إيهاب القسطاوي يكتب: أخطو بأقدام أيامى!

إيهاب القسطاوي
إيهاب القسطاوي

مصر الأرض السحرية المباركة التى رخت بظلال تراثها الإنسانى المستمدّ من مكوناتها الحضارية والثقافية والتراثية على العالم بأسره.

الجمعة :
«ما زال ذلك المشهد المتوغل فى القدم عالقاً بذاكرتى إلى اليوم، وأنا على بوابة الخامسة والأربعين من عمرى، أخطو بأقدام أيامى، حاملاً على كاهلى ذاكرة ثقيلة فوق روحى المراهقة، ويرافقنى عادةً عندما تنتابنى أقصى نوبات الحنين إلى طفولتى، تلك الطفولة البريئة التى ما فارقت روحى يوماً، وإذا تذكرته انتفضت كما الأرض عندما ترتطم بها قطرات المطر، هو مشهد كوخٍ مساحته لا تتعدى مترين من الصفيح المرقع بشكل بدائى.

كان ملاصقًا لمدرستى «المرقسية الابتدائيه» التى شهدت ﻣﺨﺎض تكوينى الأول، والتى طالما ما كانتْ تصطحابنى أمّى إليها مع إشراقةِ كُلِّ صباحٍ، أمى تلك السيّدة العظيمة التى مازلتُ أشعرُ بالخضوع أمام عظمتها الرّوحيّة، ومازالت كلماتى تتبدد أمام عطائها، وتختفى كل تعابير الحفاوة اللائقة بمقامها، والتى لم ولن أخجل يوماً من التَّبَاهِى باِاسْمَهَا مَقْرُوناً بِاسْمِى السيدة فتحية عبد العظيم القسطاوى، التى على يديها الحانية تشكّلت أبجدية حروفى الأولى، وشغلت منها عقودا لا تداس على الأرض.

وقد اعتاد أن يقبع أمام هذا الكوخ رجل تبدو من هيئته أنه لم يتعد عقده الخامس، ذو بشرة سمراء محببة ولحية كثة، وملامح أثقلتها تباريح الهموم، كان يرتدى جلباباً ممزقاً ذات لون أزرق قاتم، وتعتلى رأسه طاقية رمادية بها  ثقوب، وبجانبه كانت تجلس زوجته مرتدية ثوباً فضافضاً مطرزاً بأربعة عروق مليئة بنقشات زهور، كان الثوب ينسدل على جسدها بإباء، كانت ابتسامتها بهية حتى خُيِّل إلىّ أنها مصر متجسدة فى امرأة.

كانت تحمل بيديها الغَضَّة الرَّطبة طفلاً رضيعاً، وملتصقاً بها على الجانب الآخر طفل يُقارِبُنى فى العمر حينذاك، كانوا يفترشون الأرض بحبور، وأمامهم بسطة من الأقفاص المصنوعة من عيدان خشب الخيزران يعرضون عليها بضائعهم من الجرجير والنعناع الأخضر وما لديهم من الخضار الطازج.

ويتدثرون بأجولة من الخيش يضعونها على أقدامهم حتى تقيهم من عضة البرد، وأمامهم وابور الجاز يتقدِّم رأسه براد نحاسى داكن للشاى يرتجف منبعثاً منه صفير شجى مغلف بمذاق الحنين، كان الطقس عاصفا والرعد قاصفا السكون، والرياح عابثة.

والشمس تطل بنورها إطلالات خجولة من بين الغيوم، وكنت أنا أهيم فيما بين  قسمات وجوههم، وفى دفء دروبهم كسحابة عابرة، باحثاً عن شيء ألوذ به من شدة البرد.
وأعترف أننى مازلت أشعر حتى هذه اللحظة بالبرد، بعدما تذوقت طعمه للمرة الأولى لديهم، وبعدما رأيتُ بأم عينى، أن الحياة لدى هؤلاء النبلاء لها فلسفة خاصة ومعايير مختلفة.
إن السعادة لديهم مقابلها ثمن زهيد، قد يكون بقيمة ثمن كسرة خبز مثلاً، أو بقايا طعام يتقاسمونه برضا، لذلك قد أكون لا أغالى إن قلت إن أعظم ما تعلمته فى حياتى كان مصدره البسطاء من أبناء هذا الوطن العظيم».

