتيح جميعها تدفقات مالية قد تبدو منطقية ومبررة من أجل ضمان الرعاية الاستخباراتية اللازمة لتثبيت العملاء.

وتحت عناوين متعددة «ناشط سياسى»، أو «خبير استراتيجي»، أو «مؤثر اجتماعي»، أو حتى رمز دينى، تجرى تفاصيل كثيرة يديرها المشغل الاستخباراتي بدقة لنشر قواعده البشرية المجندة وتحويلها إلى رموز لتيار فكرى، ثم منحها القدرة على أن تتحول لمحطات بشرية قادرة على القيام بعمليات تجنيد محلية داخل مجتمعاتها.

لا تكتفى أجهزة التشغيل بعملية التجنيد فقط، بل تدير خطة منظمة لنشر عملائها المعلنين كقواعد بشرية فى أركان المجتمع والمؤسسات ومراكز التفكير، ثم تربط مجموعات منهم بشبكة فكرية تدعمها تواصلات معلنة وتساندها وسائل إعلام لإضفاء زخم على حجم التأثير الجماهيرى، ثم يستخدم هذا الزخم الجماهيرى كوسيلة حماية ذاتية للعملاء بعدما يتم تضخيم الحالة الأيقونية لهؤلاء العملاء.

بمرور الوقت تتمكن تلك الشبكة من إحداث عملية «تطبيع استخباراتى» تنجح فى تقديم «العمالة الأجنبية» كوجهة نظر لتيار فكرى ينادى بالحريات.


فرض حالة ما يسمى بـ «التطبيع الاستخباراتى» على المجتمع ولو بشكل نخبوى يتيح لأعضاء شبكة العمالة حرية الظهور الإعلامى، كما يتيح لهم التواصل مع السفارات الأجنبية تحت غطاء التواصل مع المدافعين الدوليين عن أفكار ومبادئ الحريات العامة، ولا يمنع من التقاط صورة هنا أو هناك ونشرها للتحايل على حالة الحياء الوطنى التى قد تمثل عقبة أمام بعض الشرائح الجماهيرية الوطنية التى لازالت غير مستوعبة لفكرة الاستقواء بالعنصر الأجنبى على مؤسسات الدولة، لكن الصورة المنشورة لا تنطق بالحقيقة ولا تبوح بما تم الاتفاق عليه من تكليفات فى أروقة السفارات أو أفنيتها الخلفية.

بعد محاولات متكررة لترسيخ عملية التطبيع الاستخباراتى مجتمعياً تتمكن أجهزة التجنيد والتشغيل من منح أنظمة دولها أدوات جديدة للتدخل فى شئون الدول الأخرى والضغط عليا فيما يمكن تسميته بـ«دبلوماسية التخابر العلنى».

عمليات التدخل تستخدم العملاء والمبادئ الإنسانية كوسيلة لابتزازات دولية للأنظمة المستهدفة، ولضمان استمرار هذا الابتزاز فإن عملية «التمكين الاستخباراتى المجتمعى» لا تتوقف أبدا، كما أن عملية التجنيد لا تتوقف وتتحول إلى حالة انشطارية لتصعيب مهمة مقاومتها.

فى ظل الإصرار على فرض هذه الحالة دون توقف تظل شبكة العملاء المعلنين تسعى لأن تتحول لجزء من النسيج المجتمعى باستقطاب بعض الرموز المؤثرة، وخاصة الفنية لتقديم أشكال العمالة فى قوالب فنية وثقافية تساهم فى هدم ثوابت أو فى تكريس مستجدات لغزو ثقافى جديد لخلق محيط إدراكى لتقبل فكرة التجنيد كتيار فكرى أو ثقافى قادر على كسر حواجز وموانع مفاهيم الانتماء والوطنية.

بعد كل ذلك لا تندهش إذا وجدت كبار المسئولين ورموز الأنظمة الدولية وقادتها وقد اتفقوا على مساندة ودعم أحد المحكوم عليهم فى قضية للتحريض الصريح والعلنى والمباشر على القتل والفوضى والإرهاب، لتوجيه رسالة واضحة بأننا نحمى عملاءنا ونكفل الرعاية اللاحقة لعملية التجنيد ولا نتردد فى منح جنسية جهاز التشغيل لحماية العميل ونقر علانية بمبدأ «التجنيد بالتجنيس».