عبد الرحيم يوسف يكتب: الشاعر يعيش مرتين.. على الأقل

عبد الرحيم يوسف
عبد الرحيم يوسف

هذه «الروح الإشبينية»، روح العّراب والأب الروحي، لم تقتصر -فى رأيى- على دوره فى الحركة الأدبية التسعينية.

فى طريق ذهابنا لزيارة الأستاذ علاء خالد فى المستشفى بعد جراحته الدقيقة الأخيرة، سلك سائق السيارة التى طلبناها أنا وصديقى المخرج المسرحى أحمد صالح عبر أحد التطبيقات الحديثة طريق المحمودية الجديد بناء على نصيحة من صالح، كان طريق البحر مختنقا وكذا طريق أبو قير كما قال السائق، فقررنا فى محاولة للحاق بموعدنا أن نسلك هذا الطريق السريع الجديد، وطلب منا السائق الأنيق، صاحب السيارة فى الأساس، بأدب أن نرشده لأنه لا يعرف الطريق فى الحقيقة!
كلفنا هذا توهانا فى أحراش شرق المدينة التى أجهلها، وتأخرا عن موعدنا بما يقارب الساعة، وتعطيلا لصديقنا الشاعر والكاتب أحمد عبد الجبار الذى كان ينتظرنا قرب المستشفى، فى هذه الأثناء أرسلت رسالة إلى الأستاذ علاء أعتذر عن التأخير وأؤكد أننا فى الطريق، رد علىّ على الفور أنه فى انتظارنا.

استبشرت خيرا بصيغة الرسالة: «إحنا فى انتظاركم يا عبد الرحيم.» يميل علاء إلى استخدام اسم محادثه كثيرا أثناء الحوار، عادة لطيفة ومطمئنة وتذيب كثيرا من الحواجز فى بدايات التعارف، وتعزز المؤانسة والمودة مع مرور الوقت. أعتقد مثلا أنى قابلت علاء لأول مرة فى بداية الألفية غالبا على مقهى الكريستال بمحطة الرمل التى هدموها هى ومبناها منذ بضع سنين.

وكنت أعرفه قبلها بسنوات، قرأت كتابه اللافت «خطوط الضعف» واشتريت العدد الأول من مجلة أمكنة، الذى صدر عام 1999، وتأخرت قليلا فى قراءة شعره. لكن المشهد الأول الذى يخطر ببالى هو دخوله مع زوجته الفنانة سلوى رشاد والشاعر الراحل أسامة الدناصورى إلى مقهى الكريستال الذى كنت أجلس فيه مع أصدقائى الشعراء والكُتاب الشباب.

وقتها- بشكل شبه يومي، قام رفاقى وسلموا عليه وقمت معهم، سلم علينا علاء بمودته ولطفه اللذين سأعرفهما عنه دائما، وجلس هو وصُحبته إلى طاولة قريبة، ظللت طوال جلستنا أسترق النظر إليهم، وأعتقد أنى رأيت أسامة مرة أو مرتين أخريين وكان فى صحبة علاء أيضا. 


من بين الأشياء التى لفتت انتباهى فى هذه الجلسة البعيدة، وسأظل ألاحظها فيه لاحقا، الأناقة الدقيقة؛ أناقة فى اختيار ألوان الملابس من درجات اللون البنى غالبا، والوشاح الذى يحيط به رقبته فى الشتاء، يعرف علاء جيدا أنواع هذه الأوشحة وأين تُصنع، فى جلسة فى شتاء هذا العام مع صديقنا العزيز ياسر عبد اللطيف سأله علاء هل هذا الوشاح من منسوجات أخميم؟ وأكد ياسر صحة ذلك. 


قبلها بأحد عشر أو اثنى عشر عاما، فى سهرة بالإسكندرية أيضا حكى لى ياسر عن لقاءاته الأولى فى التسعينيات بعلاء خالد ومهاب نصر فى زياراتهما للقاهرة وجلساتهما مع عدد من شعراء وكُتاب ما أصبحنا نعرفهم بجيل التسعينيات، وصف لى ياسر ثراء وعمق الحوارات، وأنه يعتبر علاء على حد قوله «إشبين الجيل». 


هذه الروح «الإشبينية»، روح العراب والأب الروحي، لم تقتصر -فى رأيي- على دوره فى الحركة الأدبية التسعينية؛ بل اتسعت وتجلت فى المرحلة التالية على تأسيسه مجلة أمكنة وقيادته لفريق تحريرها. دفعته المجلة إلى السفر فى كافة أنحاء مصر والاستماع إلى حكايات الناس أصحاب التجارب المختلفة وسكان الأمكنة الممتدة.

وجدت الفكرة صدى عميقا لدى روح السندباد الجوَّال بداخله. السندباد الذى يرتحل ويعود دائما إلى بصرته: الإسكندرية. كذلك دفعته المجلة إلى لقاء عدد كبير من الشباب من مختلف الاتجاهات ومحاورتهم ودعوتهم للمشاركة بالكتابة فى محاور المجلة. أذكر أنه قبل كل عدد كان يأتى لأحد المقاهى التى نجلس عليها.

