فى الأثير، حكايات متناثرة تنبعث من أزمنة بعيدة ومتداخلة، توثق تاريخًا مجهولًا من الألم، من الحب والفقد، من اليأس والحنين، من السعادة الخاطفة على طريق من المعاناة، تختلط جميعها فى فضاء الكون، وترسل صورًا وإشارات؛ هذه الإشارات تلتقطها امرأة قادمة من الغد، فتنطلق فى رحلة نحو الغامض والمجهول، تعبث فى سجلات الماضي، وتتبع عنقودًا روحيًا سافرت عبره، نسخٌ متعددة من روح واحدة، إلى أماكن عديدة، وأزمنة حديثة وأخرى ضاربة فى القدم، لتستقر فى أجساد ستة،-جسدها سابعهم- كانوا حبات ذلك العنقود.. هذه المرأة هى زينة، واحدة من الشخوص المحورية فى رواية تميمة العاشقات، للكاتبة لنا عبد الرحمن الصادرة أخيرًا عن الدار المصرية اللبنانية.
من صوت زينة تبدأ الكاتبة سردًا ذاتيًا، يهيىء القارئ لما ينتظره من رحلة شائكة وملغزة، ثم يتحول ضمير المتكلم إلى صوت خارجى لراوى عليم بشخوصه، يتناوب مع رواة آخرين سردًا ما بعد حداثى عبر أصوات متعددة، يشى برغبة الكاتبة أن تجعل للنص عينين.
واحدة ترسم الشخوص من الخارج، والأخرى تخترق دواخلهم فتكشف ما لا تبلغه العين الأولى، وهكذا تقترب الصورة الكلية من الكمال. وتمتلىء اللوحة السردية بتفاصيل كثيرة، تمحو المسافات بين أزمنة وأمكنة متباعدة، فتلتئم حكايات سبع نساء من عصور مختلفة فى وحدة واحدة.
لم يكن اختيار الكاتبة لسبع نساء بطلات لروايتها، إلا لتمرر دلالات روحية عبر هذا الرقم، الذى تتوارى خلفه أكثر أسرار الكون، والذى يشى دائمًا بالاكتمال، فسبعة عناصر تساوى الإنسان، وسبعة معادن تساوى الأرض.
وسبعة ألوان تساوى الضوء، وسبعة سماوات تساوى فضاء الكون، وسبعة هو الشكل الذى يهاجر فيه سرب واحد من الطيور. هكذا مررت الكاتبة منذ اللحظة الأولى للسرد، الفكرة التى يتكىء عليها النص فى تناسخ الأرواح، وكأن لكل روح سبع نسخ، تسلك سبع دورات، فى سبعة أجساد، لابد أن تعبرهم حتى يكتمل وجودها، وتنتهى إلى الخلاص.
التجول الحر
وزعت الكاتبة خيوط السرد على فضاء زمنى شديد الاتساع، بدأ فى مصر القديمة. وامتد عابرًا حقبًا وعصورًا مختلفة، ليبلغ زمنًا مستقبليًا لم يأت بعد. وانصرفت عن التسلسل، فلم تمض فى طريق طبيعى تتدفق فيه الأحداث إلى الأمام على طول خط السرد.
وإنما اعتمدت التجول الحر، عبر نسق زمنى غير منتظم، ونجحت فى أن تحقق له الانسيابية، والتناغم، ومنطقية التعاقب. وأبرزت عبر هذا التكنيك خطايا التاريخ المكررة، ووجوهه المعادة الموسومة بالصراع، والتناحر، والحروب، والأوبئة.
والتى انعكست على الإنسان، فوسم الشقاء الروح الأولى «ألارا»، ولازم رحلتها فى كل نسخة منها، وعبر كل جسد حلت به. وهكذا جمع بطلات النص؛ تاريخٌ مشترك من الفقد والألم، والقهر والشتات، وقرطٌ من الفضة والياقوت الأحمر باركته الربة إيزيس، ليكون تميمة الروح فى حيواتها المتعاقبة، لكنه لم يحل دون أن تتشارك النسوة نفساً منقسمة بين رغبات دنيوية لجسد متمرد، ومحاولات روحية للتسامى وللارتقاء، دفعت بهن لاختبار كل من الوهج، والتمرد، والجموح، ثم الانطفاء والسكون.
