ممدوح رزق يكتب: «رعب هذه المحبة»: وليمة الموت

«رعب هذه المحبة»
«رعب هذه المحبة»

حينما نتحدث عن الموت فإننا لا نتحدث عن موت «الأشياء» وإنما عن الموت الاستباقى لـ «مفاهيمها»، أى تلك الظنون القهرية والمتبدلة التى نقررها كيقين لما نجرّبه.. الاعتقادات التى نرضخ بطريقة عفوية لتوظيفها كحكمة.. كـ «قيمة متعالية» ربما تقدر على تحقيق الرجاءات الملغزة الكامنة فى الأهداف والغايات التى نحاول أو نتمكن فعلًا من بلوغها: الحب.. الزواج.. المتعة.. الحرية.. الشغف.. الاستقرار.. النجاح.. وبالتأكيد أيضًا «العدالة» 

فى قصص مجموعة «رعب هذه المحبة» الصادرة عن دارهن بتقديم وتحرير أمير زكي؛ يحضر الموت كمبدأ تأسيسى للعالم لا كنهاية منتظرة، حتمية، لـ«حيوات» كائناته/ «أشيائه» العابرة.. لذا؛ فذلك الذى يُسمى عمرًا محددًا أو زمن وجود مؤقت لا يمتلك تعريفًا إلا بالكيفية الاستعبادية المتغيرة التى سيستخدمها الموت من أجل تأكيد نفسه.. الخام «الأزلى» الذى ستتجسد بواسطته كل لحظة «معيشة»، وهو ما يفرض بالضرورة على كل «بداية» أن تكون نهاية مخبوءة أو مخادعة.. الموت الذى يثبت وهم الحضور بقدر ما يرادف الغياب.


«عليك أن تواجه الأمر، النهايات تظل هى نفسها مهما قمت بتشريحها إلى أجزاء. لا تنخدع بأى نهايات أخرى لأن كلها مزيفة، إما عمدًا بنيّة مبيتة للخداع، أو بدافع من التفاؤل المفرط، إن لم تكن العاطفة الأكيدة. النهاية المنطقية الوحيدة هى المثبتة هنا: جون ومارى يموتان، جون ومارى يموتان، جون ومارى يموتان. عوضًا عن النهايات، فالبدايات دائمًا أكثر إمتاعًا. والخبراء الحقيقيون، مع ذلك، معروفون بتدعيم ما بينهما، بما أن ذلك الجزء الأصعب فى التعامل. هذا كل ما يمكن قوله عن الحبكات، والتى ليست فى النهاية سوى شيء يتبع شيئًا، ماذا ثم ماذا ثم ماذا».


تعرض مارجريت أتوود فى قصتها «نهاية سعيدة»، ترجمة: باسم عبد الحليم احتمالات حكائية متعددة لما بعد لقاء «جون» و«مارى » حيث يتحولان فى كل احتمال إلى شخصيتين مختلفتين تختبران حبكة مختلفة بما يخلق إغواءً تلقائيًا للتشارك فى لعبة التخيّل وإنتاج المزيد من الفرضيات وبالطبع تعديل التصورات السردية التى اقترحتها أتوود فى القصة.. لكن النهايات ليست هى نفسها فحسب «جون ومارى يموتان» كما تؤكد أتوود فى الكلمات الأخيرة من قصتها، وكما يمكننا التفكير فى المعنى الكلى للموت الذى يتقدم على «نهاية الحياة».

ولكن البدايات أيضًا «الأكثر إمتاعًا» واحدة؛ ذلك لأن «جون ومارى» ميتان فى كل حكاية، ويتبادلان موتهما منذ اللحظة الأولى، أو بالأحرى يستعمل الموت جسديهما «شيء يتبع شيئا» من أجل إسعاد نفسه.. هذا ما يحفّز الاستفهامات حول ما يجبرنا على التورط كمكونات لـ«وليمة الموت»، أو بوصف شوبنهاور للإرادة «الاندفاع الأعمى، غير العاقل باتجاه الحياة».

