محمد هلال يكتب : أن تكتب عن مدينة كالإسكندرية

الشاعر علاء خالد
الشاعر علاء خالد

عرفت علاء خالد من مقال  كتبه الروائى أحمد الفخرانى فى مدونة ريحة يود عام 2010، تحدث فيه عن كاتب وشاعر يملك جاليرى لبيع المشغولات اليدوية اسمه فراديس. أعرف الجاليري، رأيته كثيرا لكن لا أعرف صاحبه، ولا كونه شاعرا. بحثت عن حساب صاحب الفراديس فى فيسبوك وأضفته.


لم أقرأ له حينها غير ملامح وجهه المنحوتة السمراء، التى توحى بأصل مغربى بعيد. تلك الملامح التى كنت أقابلها باستمرار على محطة ترام بولكلي، والتى سأعرف بعد ذلك أهميتها فى حياته. كلما رايته أفكر فى التعرّف عليه وتقديم نفسى له لكن أرفض فكرة اقتحامى خلوته. كان يسير كشخص متعبّد، يتأمل ما يراه من مسافة، أنظر له ولتأملاته وأقول: ترى كتاباته على نفس الدرجة التأملية التى يسير فيها؟
بعد سنوات قليلة وقعت فى هوى الكتابات المرتبطة بالمدن والكتاب الشغوفين بمدينة ما، قرأت عن إسطنبول باموق، نيويورك بول أوستر، بعض روايات إبراهيم عبد المجيد، لكن شُغفت وقتها بكاتبين، ربيع جابر، وعلاء خالد.


الإسكندرية عن الناس والحياة
كل رواية أو نص سردى يحتاج لمكان كى يتحرك فيه، الحارة، القرية، العزبة، المدينة. لكن بعض المدن لها شخصيتها، تُحرّك هى الأخرى مسار الأحداث، توجّه الشخصيات وتطبع أرواحهم بطابعها، من بين تلك المدن: الإسكندرية.

ومن بين تلك الروايات التى فهمت جوهر المدينة كانت رباعية الإسكندرية للورانس داريل. شكّلت رباعية داريل بالنسبة لي، وشكّلت أيضا معرفتى بالإسكندرية، كونى أحد أبنائها، جدارا زجاجيا سميكا بينى وبين ما كُتب عن الإسكندرية ولم يقبس من روحها، لم ير فرادتها وعاملها كمكان تتحرك فيه الأحداث، لا كشخصية مؤثرة. 


كتابات علاء خالد عن المدينة اخترقت الجدار الزجاجى كشعاع ضوء، فُتنت بلغته وعذوبة سرده، أعجبت بتجربته داخل المدينة التى تمسّك بها وبكونه أحد أبنائها، وبرغبته فى خلق حركة أدبية داخل المدينة لا تتركها وتتحرك نحو القاهرة ولا تتحول لحركة أدبية كليشيهية تقع فى النمط المألوف عن الإسكندرية كهامش حرّ ناعم مريح بعيد عن سلطة ومركزية القاهرة. لكن أكثر ما جذبنى لكتابات علاء خالد هى رؤيته، شديدة الفرادة، للناس والحياة. 


فى وجوه سكندرية يصف إحدى الشخصيات بقوله: «كان أيضا يعيش مثلى بإحساس الهواية والفرجة على الحياة». حس الهواية والفرجة هذا، الصبر والدأب على الكتابة والرغبة فى التجريب المستمر، السير فى مسارات المدينة والتأمل فى حيوات الناس، الحركة والسفر، الرحلة والتجربة، كل هذا شكّل تلك الزاوية الفريدة، والتى تشبه زاويته التى يجلس فيها داخل فراديس يتابع منها الناس خلف زجاج الفاترينة، تلك الزاوية التى تخرج منها كتاباته، ونظرته الذاتية الفريدة للإسكندرية. 


حلقة أمكنة
بعد العوائق اللوجستية التى واجهتها «مجلة أمكنة» فى السنوات التى تلت يناير، حوّل علاء جهده السنوى المبذول فى تجهيز وتحرير المجلة نحو «حلقة أمكنة». مجموعة من الشباب يلتقون بصحبة علاء خالد كل خميس مدّة أربعة أشهر، حول طاولة مستديرة وثيمة محددة، مرّة حول البورتريه كنص أدبي، مرّة حول الألبوم العائلى كنص أنثروبولوجي، سنوات الجامعة، ضاحية إيكينجى مريوط. ست حلقات فى ست سنوات متتاليات حتى الآن، نتج عنها ستة كتيبات لنصوص الشباب المشاركين فى الحلقة، وستة معارض فوتوغرافية، وستة أفلام توثيقية للحلقات. جهد فنى وأدبى كبير، بذل بمحبة ودون انتظار الكثير.