هذا التحول رصدته الكاتبة عند كل ملاقاة لشخوصها بالفقد، وبعد تجرع كل منها ما يخلفه ذلك الفقد من وحشة للروح، وكذا عند الأمومة، وكأن النساء حين يلدن أرواحًا جديدة؛ يفقدن فى مخاضهن جزءا منهن، فيبقين بعدها فى حالة من البين بين، يتجاذبهن توقٌ لما فقدن، بينما يحاولن التصالح مع ما تبقى. «ضريبة الأمومة باهظة جدًا، هذا ما عرفته فى تجربتى مع ألارا، اكتشفت أن الأمومة تأخذ شيئًا من الذات ولا تعيده أبدًا بشكله الأصلي، ثمة ما يتحول للأبد داخل روح الأم، لذا كنت أحيا على حافة زمنين، لم أنس أنى كنت نجمة فى يوم ما وأنى أصبحت أمًا». ص 92
استثنت الكاتبة من العنقود الروحي، الذى يحوى سبع نساء؛ امرأة ثامنة هى آسيا ابنة آنى وأم ميرى مجيد، فكان حضورها غائمًا، عابرًا وسريعًا داخل النص، لأنها لم تتشارك مع الروح الأولى وظهوراتها الستة؛ حالة الانقسام بين الجسد ورغباته من جهة.
والروح وتساميها من جهة أخرى، بل كانت امرأة حالمة، لها جسد هادئ لم يعرف التمرد. وأرادت الكاتبة عبر هذه الشخصية أن تفسر سر التباعد الزمنى للأجساد، التى عبرتها النسخ الروحية، وإمكانية أن تحل هذه النسخ بأجساد تناسلت من الرحم نفسه.
وأجساد أخرى لا يوجد أى رابط بيولوجى بينها، كذلك كان اتساع الفضاء المكانى للأحداث، إشارة إلى قدرة الروح على العبور، لا إلى أزمنة متباعدة وحسب، ولكن أيضًا عبر مسافات طويلة، فالمسافة كما تقول الكاتبة «لا تعنى شيئًا بالنسبة للروح، المسافات مجرد وهم» ص 82.
الحلم والنبوءات
برزت النبوءات فى مواضع مختلفة من النسيج، لتعزز -رغم صدقيتها- دلالات فوق واقعية يحيل إليها النص، لا سيما ما يتعلق بقدرات التبصر، وكشف الحجب، وكل ما يعجز العقل عن تفسيره. لكن الكاتبة قصرت وجودها على الحكايات التى تدور أحداثها فى عصور قديمة.
واعتمدت الحلم لتحقيق الغاية نفسها من التنبؤ والاستبصار. واستطاعت عبره، التمهيد للأحداث التى أسفرت عن تحولات كبيرة لنسائها. وفى الوقت نفسه عززت عبره خصوصية شخوصها، وبصمتها الروحية القادرة على رؤية الأعمق والأبعد، تلك البصمة التى لم تتغير رغم تغير الأجساد، التى كانت مقاما للروح فى رحلتها. «قبل مغادرتنا بثلاث ليال شاهدت فى منامى أنى أسير وسط جماعة لا أعرفهم فى صحراء شاسعة. وأن طائرًا كبيرًا يشبه النسر يخطف غطاء رأسى الأبيض ويمضي». ص158
ورغم تلك المنطقة الوسطى التى سلكتها الكاتبة فى رحلتها السردية، والتى تتراوح بين الواقع والخيال، وإلى جانب الحضور القوى للأسطورة، سمح الفضاء الزمانى والمكانى الممتد ببروز خطاب معرفي، لاسيما حول صراعات وثورات وحروب وأوبئة.
وقعت خلال الأزمنة والأمكنة، التى دارت خلالها الأحداث، مثل حرب القرم، ثورة الشيخ خزعل، سقوط الأندلس، .... كما مررت معارف تاريخية عن مصر القديمة، آلهة قدماء المصريين، ومنها الإله حابى والربة إيزيس.
