معامل الترميم.. ملحمة لحفظ تراث المعرفة بخبرات مصرية

ترميم سجلات قناة السويس
ترميم سجلات قناة السويس


 أطباء الحضارة شعارهم: نرمم ونعتنى بترميم وثائق قناة السويس ومخطوطة البستى أبرز المشروعات الحالية.
 

أخذت المكتبة على عاتقها مهمة الحفاظ على العلوم القديمة والمخطوطات والكتب الأثرية وتمديد عمر الوثائق الأصلية وذلك من خلال إنشاء معمل ترميم متخصص يعد واحدا من أبرز دروع مكتبة الإسكندرية للحفاظ على الكنوز النادرة. 


تبدو الأقسام الخاصة بالتعقيم والترميم بمكتبة الإسكندرية كالمحراب يجتهد بداخله النساك فى صمت وبوعى لقدسية عملهم ودورهم المحورى فى حفظ التراث فما بين أيديهم كنز حقيقى يغنيهم عن أى أحداث خارج أسوار التاريخ.


تعقيم الكتب
«الوقاية خير من العلاج» الشعار الذى يرفعه قسم الحفاظ والضبط البيئى بمكتبة الإسكندرية كما يوضح رئيسه حسام الديب:  ينقسم عملنا إلى قسمين الأول هو الوقائى وهدفه الحفاظ على المقتنيات الاثرية والمخطوطات والكتب فى أماكن تواجدها.

ولذا فنحن نضع داخل المكتبة نظاما لحفظ الكتب، خاصة أن المخطوطات الأثرية والوثائق التاريخية مكونة من مواد عضوية أى مُعرضة لعامل التقادم الزمنى الذى يؤدى إلى تلف محتوم وهدفنا تأجيل هذا التلف، فيقوم القسم بضبط الأجواء المحيطة كدرجة الحرارة والرطوبة محددة من 40-60 درجة تقريبا ونعمل دائما على قياس الملوثات الهوائية والفطرية على مدار 24 ساعة.


ويتابع: أما الجزء الثانى فهو خاص بتعقيم  الكتب وخاصة أوعية المكتبة التى سوف تخضع للترميم، والمرحلة الأولى هى تشخيص التلف أولًا سواء بيولوجيا أو كيميائيا. ونقصد بالتلف البيولوجى هنا الهجوم الحشرى أو الفطرى.

ورغم أن هناك طريقة لقتل الحشرات بالغازات السامة لكننا نعمل هنا بتكنولوجيا صديقة للبيئة فاخترنا أسلوب التجميد بدرجة حرارة 30 تحت الصفر فنقضى على الحشرات ونحجم الفطريات ويتم بعدها عزلها ونعالجها من خلال المختصين.


ويستطرد: أما التلف الآخر فهو التلف الكيميائى بسبب التفاعلات فى المواد المستخدمة فى صناعة الورق، فمثًلا نجد أن كل الورق المصنوع بعد عام 1850 من الأشجار والأخشاب وقد تم إضافة مواد حمضية كثيرة أثرت فيه وجعلته سريع التأثر عكس المخطوطات القديمة التى كانت تصنع من مواد كالكتان والأقطان بنوعيات متميزة.

ولذا نجد بعض الكتب القديمة تظهر بجودة أعلى من كتب أحدث منها، كما تظهر لدينا مشكلة أخرى وهى الحبر الحديدى القديم الذى يصدأ فتسقط الحروف وتصبح الصفحات بها كلمات غير واضحة.


أما الجزء الآخر الذى تميز فيه معمل الترميم فهو كما يشرح دياب: وحدة تصنيع الألياف التى تم التفكير فيها بديلا عن الاستيراد وذلك بعد أزمة الكورونا وارتفاع سعر الدولار، بدأنا نبحث عن نباتات مصرية طبيعية مثل الكتان لنصنع منها الألياف المستخدمة فى أوراق الترميم.

ومازلنا فى طور التجارب الأولية وننقوم بالمفاضلة من بين مجموعة مختلفة من النباتات لكى نصل إلى الشكل الجيد، وأعتقد أننا فى غضون عام ونصف سنتمكن من صناعة ورقة كاملة بحيث نعتمد على أنفسنا، وقد نقوم بالتصدير مستقبلا بعد الحصول على اعتمادات الجهات المسئولة. 


مهارات الترميم اليدوى
ننتقل إلى المرحلة التالية وهى الترميم وهو ينقسم إلى نوعين: ترميم آلى وترميم يدوى، منقسمين فى غرفتين منفصلتين. غرفة الترميم اليدوى طولية ممتدة، مضاءة بشدة، أشبه بغرفة العمليات خاصة والمعطف الأبيض هو الزى الرسمى فيها. درجة الحرارة باردة للحفاظ على الوثائق. يسود الصمت المكان والكل مستغرق فى أداء عمليات حساسة بتركيز شديد، تلتقط أصابعهم بمهارة شديدة أدوات معدنية حادة، وينكبون على الأوراق الصفراء القديمة يشرطون المخطوطات والكتب القديمة لمعالجتها بحرص لإعادتها للحياة ولكن دون تجميل. فالشرط الأساسى وهو عدم تغييرها أو المساس بأصلها.


