الأديب الكبير بهاء طاهر: في رحلة البحث عن الحب والذات.. الحضارة الفرعونية إجابة عن أزمات الواقع

الأديب الكبير بهاء طاهر
الأديب الكبير بهاء طاهر

يتميز المشروع الإبداعى للأديب الكبير الراحل بهاء طاهر بعدد من الأبعاد المهمة التى تشكل خصوصيته، وهذه الخصوصية تتأسس على النوعية لا الكم، فهو عبر عدد ليس بالضخم من المجموعات القصصية والروايات رسخ اسمه من وقت مبكر فى الحياة الأدبية المصرية والعربية، بل أكد أنه صاحب أسلوب أدبى متميز، ولعل هذا ما جعل أديبنا الأبرز نجيب محفوظ يهتم بما يكتب بهاء ويسأل عنه بحسب بعض المرويات المنشورة المنسوبة لنجيب محفوظ.

والحقيقة أن هذه الأبعاد والسمات تمثل محددات ثابتة لمشروع بهاء طاهر وخطابه السردى من البداية للنهاية، ويمكن إجمالها أو تعديدها على النحو الآتي:

أولا: التنقيب فى الحياة الفرعونية وأبعادها وملامح الحضارة المصرية القديمة سواء عبر التصوير التاريخى أو عبر تشبيكها مع الحياة المعاصرة والإحالة إليها عبر الاستكشاف الأثرى أو الدراسات التى تقوم عليهم أو عبر اهتمام بعض شخصياته المعاصرة بالحضارة الفرعونية. 


ثانيا: لمحات من السحرية أو الغرائبية والفنتازيا المؤسسة على سمت حديث أو منطق جديد ومغاير، فتعتمد الغرائبية لديه على فكرة اللغز أو التنقيب عن سر مجهول، والحقيقة أن هذه النقطة لها صلة بالنقطة الأولى لأن جزءا من البحث عن المفقود أو الغامض أو طابع الإلغاز يتأسس لديه على كشف لغز يرتبط بأثر قديم أو الولع بالحضارة الفرعونية أو الانشغال بكشف أثرى مهم فيها، ونجد مثال ذلك لديه فى جعله مقبرة الإسكندر فى الواحات جزءا مهما من الغموض فى رواية واحة الغروب.

وكذلك انشغال بعض الشخصيات وولعها بالحضارة الفرعونية وألغازها يفيد كثيرا فى إنتاج هذه الحالة من التشويق والغرائبية أو الإلغاز والبحث عن المجهول والحقيقة أنها حال مفيدة جدا على المستوى الجمالي. ونجد مثاله كذلك فى بعض قصص المجموعة القصصية الثالثة له «أنا الملك جئت».

وذلك عبر شخصية فريد الطبيب المغرم بآثار الحضارة الفرعونية واكتشاف بعض مواقعها المجهولة فى الواحات الغربية فى الصحراء. وبرغم أنه طبيب لكنه يمكن أن يكون باحثا فى الأنثروبولوجى وفى التراث الإنسانى.

وتشاركه هذا الغرام بالحضارة الفرعونية حبيبته الفرنسية مارتين التى لم يوفق فى الارتباط بها فما كان أمامه غير أن يعوض هذا الإخفاق بأن يحافظ على الاهتمامات المشتركة وأن يصبح النجاح فى الاستكشاف بديلا لخيبة الحب.


ثالثا: الطابع العلمى أو المعرفى أو اعتماد السرد على جماليات المعرفى وأن يطرح شيئا من المعلوماتية فى سياق السرد، ونجد مثال ذلك فى أكثر من جانب، وبخاصة المعلومات المرتبطة بالطبيعة والبيئة، فنجده واحدا من الكتاب المهمين المعبرين عن الصحراء أو عن استكشافات الجغرافيا أو الطبيعة فى مصر، بل إن بعضها يرتبط بالحيوانات وأنواع نادرة من النباتات.

ونجد أمثلة كثيرة لهذا فى رواية واحة الغروب التى جسد عالمها بالتفصيل وكشف عن عاداتها وتقاليدها وأنماط الحياة فيها والتنوع الاجتماعى أو الجذور الإثنية والعرقية لسكانها، وكذلك أماكن المياه وأنواع النبات والأشجار والنظام البيئى بشكل أقرب للشمولية.

وهو ما يعكس حقيقة أن السرد وراءه حال من البحث والقدرات المعرفية المهمة التى تمثل بعدا جماليا إضافيا بجانب حال الصراع والتنوع الإنسانى ورحلة البحث عن الحب أو التحقق والبحث عن الذات فى هذه الرواية المهمة. 


