عبد الله العقيبى يكتب عن جمال الغيطانى: كان ممتلئاً بالمعرفة والثقافة والمحبة

الأديب الكبير جمال الغيطانى
الأديب الكبير جمال الغيطانى

حين أذيع خبر وفاته، لم يكن لدى من أهاتفه أو أرسل إليه التعازى فى هذا الإنسان النبيل، لهذا بكيته وحدى، وأعدت قراءة بعض أعماله الرائعة مرة أخرى، كنوع من الوفاء الممكن لأديب ليس متوارياً ولا ميتاً حتى.

لهيثم الوردانى مقال بعنوان «مكان الكاتب»، تحدث فيه عن موقف حدث للكاتب المغربى محمد شكرى، الذى رأى فى أحد المقاهى مجموعة من الناس يتحلقون حول شخص، وحين سأل عمن يكون هذا الشخص، قيل له إنه أديب مشهور، فتعجب شكرى كثيراً.

وقال إنه كان يعتقد أن الأديب لا يُرى، فهو إما ميِّت أو متوارٍ عن الأنظار، حين قرأت حكاية شكرى قفز إلى ذهنى فوراً نفس التصور الذى كان لدىّ قبل أن ألتقى الأديب الكبير جمال الغيطانى

وفى صيف ٢٠٠٥، فرغم أنى كنت متحفزاً للقائه وغير متيقن بتحققه، كان هناك صوت فى داخلى يقول لى إن هذا اللقاء الذى كنت أمنى نفسى به لن يحدث، بسبب نفس التصور الذى كان لدى محمد شكرى، لكننى لم أعبر عنه بصياغة شكرى الشعرية عن شبحية مكان ووجود الأديب الشهير.

وكل ذلك ذاب تماماً بمجرد تجاوزى عتبات مبنى أخبار الأدب، وقفت أمام موظف الاستقبال الذى رحب بى وسألنى عن حاجتى، فأخبرته أننى أود لقاء الأستاذ جمال الغيطانى، لم يسألنى عن السبب، صحبنى إلى الطابق الذى يوجد فيه مكتب الأستاذ، وأشار لى إلى مكان مكتبه، لم أسأل نفسى ماذا سأقول له وأنا أجتاز ذلك الممر الطويل، كنت فى غاية الخوف أمشى كالمأخوذ.

وأنا أردد العبارات الأولى التى كنت أنوى قولها تعريفاً بنفسى، ولا أذكر أننى ترددت أو تراجعت، ماهى إلا لحظات وجدت نفسى أقف أمامه بين أكداس الكتب والأوراق، رحب بى ترحيب شخص يعرفه تماماً، وخرج من خلف مكتبه، عانقنى بلطف عظيم.

ودعانى للجلوس وطلب لى الشاى، ولم يعد إلى مكانه خلف المكتب، بل جلس على كرسى الضيوف الآخر أمامى تماماً، طرح علىّ العديد من الأسئلة التى ساعدتنى على استجماع قواى ولم حالة الشتات التى كنت قد بلغتها.

ومن خلال إجاباتى كان يجد بسلاسة مادة هامة يدلف من خلالها إلى عالمى الغريب عنه تماماً، حين خف تعرقى وارتباكى بدأت أثنى على شخصه وعلى كرم استقباله، وكان هو بدوره يزيد من الترحيب.


تحدثنا عن عدة أشياء لها علاقة بالأواصر الكبيرة بين البلدين مصر والسعودية، وأخبرنى عن زياراته ومعرفته بالحياة الثقافية فى السعودية، وكانت على مستوى عظيم من الدقة والمعرفة تفاجأت منها، فلم يدر فى خلدى فى تلك اللحظة أنه منتبه لخبايا الوسط الأدبى السعودى، أخبرنى عن أسماء كثيرة، وأنه قرأ لهم، ثم ترك الأسماء المعروفة ليسألنى عن الجيل الحالى.