وما وراء الغريزة التى تقودنا دائمًا للتوحد الغافل بالمسارات المحسومة سلفًا للخذلان أو الموت المتنكر فى أشكال خبيثة للحياة.. خضوع عفوى لخيبة الأمل التى تتجاوز أسبابها المدركة أو تراوغ مبرراتها الملموسة حتى لو كانت خيبة فادحة على نحو بديهى بعد أن ألزمنا الموت بالإيمان بجدوى «مسايرة العالم».

كوعد غامض بالنجاة أو باقتناص سعادة حقيقية كاملة ربما تستمر زمنًا طويلًا أو تعاش بصورة خاطفة قبل الفناء، السعادة المجهولة التى تتخطى ما سعينا من أجله، هل نمتلك فى الأصل بديلًا للتورط؟ ألا يكمن الموت «كمادة للكينونة» فى مجرد «البقاء» مهما أقنعنا أنفسنا بأننا معزولون حقًا عن «الوجود» فى احتدامه الشامل؟ هل يمنحنا الوعى بالموت كشرط جوهرى للحياة نوعًا من الحصانة أو على الأقل قدرًا من المواساة الفعلية؟ هل يضاعف هذا الوعى من سطوة الموت على حضورنا المتوهم؟ هل يُعد تأمل «الوليمة»، بكل ما يمكن أن يعنيه ذلك وينجم عنه. هو السبيل الوحيد لأن تسبق الموت بخطوة مهما كان «انغماسك فى العالم» إذا ما اعتبرت أن الانتحار جانب من هذا الخضوع؟


إن عبارة «شىء يتبع شيئًا» فى قصة «نهاية سعيدة» تلح على استدعائها مع قراءة قصة «إنهم مصنوعون من اللحم» لتيرى بيسون، ترجمة: باسم عبد الحليم.. كأن بيسون يقدم فى قصته وصفًا نموذجيًا لـ «جون ومارى » فى قصة مارجريت أتوود:
«نعم، لحوم مفكرة، لحوم واعية، لحوم تحب، لحوم تحلم، اللحم كل شىء».
الموت نفسه هو ما يخط ذلك الوصف الساخر لـ«جون ومارى» فى حيواتهما المتباينة.. كأنه يتحدث عن «جثث» بوسعها أن تفعل كذا وكذا، ولكنها فى النهاية «جثث»، أيًا يكن ما تقوم به، فإن ذلك لن يغيّر من طبيعتها كـ«لحم» فقط، أى ليس بمقدوره أن يكون شيئًا آخر فارغًا من الموت.. الموت هو الذى يقود هذا «اللحم» لفعل ذلك كى يجعله يتظاهر بكونه غير ميت وهو ما يمعن فى إثبات موته.

حتى نهاية القصة تبدو وكأنها تصف الكون كمقبرة جماعية تليق بـ«لحوم / جثث» فى وحدتها المطبقة.. الوحدة التى تتمادى فى إحكام نفسها مع كل «تواصل» يكافح من خلاله الفرد العابر والمؤقت أن يكون «مطلقًا»، حيث لا استجابة منقذة يمكنها أن تمنح «جون ومارى » تلك الحياة الإعجازية المبهمة، المجردة من الموت:
«تخيل كم سيكون هذا الكون موحشًا وباردًا ولا يطاق، إذا كان المرء يحيا بمفرده، بمفرده تمامًا!».


إننا هكذا حينما نتحدث عن الموت فإننا لا نتحدث عن موت «الأشياء» وإنما عن الموت الاستباقى لـ «مفاهيمها»، أى تلك الظنون القهرية والمتبدلة التى نقررها كيقين لما نجرّبه.. الاعتقادات التى نرضخ بطريقة عفوية لتوظيفها كحكمة.. كـ «قيمة متعالية» ربما تقدر على تحقيق الرجاءات الملغزة الكامنة فى الأهداف والغايات التى نحاول أو نتمكن فعلًا من بلوغها: الحب.. الزواج.. المتعة.. الحرية.. الشغف.. الاستقرار.. النجاح.. وبالتأكيد أيضًا «العدالة» كما فى قصة «لم يكن جيم شريرًا عاديًا» لمارك توين، ترجمة: هبة الله هشام.