يشرح شريف عفيفى رئيس قسم الصيانة والترميم فى مكتبة الإسكندرية أجواء المعمل قائلًا: المرمم هو طبيب الحضارة، يتحرك ليشير إلى مشرط قائلًا نحن بالفعل نستخدم أدوات الجراحين فى عملنا فالترميم اليدوى جراحة شديدة الحساسية تتطلب مهارات خاصة وتدريبًا طويلًا وتخضع لمعايير دقيقة.


 أسأله عن مشاعره كمرمم لوثائق التاريخ ينظر عفيفى إلى المخطوطات بجواره ويقول: حقيقى أشعر بأننى فى آلة الزمن، بمجرد أن ألمس مخطوطة أشعر وكأنى عدت للزمن الخاص بها وأبدأ فى تخيل شخصية المؤلف والناسخ وخاصة لو كان شخصية تاريخية. أسترجع أيضًا حالة القارئ، وتدور فى ذهنى التساؤلات فلو كان عمر المخطوطة ألف عام فكم قارئ قد تصفحها قبلى؟ وفى أى حقب زمنية؟ وما هى الحضارات التى تعبر عنها؟ فهى كنز حقيقى بين يدى.


 يتابع: لدينا دوما شعور قوى بالمسؤولية تجاه ما نفعله لذا دائمًا أقول لزملائى والمتدربين إذا لم تكن تؤمن بقضية حفظ التراث فلا تعمل بها، فضميرك هو أهم شىء» فشعارنا هو  «نرمم ونعتنى»


 يستفيض قائلًا: الهدف من الترميم أن نحافظ على الأصل والهُوية والدلالات التاريخية لا أن نحولها لشىء جديد وألا نكون دمرنا الأصل وزورنا التاريخ، وهذا الأمر الصعب فنحن نحافظ على الموجود ولا نصنع شيئا جديدًا، ولذا لدينا نظام مراقبة جودة دقيق يمنع أى خطأ أو تلف، فالترميم الخاطئ قد يتسبب فى تلف وفقدان المخطوط، ولذا نقول دائمًا «عدم تدخلك أفضل من التدخل الخاطئ» ولذا درسنا كل المعايير الخاصة بالترميم ووضعنا نظاما معياريًا قويًا للمراجعة المستمرة على كل خطوة.


 يتابع بفخر: «تمتلك مكتبة الإسكندرية سمعة عالمية فى مجال ترميم الأوعية المكتبية. لم نكتسب هذه السمعة بشكل سهل ولكنه نتاج مجهود كبير من فريق عمل متعاون ومؤمن بحفظ التراث، ومشغول بتطوير نفسه على المستوى المهنى والأكاديمى.


يروى تاريخ إنشاء المعمل قائلا: أنشئ معمل الترميم بمجرد الاتجاه لإنشاء المكتبة تحديدًا فى عام 1996 وكان الهدف الأساسى إجراء عمليات الصيانة السريعة والإصلاح السريع لأصول الأوعية المكتبية التى سوف يتم وضعها فى المكتبة الجديدة.

وتم إرسال المرممين فى دورات تدريبية خارجية إلى إيطاليا، ألمانيا، اليابان، لإنشاء فريق من المحترفين، بعد فترة كبيرة من الخبرة أنشأنا أول مركز تدريب متخصص فى ترميم الأوعية المكتبية فى الشرق الأوسط فى عام 2010 وبدأنا بنقل الخبرة للباحثين والدارسين والمرممين حيث إننا مؤمنون بأهمية نقل المعرفة والخبرة، كما نحاول سد الفجوة فى نقص المهارات التطبيقية فى هذا المجال، وأصبح يأتينا متدربون من أنحاء العالم.

وأصبح لنا سمعة عالمية وهو ما جعلنا نستطيع منافسة معامل الترميم على مستوى العالم، ووصلنا إلى مرحلة نقوم فيها بعمليات الترميم لمؤسسات داخلية وخارجية، فخلال العشر سنوات الأخيرة قمنا بترميم أكثر من 330 مخطوط به 44 ألف ورقة و230 حاوية حفظ، و2700 كتاب إضافة إلى 350 حاوية حفظ لها. 


ورغم التطور التكنولوجى الهائل فلازال للترميم اليدوى قيمته. يقول عفيفى:  لا يمكن أن نسلم المريض لآلة فالاتجاه العالمى هو الحفاظ على الترميم اليدوى لأن الوعاء المكتبى الأثرى لا يمكن أن نضعه فى ماكينة، فالترميم الآلى نستخدمه فقط فى الجرائد أو المطبوعات القديمة، لكن لا يمكن أن نفعل ذلك فى مطبوع نادر فقد تتعطل الآلة ويتمزق المخطوط.