السبت :
من منّا لا يحبّ مصر!
«يا لها من كلمات عفوية مغلّفة بالصدق، ولكنها عميقة الأثر، حيث يتناثر على نواصيها أريج عشق مصر عَبَقَ شذاه فى الْمَكَان، ومحاطــة بسياج من الأمل والرهان على مستقبله الواعد، رغم كل محاولات الأعداء المستميتة للنيل من مقدراتها.
هو أحبّ مصر حتى الثمالة، كانت كلماته الصادقة تنساب على مسامعى فتستقرّ للنبض مقاماً عميقاً فى الروح، وقد لا أكون أُغالى إذا قُلْتُ إننى أثناء الحوار معه، قد تنهدت قائلاً: هنيئاً لمصر بمحبيها فى كل صَقْع من أصقاع الأرض.

فما أجملها تلك اللحظات شابها الانتشاء والفخر، عندما واجهت الدكتور حسان دياب، رئيس الحكومة اللبنانية السابق، متسائلاً: قالوا لى يا دولة الرئيس إن لديكم ولعا شديدا بمصر؟
فأجابنى بنبرة واثقة باسمه ونسبه: مصر مهد التاريخ ومهد الحضارة وفجر الضمير، ولا يمكن لطالب علم فى أى رقعة من كوكب الأرض أن يبدأ درس التاريخ والحضارة دون أن يستهل بمصر.

فبادرته قائلاً: «أإلى هذا الحدّ تحبّ مصر؟
فأجابنى قائلا دون تردّد: ومن منّا لا يحب مصر.
انسابت تلك العبارة السحرية التى تشكل ملامح أى مبدع على لسانه وهو ذلك الملاح الماهر الذى تقلد منصب الحكومة اللبنانية بكل ما يحملـه فى طياته مـن إرث ثقيل، فى ظل تفاقم كبير فى حجم الأزمات المالية، بجانب مشهد سياسى معقد للغاية، وظروف اجتماعية صعبة للغاية، ولكن فى موازاة ذلك المشهد المشحون والمعقّد، رَأَيْتُهُ بِأُمِّ عَيْنَيَّ يقود السفينة بإتقان، متجنباً زوابع العواصف وسط محيط يموج بتقلبات الأنواء.

أيضا مما زاد احترامى له عندما علمت من ردهات الوزارة، بأنه ملمّ بكلّ شاردة وواردة تتعلّق بأداء فى الوزارات المختلفة، إلى كونه صاحب قرار صحيح وسريع.
ففى أثناء اللقاء المطول مع  الدكتور حسان دياب، رئيس الحكومة اللبنانية السابق، والذى استمر قرابة الساعتين، بالسرايا الحكومى، كان الطاغى والمسيطر على أجواء اللقاء هو مصر.
فقد أسهب فى حديثه عن مكانة مصر كمنارة ثقافية ومركز للتلاقى وحوار الحضارات.
وتعهّد لى حينذاك ببذل كلّ ما فى وسعه لدعم وتثمين جهود التعاون مع مصر بأفضل ما يسمح به فى ظل الوضع الراهن المأزوم.
وفى نهاية اللقاء قال لى مازحاً بأنه يريد تناول طبقاً كبيراً من الكشرى، قلت له العزومة علىّ، فضحكنا جميعا.
فهل لى أنا إلّا أن أعشق مصر إلى حد الجنون، مصر ذو التاريخ العريق الممتد منذ أكثر من  7000 عام.
مصر الأرض السحرية المباركة التى رخت بظلال تراثها الإنسانى المستمدّ من مكوناتها الحضارية والثقافية والتراثية على العالم بأسره.
وأخيراً لا أملك إلّا أن أردّد مع  الدكتور حسان دياب، من منّا لا يحبّ مصر.