رابعا: الواقعية الرمزية، والحقيقة أن هذه النقطة تمثل واحدة من الأنساق المهمة فى استراتيجيته السردية أو ملامح خطابه السردى، فلا يمكن أن نجد لديه سردا لا يكتنز طاقات دلالية أخرى وإشارات مهمة غير مباشرة.

وكافة التكوينات الاجتماعية التى شكلها لها أبعادها الرمزية أو نواتجها الفكرية، فهو يحاول فى أغلب أعماله السردية وعبر أنماطه الإنسانية أن يعبر عن تحولات الحياة المصرية ويمكن أن تقرأ كثير من أعماله القصصية بشكل خاص بطابع رمزى خالص مثل قصة «محاورة الجبل» فى مجموعة «أنا الملك جئت» أو قصة «نوال» وهى آخر قصة قصيرة منشورة له فى عام 2021، وتعد قصة «سكان القصر» من مجموعة «لم أعرف أن الطواويس تطير» الصادرة 2009 حالا مثالية لهذا السرد الذى يجمع بين الواقعية والرمزية، أو يتم عبره تشكيل بنية واقعية تحيل على أبعاد رمزية مهمة أو ثرية بالدلالات، فالقصر بذاته دال على أشياء كثيرة جدا، ليس فى الحقيقة على السلطة السياسية فقط كما قد يتصور البعض فى قراءة متعجلة، ولكنه دال على كافة أشكال الغموض والماورائيات التى تحكم العقل أو تقيده وتحد من قدراته.

ويتمثل ذلك فى عدد من الأنساق والأنماط السلطوية المختلفة مثل السلطة السياسية أو الدينية أو الخرافة وغياب العلم أو الانشغال بالماورائيات وما بعد الموت بما يصنع حالة من العجز أو الضعف الدائم أو المكبل للقدرات الإنسانية. 


من بين هذه الأبعاد السردية المهمة والممتدة فى مشروع بهاء طاهر السردى يمكن أن نتوقف بشكل مطول مع البعد الأول وهو الانشغال بالحضارة الفرعونية وملامحها، ولماذا كان يرغب فى استعادتها وتجسيدها فى سرده، والحقيقة أنه يبدو أن هناك أسبابا وجذورا كثيرة منها ما هو نفسى أو ارتبط بسياقه أو اهتماماته، فلا يمكن أن نغفل مثلا أنه من جذور عائلية من مدينة الأقصر.

وأن والده الصعيدى الذى عاش فى القاهرة لا يمكن أن نتخيل انفصاله عن هذه الجذور، ويبدو واضحا كذلك أن صلة بهاء طاهر نفسه بالصعيد ومدينة الأقصر الأثرية كانت مستمرة وأنه ظل على تواصله وامتداده مع مدينته التى اعتز بها.

ويمكن أن نستدل بدليل آخر وهو تخصيصه لجائزة باسمه مقصورة على المبدعين من أبناء الأقصر وفاز بها بعض من الكتاب والأدباء الشباب، وهو ما يعنى أن الأديب الكبير المولود فى مدينة الجيزة لم ينفصل عن مدينة الأقصر وجذوره القديمة أبدا، وأن الصعيد حاضر فى كثير من أعماله وبخاصة فى خالتى صفية والدير.

وبعض القصص القصيرة التى كان يشير فيها إلى الآثار الفرعونية والحضارة المصرية القديمة. فالحقيقة هذا محفز نفسى مهم نابع من السياقات الثقافية والتربوية التى حكمت حياة بهاء طاهر وحددت مساره واهتماماته أو تشكل عبرها وعيه ولا وعيه مما يحكم بعد ذلك العملية الإبداعية ويمكن أن نتلمس فيه الجذور التكوينية للأنساق الفكرية والجمالية فى إبداعه.


 فى قصة «أنا الملك جئت» كانت الحضارة الفرعونية تمثل أملا ومخرجا وحلا من الأزمة التى يعيشها فريد، ويحاول عبرها أن يهرب من واقعه القاسى الذى أخفق فيه فى أن ينال الحب الذى يريد أو الذى يراه معادلا لحياته ووجوده وكينونته.

ولهذا يمكن أن نقول إن هذا التوظيف الرمزى دال على أحد المداخل المهمة لفهم ومقاربة دلالات عالم الحضارة الفرعونية فى قصصه، وهو ما يعنى أنه يراها أملا أو مخرجا أو حلا لأزمات الواقع وإشكالاته، وبخاصة وأن شخصية فريد الطبيب والباحث الذى كان ينشر مقالاته فى مجلة الجمعية الملكية البريطانية كانت السمة الأساسية فيها هو البحث أو الطابع العلمى والمعرفى.