وعن عملية الترميم ذاتها يقول: تنقسم مراحل العمل فى الترميم اليدوى إلى نوعين.. ترميم جزئى أو ترميم كلى، فإذا كان المخطوط فى حالة تلف شديد يتم تفكيك المخطوط صفحة صفحة ثم معالجته كيمائيًا بإزالة الحموضة، وتجميع الأجزاء الناقصة، وترميم الأغلفة، وعمل أوعية الحفظ لها، أما فى حالة الترميم الجزئى فيتم العمل على المخطوط دون تفكيكه.


سجلات قناة السويس
وفى أحد جوانب المعمل تراصت سجلات ضخمة مغلفة بجلد قديم، هى سجلات هيئة قناة السويس وهى من أهم مشروعات معمل الترميم التى ينفذها حاليًا، يعكف عليها فريق عمل مكون من عشر مرممات.


 توضح سالى محمد المسئولة عن ترميم سجلات قناة السويس: يصل إجمالى سجلات قناة السويس إلى 1853 سجلًا انتهينا من العمل فى 1173 سجلا  بإنجاز يقارب 63% على مدار أربع سنوات من أصل 6 سنوات مخصصة للمشروع وبذلك يتبقى لدينا عامان إضافيان نعمل خلالهما على إنجاز المتبقى من السجلات، ويتم العمل بنظام الدفعات نصف السنوية فكل 6 شهور نقوم بتسليمهم 155 سجلا للهيئة.


 وتكشف هذه السجلات حركة الملاحة البحرية من منتصف القرن التاسع عشر إلى منتصف القرن العشرين بالقناة، ومدون بها بيانات ودلالات مهمة ومفيدة للباحثين مثل أسعار الملاحة، وحركة السفن والبضائع اليومية، وتوقيعات العاملين.

وكلها مكتوبة بخط يدوى أنيق للغاية والأغلبية العظمى باللغة الفرنسية وهى اللغة الرسمية خلال فترة الإدارة الفرنسية لهيئة قناة السويس. تقول سالى محمد وتضيف: أذكر عندما وصلت السجلات للترميم كانت بحالة صعبة، وكان ترميمها بمثابة تحد، فقد كانت متضررة بشكل كبير وبها إصابات التآكل الحشرى وبالأخص النمل الأبيض، بالإضافة إلى إصابات فطرية شديدة وتلف فيزيائى، وتمزق فى بعض الأجزاء فاجتمعت فيها معظم تحديات الترميم ولكننا نجحنا فى الترميم بفضل تعاون الفريق.


أقدم مخطوطة
 وإلى أقدم مخطوطة بمكتبة الإسكندرية يصحبنا وائل محمد إبراهيم رئيس وحدة الترميم وصيانة المخطوطات، ليرفع نسختين من الأوراق الصفراء المفككة التى تعدى عمرها ألف عام قائلا: هذا نموذج لقبل وبعد الترميم لأقدم مخطوطة بمكتبة الإسكندرية وربما بالإسكندرية كلها حيث يتعدى عمرها الألف عام، مخطوطة البستى لتفسير القرآن الكريم يعود تاريخ نسخها إلى 368 هجريا ومؤلفها هو أبو إسحاق بن إبراهيم البستى والناسخ هو خلف ابن حكيم.


يلفت إلى أن مشكلة المخطوط كانت فى استخدام الحبر الحديدى الذى تعرض لعملية أكسدة مما تسبب فى تشقق الحبر وبالتالى فقد فى النص وظهور فى الفجوات بسبب ترميمه من أكثر مائة عام باستخدام أوراق تدعيم غير مناسبة يطلق عليها «ورق زبدة» ومعها أصماغ غير حيوانية ولكنها كانت الشائعة حينها.


 يضيف كان هذا الكتاب موضوع بحث مطول فأجرينا أبحاثا متعددة للوصول إلى أفضل سبل ترميمه، وكانت البداية أن نحاول التخلص من آثار عملية ترميمه السابق وما سببه من تلف، ومازلنا نعمل عليه منذ قرابة 4 شهور وخلال فترة قريبة سننتهى من العمل به.


الترميم الآلي
اما غرفة الترميم الآلى فتضم أحواضا مائية للترميم، ومناضد كبرى لتجفيف الأوراق، وكانت أبرز الأعمال المرممة بها هى أوراق الجرائد. ويمر فيها الترميم الآلى بأربع مراحل أساسية وهى حساب كمية الألياف التى يحتاجها الورق لتدعيمه، يليها وضع الورق فى ماكينة الترميم الآلى وغمرها بالماء، ثم وضع الألياف التى تم حسابها مسبقا وخلطها بالماء لترتكز فى الفراغات والأجزاء المتآكلة بعد سحب الماء، وأخيرًا صقل الورق بمواد سيليلوزية.

إقرأ ايضا | أخبار الادب تحتفي بمرور عقدين علي إحياء مكتبة الإسكندرية