الأحد :
لَصَّ المسيح!
«كنت طفلاً، يكاد ينطبق عليه وصف الشاعر الكبير فؤاد حداد: «عيونى أوسع.. من هدوم العيد».
 وتحضرنى فى ذلك حادثة لازالت فصولها محفورةً فى ذاكرتى، وتفاصيلها منقوشةً فى وجدانى، وأعتقد أنها لن تمحى من مخيلتى، ما حَييتُ، لم يكن عمرى حينها يتعدى الثمانية أعوام، وكنت حينذاك وأنا المسلم تلميذاً فى مدرسة المرقسية الخاصة.

وكانت لدى معلّمة تدعى «مارسيل» تبلغ من العمر عشرين عاماً، كنت شديد التأثر بها.
ولا أنكر حقيقة أننى قد استقيت مبادئى الأولى من فيض نبع عمقها، فكانت عندما تحدثنى عن قصّة ميلاد «يسوع»، وعن كل ما لاقاه فى حياته فيما بعدُ من شقاء وعناء من أجل إيصال رسالته للإنسان.

كانت تنتابنى حالة من الفزع والحزن الشديد، وكنت أشفق عليه كثيراً، لما سيتعرض له عندما يشب.
وفى أحد الأيام، وأثناء احتفالات المدرسة بعيد الميلاد المجيد، قاموا بصنع مغارة كبيرة للميلاد، من الورق البنى المموج الذى يحاكى لون المغارة الطبيعى، كتقليد يعود إلى القديس فرنسيس الأسيزى الّذى قام بتجسيد أول مغارة حيّة فى ميلاد سنة 1223 ب.م

وبداخل المغارة وضعت مجسمات متناهية الصغر ليوسف ومريم والرعاة والمجوس والنجمة والبقرة والحمار والأغنام والملائكة ورموز أخرى تشير إلى مغارة ميلاد «الطفل الإلهى»، وعلى مقربة منها كانت تتألق «شجرة الميلاد» بحلتها الجديدة، وألوانها المبهجة، وكان يقبع فى أحشاء المغارة «الطفل الإلهى» بملامحه البريئة، فى العراء، وجميع من حوله منقادا لإشراقة وجهه الملائكى، فنظرت من فوّهة المغارة، فتفتق ذهنى إلى حيلة لِأُخَلِّصَ الطفل «يسوع» من مصيره الذى سوف يلقاه، فقررت أن أسرقه، وفى غفلة من الجميع، مددت يدى الصغيرة المرتعشة، صوبه، وحملته برفق وتنهدت: «الآن خلصتك يا يسوع»، ومن ثمَّ أخفيته فى أحد جيوب معطفى السرية، ولم يمض وقت طويل، حتى أصيب جميع من بالمدرسة بحالة من الذعر والهلع، وطفوا يبحثون عن الطفل «يسوع» فى رحلة مضنية، فى جميع أرجاء المدرسة، بلا أدنى جدوى، حتى حضرت إلى معلّمتى «مارسيل»، لتسألنى عن الطفل «يسوع»، ﻓﺎﻣﺪدت ﻳﺪى ﺗﺠﺎه ﺼﺪرى، وأخرجته من جيبى، ونظرت إليها بحزن، فقالت لى متسائلة: «كيف تجرؤ على سرقة يسوع»، فأجبتها بكل براءة: «لكى أخلصه من هذا العذاب، الذى سوف يلقاه عندما يكبر، ومددت يدى المرتجفة، وربطت عليه برفق وبكيت»، فضمتنى إلى صدرها بحنية منتهية، وأكاد أجزم بأننى إلى اليوم، وأنا فى العمر الذى لى، فمازال منظر الطفل فى المغارة يثير فىّ ذلك الحزن البعيد، مازلت أرى المَسيح حَزِينا على دماء بنى الإنسان المراقة على الأرض».
● أديب مصرى