واستطاعت أن تنقل صورًا حية لعادات وطقوس الشعوب، ثقافاتهم، أكلاتهم، معمارهم وطبيعتهم أيضًا. وتمكنت عبر تقنيات الوصف، من نقل خبرات بصرية لبقاع مختلفة من العالم مثل مصر، لبنان، الهند، أذربيجان.
روافد الشقاء
التطهير لا يكون إلا عبر الشقاء، لذا كانت المعاناة والألم ميراثًا تشاركته بطلات الرواية. وكان الصراع رافدًا أساسيًا لتغذية الشقاء، على طول خط السرد. تعددت مستوياته، فكان من بينها صراع على السلطة والنفوذ؛ أثمر حروبًا ودمارًا، صراع من أجل البقاء نتيجة موجات من الأوبئة لاحقت البشرية وحصدت أرواحها، صراعات من أجل المال، قادها اللصوص وقطاع الطرق. كذلك برز الصراع على المستوى الداخلى للشخوص، التى انقسمت بين انقيادًا للخطيئة.
وسعيًا للتطهر. بين ما تحب أن تفعل، وما يجب أن تفعل. فألارا الأولى انقسمت بين الحياة التى يجب أن تحياها كخادمة لمعبد إيزيس، الذى كان سببًا لنجاتها من الإله حابي، وبين رغبات جسدها ومشاعرها تجاه المراكبى جيما. أما ألارا الثانية فكانت تواجه مواتًا نفسيًا نتيجة صراع داخلى مزقها بين الاستسلام لنتاج الوحدة والفقد.
وبين الرغبة فى التحرر والتجاوز والنجاة. وعاد الصراع داخل ميرى مجيد يشتعل بين جموح وتمرد روحها، وبين استقرار فى حياة ساكنة فى كنف زوجها حازم. أما جدتها آنى فقد عاشت الصراع نفسه بين التمرد والخنوع، وبين الحب والكبرياء.
وانقسمت سولاى بين حبها لزوجها ورغبتها فى الرحيل رفقته ورفقة أبنائها، وبين حنينها لأهلها حين عثرت عليهم بعد أعوام من خطفها. أما رحمة فتجرعت الشقاء نفسه، نتيجة صراع عاشته بين رغبتها فى بقاء زوجها إلى جوارها، ورغبتها فى تحريره ليعيش مرتحلًا كما يحلو له. وهكذا أسهم الصراع فى تحريك عجلة الأحداث.
وفى زيادة التماهى مع النص، الذى عززته جاذبية الشخوص، ورداؤها الإنسانى الواقعي، الذى تمتزج عبره جوانبها المضيئة والمظلمة. لكن رغم ما تغذى عليه الصراع من روح الشخوص، إذ كان الحب فى أغلب الأحيان وقوده ودافعه، كان الخذلان حصادًا وحيدا نالته النسوة حين انطلقن إلى الأثير، بعد أن اختار أحباؤهن مصائر مغايرة، وبعد أن تنكروا لهن!
«قال لى إنه أهنأ حالًا هنا، لأن روحه حرة وإنى سجنته معى حين أجبرته على الحياة فى كنف أسرة، حزنت كثيرًا من وطأة كلماته، أنا التى سجنت نفسى بعد رحيله، وظللت وفية له.» ص 218
استشراف العالم.
عبر شخصية زينة القادمة من المستقبل وعلاقتها بالروبوت رام، قدمت الكاتبة استشرافًا للعالم فى مستقبل ليس ببعيد، هذا المستقبل ستتحكم به الآلة، التى ستسيطر على الإنسان، وتلتهم إنسانيته، وتهدد مشاعره واختياراته، وتتحكم حتى فى أحلامه. ستتحول زيارات الأطباء من عياداتهم، إلى لقاءات من خلف الشاشات (وهذا ما بدأ بالحدوث).
وتأتى الأجنة من بنك النطف، لا من علاقة طبيعية قوامها رجل وامرأة. سيستفحل الصراع بين البشر والروبوتات. سيتغير العالم كثيرا، لكن لن تكف الأرض عن الدوران. سيظل الحب، ويظل الشقاء، وتستمر الحكايات تنبعث فى فضاء الكون، وتكمل رحلتها عبر الأثير .. فهل ستصدق النبوءة؟