يتنوع الحضور فى «حلقة أمكنة» بين أعمار وتوجهات وخلفيات دراسية واجتماعية مختلفة، من الأكثر تحررا للأكثر تحفظا، من محبى الكتابة، للفوتوغرافيا، للفيديو. يساء أحيانا فهم «حلقة أمكنة» توصف فقط كورشة كتابة، صحيح أن الكتابة عمادها الأساسى، وتدريبات الكتابة فيها أسبوعية، وينتج عنها كتيب كل حلقة، رغم ذلك لا يهتم علاء كثيرا ولا قليلا بشرح تقنيات الكتابة، لا يذكر كلمة حول لغة أو أسلوب، لا يهتم إلا بالرؤية والتجربة.


لمّحت له مرّة عن تباين مستويات الكتابة بين المشاركين وأثر الأمر على مدى جودة الكتيب نتاج الحلقة، كنت أحد المشاركين وخشيت أن يساء فهمى، أجابنى علاء: مش مهم الكتابة فى ذاتها يا محمد، مش كل الناس عاوزه تكون كُتاب، المهم التجربة، المهم الناس تتشاف وتتسمع».


من بين الذين شاركوا فى «حلقة أمكنة» الآن، روائيون ومصورو فوتوغرافيا، عاملون فى صناعة السينما، أطباء يستمعون لمرضاهم، طلبة تنظر للحياة ولمستقبلهم بصورة مغايرة. 


مسارات المدينة
يؤمن علاء بأهمية السير فى المدينة، فى كتاباته شكل المشى أحد روافد الأفكار، وأهم طرق ترميم الذات، عبر المشى يصفو الإنسان لنفسه، يسمع صوته الداخلي، يراقب خطوته، يسير علاء خالد أحيانا كما أشار فى مقاله «أنا مشاء على الأقدام ولاشيء غير ذلك» على إيقاع تصفيقات يديه، ليضبط عليها إيقاع مشيه، وربما إيقاع حياته. 


فى حلقة أمكنة، كانت «مسارات» المدينة جزءا جوهريا منها. نهار الجمعة تلتقى المجموعة فى أحد المقاهى القريبة من مكان انطلاق المسار، بعد التجمع والشاى يبدأ المسار، فى مجموعة متلاحمة يبدأ المشى والحكى والتساؤل عن المدينة، مرّة فى سوق الجمعة عبر شارع السبع بنات، مرّة فى ضاحية أبى قير عبر قطار المدينة الداخلى، وحلقة كاملة كل مساراتها فى ضاحية إيكينجى مريوط رغم مشقة الذهاب والعودة كل جمعة.


يقرب المشى بين مجموعة الحلقة، بينهم وبين علاء، بينهم وبين المدينة وسكانها والتى ربما تشكل الفوارق الطبقية جدارا لبعض المشاركين فى الحلقة منعهم قبل ذلك من التعرف على الناس بهذا القرب وبتلك الخفة. كانت الفلسفة قديما، قبل أن تؤمم لصالح طبقة «المثقفين»، لتفقد قيمتها وتفرّغ من مضمونها، كانت تنبع من التحاور والاختلاط بين الناس، تنبع من معرفة الآخر ومحاولة تعريف أنفسنا له، بدأت الفلسفة مع المشائين، كما بدأت الصوفية أيضا. عبر رحلة ما، حتى لو كانت مسارا صغيرا فى مدينة نسكنها ونظن أننا نعرفها جيدا يمكن أن نكتسب الرؤية ونشكل فلسفتنا الخاصة فى الحياة.


طائفة المحبين
يتحول علاء خالد لكل من يعرفه مع الوقت لصديق يثق به، يلتقى بأصدقائه فى «فراديس»، هناك يفتح المرء قلبه وروحه ويتحدث، يستمع علاء ولا يضغط فى السؤال، سواء بالتلميح أو التصريح يقبل ويستفسر من بعيد حتى يتأكد من فهمه الأمر، بعدها يتحدث دون نصح ودون أى سلطة أبوية، يؤمن أن على الصديق أن ينير الطريق لصديقه لا أن يوجهه. 


أحيانا ما يلتقى المشاركون فى حلقات مختلفة من «أمكنة»، يتعرفون على بعضهم للمرة الأولى، رغم ذلك تلمح التفاهم السريع بينهم، وبالسؤال عمّن أنت؟ من تعرف؟ ماذا تفعل؟ يصلا للحلقة الرابطة بينهم، وهى محبة علاء خالد. 


فى روايته ألم خفيف يقول: «لا أعرف ما هى حقيقة الحب، ولكنى أعرف بأننا يمكنا أن نحِب ونحَب، كلما تواضعنا فى رؤية أنفسنا ورؤية الآخرين».


عن طريق التواضع، ونقاط الحب المعزولة المتباعدة التى ينثرها هنا وهناك، اجتمعت طائفة المحبين حوله، أوصلوا بين تلك النقاط المعزولة فارتسمت الخارطة وانكشفت لهم. تلك الطائفة التى تشبه الذاكرة، القادرة على التمدد ليس فى الأمكنة فقط، لكن فى الزمن كذلك.

اقرأ ايضا | مهاب عبد الغفار يكتب : نحت عناصر الوجود في فضاء العالم