«كبر «جيم» وتزوج وأسس عائلة كبيرة، ثم دمرها تمامًا بضربة واحدة بين ليلة وضحاها، وجمع ثروة كبيرة مستعينًا بجميع وسائل الغش والاحتيال. والآن، هو واحد من ألعن أشرار قريته الأم، ولكنه من أكثر الشخصيات المرموقة عالميًا، بل وينتمى أيضًا للسلطة التشريعية. كما ترى، لم يحظ أى «جيمس» شقى فى كتب مدارس الأحد بهذا الحظ العجيب الذى حظى به هذا المجرم ذو الحياة الساحرة».


فى هذه القصة لا يكتفى مارك توين بتفكيك السرديات التاريخية «المبتذلة» حول الذنب والعقاب وإنما يقوّض موضوع «العدل الغيبي» نفسه الذى نتجت عنه كل هذه السرديات.. إن فكرة العدالة ميتة من قبل أن تكتسب ملامح وبصمات.

ولم يحضر ذلك الذى نطلق عليه «العدل» من الأساس حتى نشير إلى غيابه هنا وتمثله هناك.. نحن نشير فحسب إلى ما نتوسل فى أعماقنا أن يكون موجودًا بحق وبالتالى نحصل على الطمأنينة الناجمة عن الإقرار بثقة أنه غير موجود فى مكان آخر.

لأننا فى احتياج بالغ لذلك.. لأن الموت أجبرنا على أن نكون فى احتياج بالغ لذلك الزيف.. إن مارك توين وهو يتتبع متهكمًا الخطوات المنتشية للصبى «جيم» المنفلتة من «الندم» و«الجزاء» والتى وصلت بـ«حياته الساحرة» إلى أن يصبح شخصية مرموقة وصاحب سلطة؛ لا يمرر تحريضًا تقليديًا على التمعن فى «الحظ العجيب لشقي» لم تبق «آثامه» محمية من «العدل» فقط، وإنما حصد أيضًا مكافآت سخية على إجرامه المتصاعد؛ لكن «توين» ينشد التمعن فى الحقائق السهلة والمباشرة «غير المكلفة» التى لا نتفاوض بشأنها عن «الإثم» و«العدل» باعتبارها سرابًا مترفعًا.. محض تركيبات لغوية ـ كالتى تمتلئ بها كتب الأطفال. تمثل البدائل الاضطرارية، الأكثر سوءً، لما لم نقبض عليه أبدًا.


«فى هذه المرحلة من اللعبة، أنا متفائل جدًا. أعلم أن حجم «فيل» قد بدأ فى التقلص، ولذلك فأنا ممتلئ بشعور بالتفوق المتوقع تجاه المارة غير المبالين، ممن يلقون لنا بالبسكويت، معتقدين فقط فى وجود «فيل» الواضح للعيان، دون الشك للحظة أنه ليس أكثر من مجرد مظهر، يُخفى وراءه جوهرًا ما زال يكمن فى الانتظار».


إن بإمكاننا تفحص هذا الموت الاستباقى للمفاهيم بصورة حادة فى قصة «الجوهر والمظهر» لفرناندو سورنتينو، ترجمة: باسم عبد الحليم، حيث «الفيل» ليس أكثر من «لغة متسلطة» تربى الراوى أو «موته» بمعنى أصح، فى الوقت الذى يقوم خطابه على النقيض أى على كونه راعيًا لهذا الفيل حتى لو كان محكومًا بما صار إليه حجمه.

ولماذا لا نفكر فى أنه لا فرق بين ذلك الشيء الضخم الواضح للعيان وبين «الجوهر» الذى «ما زال يكمن فى الانتظار»؟ إن سورنتينو يداعب فى قصته الكيفية التى تتحوّل بها الكلمات الدالة على انسجام مصطنع بين الذات والعالم إلى تقنية أخلاقية لتكوين بنية ذهنية متماسكة، «واعدة» بما ينبغى أن يكون «خلاصًا مؤجلًا فى مكان ما» الكلمات التى لا تعدو سوى جنازات متوارية من المسميات والمعانى والفروق، تنسج المنطق والبداهة شكليًا لتحصين «المرجعية المثالية» من الشك، أو مثلما يجب على الموت إقناعك ضمنيًا بأن هناك ما يتجاوز الغياب بتأثيرات ماورائية محتملة كـ «الجوهر» و»المظهر».