ويعرض علينا فكرة/محور العدد «واللى يحب يشارك يا شباب أهلا وسهلا». هذه الدعوة الأنيقة واللطيفة وما حققته المجلة عبر أعدادها المختلفة من تميز وإضافة، ليس للمشهد السكندرى الفقير فقط، بل للمشهدين المصرى والعربى وقتها، كل هذه العوامل جعلتنى أسعى للمشاركة فى العدد الخامس تقريبا، العدد الذى حمل «المسار» محورا له. كتبت مساهمتى على ورق فلوسكاب وذهبت إلى الأستاذ علاء فى مملكته الصغيرة: جاليرى فراديس. ما إن تدخل إلى المكان المزدحم بالتحف واللوحات والمصنوعات اليدوية والفنية وتترسم خطاك بينها فى رفق إلى مقعد بحر صغير فى مواجهة مكتب علاء، تلك المائدة الصغيرة التى يجلس وراءها وعليها جهاز كاسيت أعتقد أنه تحول الآن إلى لاب توب تنساب منه موسيقى خافتة تركية أو فارسية، حتى ينساب الحديث لساعات حول كل شيء، الأحوال والعمل والكتابة والقراءات.

وبعدها بفترة اتصل بى وذهبت إلى الجاليرى مرة أخرى حيث أعاد لى أوراقى مبديا إعجابه بالكتابة لكنها «مشروع رواية يا عبد الرحيم». ولم يُقدَّر لى المشاركة فى أى عدد من أمكنة. لكن بعد ثورة يناير أشرف على صفحة كاملة فى جريدة التحرير كانت تحمل اسم «أمكنة»، وفى إحدى المرات التى تقاطعت فيها طرقنا أثناء المظاهرات اللانهائية فى عامى 2011 و2012، عرض عليّ كتابة مقال فى الصفحة، وكتبت بالفعل مقالا بعنوان «ثوار من منازلهم» وكان له حظ النشر فى صفحة «أمكنة» حتى لا يفوتنى شرف المحاولة.


عام 2014 تعرض الأستاذ علاء لأزمة صحية كبيرة بعد خطأ طبى فى جراحة بسيطة، احتاج إلى عدد من أكياس الدم والبلازما يوميا لأسبوع أو أكثر، وهنا تجلى جانب آخر للإشبين الراعي، احتشد عدد كبير من محبيه وتوالت الدعوات على وسائل التواصل الاجتماعى للتبرع بالدم.

وقام عدد من محبيه من بينهم السينمائى الصديق أحمد نبيل بتنسيق المهمة. ذهبت إلى نبيل عند مستشفى الشاطبى حيث تبرعت بدمى لأول وآخر مرة تقريبا، وتابعت معه كيف يسير جدول الزيارات، كل هذا سجله علاء خالد فى كتابه الرهيف «مسار الأزرق الحزين» الذى لم يرصد فقط تفاصيل الأيام العصيبة، لكنه سجل كذلك تفاصيل المحبة التى أحس بها تدب من حوله وفى أوردته. المحبة التى صار يدمع قليلا عندما يذكرها أو يذكرها أحد أمامه، كما فعل عبد الجبار فى زيارتنا فدمعت عينا علاء وتهدج صوته قليلا وهو يؤكد أن هذا ما يمنحه دافعا للعيش.


عندما دخلنا إلى حجرة علاء استقبلنا بترحاب كبير رغم ملامح التعب والإجهاد والنحول، أصر على أن نجلس واندفع يحكى عن العملية ومسار الأعراض المنهكة طوال شهور قبل أن يصل الأطباء إلى التشخيص السليم. كنا خائفين عليه من الإجهاد لكنه بدا متعطشا للحديث، ومرة أخرى بدا ممتنا لعودته منتصرا من قبضة الموت. كان «الفحل الرومانتيكي» كما وصفه الدناصورى ينتصر على الموت مرة أخرى، بالمحبة.


فى طريق عودتنا سألنى صديقى المخرج المسرحى أحمد صالح لماذا أداوم على مناداة الرجل بالأستاذ علاء فى حين يناديه هو وأصدقاؤنا الآخرون بعلاء فقط. وأن هذا أحرجه شخصيا قليلا لدرجة التفكير فى استخدام الكلمة، الأستاذ، قبل أن يئوب إلى رشده ويرجع سيرته الأولى. قلت له إن لسانى لا يطاوعني، ليس لفارق السن مثلا ولا لافتقاد الألفة، بل لأن الأستاذية حقيقة بعلاء خالد، أقصد أنى أقولها له لأنى أعنيها. ولأن قليلين حقا من يستحقونها.

اقرأ أيضا | مغامرات علاء خالد