فهو الذى يجرى أبحاثا خاصة ومختلفة أو متميزة فى طب العيون تصل إلى حد بعيد من الحداثة والتطور، ويبدو بوضوح أن ثقافة بهاء طاهر الكبيرة وقراءته فى لغات أخرى كانت الصانع الأساسى لهذا التحول الجوهرى فى إبداعه بحيث جعلته يطرح نماذج إنسانية كاملة الأبعاد والملامح وذات ملامح واضحة فى الجانب العلمى.

ولم يكتف بما هو سائد فى السرد العربى من تشكيل شخصيات ذات ملامح اجتماعية وملامح نفسية فقط، فهذا الطبيب الذى يمثل تحولا كبيرا عن طبيب يحيى حقى العائد من أوروبا فى رواية قنديل أم هاشم يمثل نمطا مختلفا وخاصا ببهاء طاهر ويعبر عن بصمته ويمثل نقلة عن نموذجه السابق لدى يحيى حقى، وذلك عبر هذا الارتباط بالحضارة الفرعونية التى فى قراءة العمل تؤشر نحو ارتباط الثقافة الأوربية بالفرعونى عبر هذا الطابع العلمى وعبر الدراسات والأبحاث والاستكشاف.

وفى الرواية إشارة كذلك إلى أن هذا الولع لدى الأوربيين يجب أن يكون الأولى به أبناء مصر من المثقفين أو الدارسين العارفين بالعلوم الحديثة. والطريف أو الأكثر وعيا من الناحية الجمالية أن ما أفاده بهاء طاهر من البعد الفرعونى ليس فقط هو الجانب العلمى أو المعرفى أو فكرة الهروب من الضعف والاحتلال وهيمنة الإنجليز على مصر ، ولكن كذلك أفاد بعدا مهما وهو الواقعية السحرية أو الغرائبية، حيث الملك الذى يأتى فى الأحلام ويساعد على فك رموز اللغة.

وكذلك سحرية الاستكشاف فى ذاته وغموض عالم كامل كان مطمورا تحت الرمال فى معابد متنوعة ومختلفة، فإذا كانت المعابد الفرعونية يغلب عليها المبنى المستطيل أو رباعى الأضلاع فإن هذا المعبد الذى اكتشفه فريد مربع خماسى أو سداسى الأضلاع.

وهو ما يشكل قدرا من الإلغاز أو يجعل القارئ واقعا تحت وطأة حال من الحيرة ويحاول أن يبحث عن حل لهذا اللغز ولو خارج حدود العمل السردى وهو أمر محفز ومفيد ويعلى من قيمة العمل الأدبي.


فى قصة أخرى فيها هذه الملامح الفرعونية أكثر حضورا وهيمنة وهى قصة «محاكمة الكاهن كاي-نن» نجد أحد أبرز التجليات الفرعونية الواضحة التى يحاول أن يسقطها على الواقع أو يحاول عبر هذا الخطاب السردى التاريخى مقاربة واقعه أو بعض إشكالات المجتمع المصرى من بعد الانفتاح.

وهيمنة التيارات الإسلامية عليه فى عصر السادات وكثير من سنوات حكم مبارك فى الثمانينيات، ويشير إلى حال ثقافية جوهرية وهى حال الفتنة والشتات وما يصنعه الكهنة من هذا الشتات أو دورهم فيه سواء بالسلب أو الإيجاب والحقيقة أن هذه القصة منفردة تستحق دراسة كبيرة ووافية تتناولها من جوانبها كافة.

ولكن أبرز ما يمكن أن نتوقف معه فيها هو أبعادها الدلالية وكيف جسدت رؤية ومنظور بهاء طاهر للحضارة الفرعونية، فمن النقطة الأولى وهى الخاصة بزمن القصة أو الحقبة التاريخية التى تتناولها نجد أنها تقارب فترة ما بعد (آخن_آتون) الذى دعا إلى دين مختلف.

وحاول توحيد آلهة المصريين فى آتون ومثل ثورة على الكهنة القدامى أتباع آمون ورع وهم الأساس الدينى لدى المصريين القدماء الذين كان فى معتقداتهم قدر كبير من التسامح والتساهل مع التنوع، إلى أن جاء آخناتون وحاول بالتعسف أن يجبرهم على هذا المسار الأحادى وليس التوحيدى كما قد يتصور البعض خطأ.

والحقيقة أن ثورة آخناتون لم تكن مقصورة على الدين بل فى الفن والتماثيل حاول أن يفرض نمطه الأحادى ووجهة نظره، وكان ذلك شاملا فى البناء والعمار والمدن وانتقل إلى تل العمارنة وهو ما صنع فتنة شاملة فى المجتمع المصرى جعلته مهددا ومعرضا للتفكك والانهيار التام وهى حال من الاعتساف الدينى والإجبار والكراهية أو التعصب التى كانت بخلاف السائد فى القيم المصرية، ومن هنا كان الإنقاذ على يد القائد العسكرى حور محب الوصى على العرش فى زمن القصة.