ما الذى يكشف أيضًا عن «اللغة المتسلطة» فى هذه المجموعة؟ «النفس» كما فى قصة «الرجل الذى تزوج نفسه» لتشارلى فِش، ترجمة: باسم عبد الحليم؟ «المعرفة» كما فى قصة «الرضيعة» لدونالد بارتلمي، ترجمة: سامح سمير؟ «الأشياء» كما فى قصة «الطاولة هى الطاولة» لبيتر بيكسل، ترجمة: شيرى منتصر؟ حسنًا .. لنتخيل أن برودة الطفل الميت فى قصة «رعب هذه المحبة» لمارجريت دوراس هى ذاتها الناشئة عن عدم استيعاب كلمة «النفس» فى قصة «الرجل الذى تزوج نفسه»:


«هل أنا شخص من السهل العيش معه؟ وإن اضطررت إلى الحياة مع نفسي، فهل أستطيع ذلك؟».
أن شحوب الطفل الميت فى تلك القصة هو ذاته الذى يتملّك روح الأب أثناء مشاركته السعيدة فى تمزيق صفحات الكتب مع الطفلة فى قصة «الرضيعة»:
«والآن، أجلس أنا والطفلة جنبًا إلى جنب على الأرض، نمزق بسعادة صفحات الكتب».


لنتخيل أن موت الطفل فى قصة مارجريت دوراس هو ذاته أن تضطر لتبديل مسميات الأشياء من أجل «التغيير» فى قصة «الطاولة هى الطاولة»:
«شعر بالغضب الشديد، ورأى وجهه فى المرآة محتقنًا بالدماء، ورأى كيف يضيق عينيه، ثم ضم أصابعه إلى قبضتين ورفعهما وضرب المنضدة، أولًا كانت ضربة، ثم الأخرى، ثم توالت الضربات فوق المنضدة وهو مستمر بالصراخ: «يجب أن يتغير شيئًا».


الغضب الذى يفضى فى النهاية، بعد رحلة حزينة من استبدال الكلمات، تخللتها بعض الضحكات، إلى الصمت. الصمت الذى نستغرق فيه كليًا حين نقرأ هذه العبارة من قصة «رعب هذه المحبة»:
«قدومه إلى العالم تصادف مع موته».


كأننا نتتبع حياة الطفل الميت/ صمته الغاضب وهو الذى لم يعش على الإطلاق فى حياة/ موت تلك الشخصيات.. كان الطفل الميت يراقب اللعب داخل السيد «كورت» فى قصة «قواعد اللعبة» لبيتر بيكسل، ترجمة: أحمد الزناتي.

كان يمد يده داخل يد العجوز وهى تمر بخرقة صفراء فوق بيانو أمها لتنظيفه فتلامس مفاتيحه بمحض الصدفة دون أن يسمعها أحد قط وهى تدندن بأغنية فى قصة «العمة» لبيتر بيكسل، ترجمة: أحمد الزناتي. كان الطفل الميت يقول بصوت الجد أن الأسود غادرته بخفة لا تُحتمل، ولم يلمحها وهى تغادر فى قصة «الأسود» لبيتر بيكسل، ترجمة: أحمد الزناتي.


ربما ليست هناك لحظة إدراك لـ «وليمة الموت» تفوق تلك التى يتجاور فيها «الرعب» و«المحبة» فى سياق واحد، خاصة لو كان الأمر يتعلق بطفل «قدومه إلى العالم تصادف مع موته» أى انتهى مبكرًا مما سيتأكد منه الآخرون لاحقًا.

اقرأ ايضا | «الذئب التائه» تفوز بجائزة اتحاد الكتاب