وأخبرنى أنه معجب ببعض التجارب النسائية السردية فى السعودية، وحملنى رسالة لكاتبة سعودية يود لو أن تكتب معه فى أخبار الأدب، وهى الكاتبة ليلى الجهنى، التى كانت قد أصدرت روايتها الأولى «الفردوس اليباب».

والتى طبعت ضمن سلسلة كتاب فى جريدة، وأخبرته أننى سأفعل، ثم عرج على سؤال القبيلة، فحين أخبرته أننى أعيش فى ينبع سألنى هل أنا من قبيلة جهينة، وحين جاوبته بالإيجاب قال لى، نحن أبناء عمومة إذن، ما زاد من سعادته بى وبدأ يتحدث عن تاريخ القبيلة وهجراتها إلى مصر بشكل موسوعى، لم أستطع أن أجاريه فيه إلا بقدر الحكايات التى كنت أسمعها من أبى عن أهلنا فى مصر.


لم يسألنى ماذا قرأت له، ولا عن حضور اسمه فى الوسط الثقافى السعودى، ولا عن أى أمر يخص وجوده الأدبى، كان ممتلئاً بالمعرفة والثقافة والمحبة، قابلنى رغم فارق السن والقدر كما لو أننى صديق مقرب، ودعانى بلطف بالغ أن يصحبنى معه فى زيارة إلى الأستاذ، سألته باستغراب «نجيب محفوظ؟!» قال لى نعم نحن نلتقى به كل فترة ولا أذكر هل قال كل أسبوع، كانت رحلة عودتى إلى السعودية بعد يومين من اللقاء.

ولم أكن مستعداً لتغيير موعد الرحلة لا مادياً ولا وقتياً بسبب ظروف الإجازة، لكننى حملت الأمل معى فى عودة أخرى لم يمهلنى القدر فيها، إذ رحل نجيب محفوظ بعد ذلك بعام تقريباً، وقع لى روايته «الزينى بركات» وأهدانى اشتراكاً مدته سنة فى أخبار الأدب، ودعوة مفتوحة بالمشاركة بأى نص فى المجلة، شعرت وقتها بأنها جاءت على سبيل المجاملة اللطيفة. 


هاتفته بعد شهر تقريباً من اللقاء لأخبره بسعادة الكاتبة السعودية ليلى الجهنى على الدعوة، والتى تواصلت معها نزولاً عند رغبته، وأبلغته اعتذارها اللطيف فقد كانت فى حالة من فزع ما بعد نجاح وذيوع الكتاب الأول.

وكانت تعانى من عدم القدرة على الكتابة، فتقبل وتفهم وأرسل معى سلامه وتحيته لها. وبعد عام تقريباً على هذه المكالمة، أى بعد أيام قليلة من وفاة نجيب محفوظ، هاتفته وذكرته بنفسى، فعرفنى بشكل مباشر، طلبت منه أن يتقبل خالص العزاء فى الأستاذ، بدا صوته متعباً جداً، كانت مكالمة قصيرة، شكرنى فى نهايتها وأثنى على وفائى تجاه الصداقة والمحبة.


حين أذيع خبر وفاته، أى فى نفس هذا الأيام من عام ٢٠١٥ لم يكن لدىّ من أهاتفه أو أرسل إليه التعازى فى هذا الإنسان النبيل، لهذا بكيته وحدى، وأعدت قراءة بعض أعماله الرائعة مرة أخرى، كنوع من الوفاء الممكن لأديب ليس متوارياً ولا ميتاً حتى، كما كان يتصور محمد شكرى عن الكتَّاب، أو كما كنت أتصور أنا قبل لقائى بالغيطانى.

بل إنسان متواضع وحاضر وعظيم، أعطانى شخصياً درساً فى القدرة على رؤية الجمالية الإنسانية لدى الشخصيات الشهيرة أدبياً، هذه القدرة الصعبة، والتى جعلتنى بعد ذلك أتجاسر وأمد يدى بثقة لأى كاتب أحب كتابته دون أن أتوقع سلفاً بأنها ستعود صفراً.

اقرأ ايضا | معامل الترميم.. ملحمة لحفظ تراث المعرفة بخبرات مصرية