والذى صار ملكا بعد ذلك. والحقيقة أن المعالجة السردية للقصة كما فى خطاب بهاء طاهر السردى تمثل شكلا على قدر كبير من المثالية والتوازن فى عرض الأفكار بشكل معرفى ورؤية فلسفية متوازنة تدعم هذا المسار الرمزى فى العمل الأدبي.

 
لم يكن بهاء طاهر فى سرد هذه القصة منحازا لأى من الكهنة بل كان مشغولا بعرض فكرة كل واحد منهم، ولهذا فإن الكاهن الأكبر سمنخ يمثل حالا مثالية من الوعى والاستيعاب للخصوم ويشكل نقطة انطلاق نحو التسامح والتواصل والتقاء الخصوم، بخلاف هذين الطرفين الآخرين؛ الكاهن باط بانتهازيته وعنفه ورغبته فى التنكيل بالخصوم، ويبدو هذا جليا فى أنواع العذاب التى اقترحها لتكون مصير الكاهن كاي-نن الذى يمثل حالا من الخروج على الديانة المصرية وكان من بقية الكهنة المؤمنين بآخناتون ومبادئه. 


وتمثل هذه الأطراف الأربعة من الكهنة حالا من التنوع والتعدد فى الأصوات ووجهات النظر، وتشكل أنماطا إنسانيا مازالت باقية وربما نعانى منها حتى الآن، بين نمط تقليدى محافظ وشوفينى وانتهازى لا يقبل الآخر وطرف ثالث متوازن وهادئ وعقلانى يستوعب الحياة على نحو أفضل وأشمل هو الكاهن الأكبر سمنخ الذى ساعد كاى فى النهاية على الهرب من السجن.

ولم يدعه يتعرض للتعذيب أو الإعدام كما كان منتظرا أو متوقعا لكاهن خارج عن النظام الثابت، ورأى سمنخ فى دعوة كاي- نن الجانب المثالى والإنسانى والطموح نحو المعرفة والرغبة فى التجديد ونبل المقاصد، ولم يكن يميل إلى الاتهام أو إساءة الظن.

وبرغم أن الكاهن الأكبر مازال مطيعا للسلطة الأعلى ويستوعب أهدافها ويدرك مخاطر الفتن والتشرذم لكنه لم يكن أنانيا أو راغبا فى إيذاء الكاهن المختلف معه أو القضاء على حلمه أو فكرته. ومن هنا نجد أن بهاء طاهر مال إلى لمحة معينة فى التاريخ الفرعونى لها دلالتها أو قيمتها الإنسانية المتفردة وقابليتها للإسقاط على واقعنا الحالى سواء فى زمن القصة فى منتصف الثمانينيات.

أو فى اللحظة الراهنة التى نعيشها نحن الآن بعد مرور قرابة أربع عقود على صدور القصة، وهذا هو الإبداع الخالد الذى يمتد أثره عبر الزمن لأنه يقارب قيما إنسانية عامة ومطلقة ولكن عبر تمثيلات فردية وفيه قدر كبير من التشويق النابع من مقاربة البيئة والطبيعة الغامضة ويطرح فى قصته بعض ملامح الحياة الفرعونية وتقاليدها القديمة فى الحساب ومحاكمة الكهنة.

وريشة الإلهة ماعت التى تمثل أعلى درجة العدالة الاستثنائية أو العدالة المطلقة، وتقاليد هذه المحاكمات وكيفية تدوينها وتسجيلها لتكون تراثا للأجيال القادمة، ونلمس فكرة الامتداد الحضارى وفكرة مخاطبة الأجيال اللاحقة عبر الكتابة والتدوين.

وهذا ما تنبه له الكاهن الأكبر سمنخ الحكيم الذى كان مستوعبا لمخاطر الإساءة والتنكيل بالآخر وأن التاريخ ملك للجميع وأن الحقائق لا يمكن طمسها، ونجد فى القصة كذلك إشارة لوحدة الفنى والأدبى مع الدينى، فنجد فى القصة إشارة واضحة إلى كون الكاهن المجدد كاى نن لم يكن مجرد كاهن.

ولكنه كان كذلك شاعرا يوظف شعره لخدمة تصوراته ودعواته وفى هذا إشارة مهمة جدا لقيمة الشعر والإبداع الأدبى عموما وإمكانات توظيفه، والحقيقة كذلك أن القصة على هذا النحو تعكس وعيا شموليا من الأديب الكبير بهاء طاهر بأبعاد الحياة الفرعونية وقد تنوعها وتكامل هذه الأبعاد فيما بينها.

اقرأ أيضا | الأديب الكبير الراحل بهاء طاهر : «قالت ضحى» وحرب اليمن