أحمد شافعي يكتب: الناثر الأمهر

عزت القمحاوي
عزت القمحاوي

حدث فى لحظة ما بين سبتمبر 2001 حينما غيَّر أسامة بن لادن العالم بحفنة طائرات صوبها من مخبئه فى جبال أفغانستان على بضعة مبان فى الولايات المتحدة الأمريكية، وبين أكتوبر 2002 حينما حصل رجل اسمه إيمرى كيرتش على جائزة نوبل فى الأدب، أن قابلت عزت القمحاوى للمرة الأولى. أعرف هذا لأننى لم أزل أتذكر بشكل غائم أن من أوائل ترجماتى المنشورة فى أخبار الأدب ترجمات تخص ذينك الحدثين.


ينبغى أن يكون يسيرا علىَّ أن أحدد بمزيد من الدقة تاريخ ذلك اللقاء، إذ يكفينى الرجوع إلى أرشيفى بحثا عن تاريخ أول نشر لى فى أخبار الأدب، فأعرف فى أى أسبوع بالضبط من أى عام بالضبط فى أوائل هذا القرن جلست مع عزت القمحاوى لقرابة الساعة فى مكتبه بقاعة المراجعة المركزية (الديسك) لجريدة الأخبار. لولا أننى شخص بلا أرشيف. ولكن، أى حاجة بى إلى أرشيف كى أعرف الفضل لأشخاص معدودين فى حياتى، منهم عزت القمحاوى؟


وسط ضجيج المحررين فى ذلك اليوم، عرضت ترجماتى لقصائد من الشعر الأمريكى، وكنت أيامها غارقا حتى أذنى فى الشعر الأفروأمريكى، وبعض القصص القصيرة لكتاب أمريكيين، وكنت مفتونا بسلسلة تصدر سنويا فى الولايات المتحدة بعنوان «أفضل القصص القصيرة» حاوية مختارات من أفضل ما نشرته المجلات هناك على مدار عام. ولا شىء آخر، فقط قصائد، وقصص، لشعراء وقاصين غير معروفين بعدُ فى اللغة العربية. وبدا لى وقتها ـ مثلما سيظل يبدو لى ـ أنى أقدم بهذا فقط خدمة ثمينة.


أبدى عزت القمحاوى بلا تحفظ ترحابه بتعاونى مع الجريدة، مثلما أبدى بلا تحفظ رفضه لكل ما عرضته عليه يومها. وقال ما لم أنسه قط برغم ما يزيد قليلا على عقدين من الزمن: «نحن لا نريد أن تتحول أخبار الأدب إلى كشكول نصوص».

غير أنه سارع قائلا إنه سينشر لى بين الحين والآخر ترجماتى للنصوص الأدبية، لكنه يريد أيضا، وبصورة أكثر إلحاحا وانتظاما، متابعات للمشهد الثقافى الغربى، يريد حوارات وأخبارا وعروض كتب حديثة، يريد أوسع صورة ممكنة لما يجرى هناك. لم نستعمل فى حوار تلك الظهيرة كلمة «الصفقة»، لكننا أبرمنا صفقة ولا شك، ومضى كل منا على مدار بضع سنوات تالية ينفذ التزامه فيها: فكنت أترجم مواد المتابعات الثقافية، ونصوصا أدبية، وأبعث هذه وتلك إليه، (بالفاكس فى البداية ثم بالإيميل) فينشر أغلب ما أبعثه من الفئة الأولى، وكثيرا من الثانية، وبدت الصيغة مرضية تماما، وبخاصة لأن تواتر ظهور اسمى فى الجريدة الثقافية الأهم فى العالم العربى آنذاك، مكننى من أن أنشر ما أشاء فى أماكن أخرى كثيرة.

واستمرت الصفقة حتى 2005 عندما سافرت لأعمل فى سلطنة عمان، فوجدت نفسى بين عشية وضحاها مشرفا على ملحقين ثقافيين أسبوعيين بوسعى أن أترجم فيهما من القصائد والقصص ما يحلو لى، لكننى وجدتنى أفرض على نفسى الصيغة التى توصلت إليها مع عزت القمحاوى.

وربما بقدر أكبر من الصرامة، وميل أشد إلى الصحفى والثقافى على الشعرى والقصصى. وربما فى مثل أهمية الدرس الذى تعلمته من عزت القمحاوى، أعنى درس الموازنة بين الأدب ومختلف جوانب الثقافة الأخرى، أننى نلت من ذلك التدريب على الترجمة فى كثير من المجالات المعرفية خبرة لا أحسب أنى كنت لأنالها من ترجمة الأدب وحده.


لم يكن لقاء الديسك المركزى ذلك لقائى الأول بعزت القمحاوى إلا على المستوى المادى، لكننى لسنين قبل ذلك، كنت ألتقى به كل أسبوع فى عموده «بكل أدب» فى أخبار الأدب، ثم فى مقاله ـ كلَّ سبت إن لم تخنى الذاكرة ـ فى صحيفة «القدس العربى»، أى فى مقال داخل مصر، ومقال خارجها. 


ابتليت فى تلك الفترة بأن كنت ـ على حداثة عهدى بالوظيفة ـ بمثابة مدير لمكتب رئيس هيئة الاستعلامات، وبسبب ذلك كنت أطلع على كثير من الصحافة العربية وأرى كيف تتغير نبرة بعض الكتاب المصريين، أو بالأحرى كيف تتلون، بتغير جنسية الصحيفة التى ينشرون فيها. ومؤكد أن مقالة عزت القمحاوى فى أخبار الأدب لم تكن تتسع لمثل ما تتسع له مقالته فى القدس العربى، ففى الأولى كان يكتب لجريدة أدبية، تصدر عن مؤسسة مملوكة للدولة.

ولكن تلك الاعتبارات لم تكن تفرض عليه أكثر من الموضوع الذى يكتب فيه، وفى ما عدا ذلك لم يتغير شىء آخر، فالنبرة هنا وهناك واحدة، والكتابة هنا وهناك كتابة شخص مستقل التفكير (وكم كان هذا نادرا ولم يزل)، وشريف، (وكم كان هذا أندر ولم يزل). 


والحقيقة أن ذلك لم يكن سر هوسى بمتابعة المقالين، إلى أن توقف المحلى منهما لأسباب لم أعرفها. إنما السر يكمن فى الجمال، الجمال فى المقام الأول، جمال المفردة المطمئنة إلى مكانها فى الجملة السلسة حسنة التركيب، فى الفقرة منطقية البداية منطقية النهاية، فى المقال المشبع على قصره، والمقنع، والمحرض على التفكير.


كان من أكثر ما يبهرنى فى تلك المقالات ما قد أصفه بتلاشى المسافة بين القارئ والكاتب فى شخص عزت القمحاوى. فلم أعرف قط وأنا أقرأ له هل أقرأ لكاتب قرأ أم لقارئ كتب. كان حضور عقل القارئ مقترنا فى كل كلمة بقلم الكاتب، فشخصية كل منهما واضحة برغم شخصية الآخر.

وذائبة أيضا فى شخصية الآخر. فلا أحسب أن أحدا شعر قط أن عزت القمحاوى يستعرض قراءاته أو يدعى ثقافة غير حقيقية، ذلك أنه يبدو فى ما يكتبه عن الكتب أو المؤلفين كمن يكتب عن ممتلكاته الخاصة. يبدو وكأنه يستولى على ما يقرأ ويتخذه لنفسه، فكأن الأفكار أفكاره هو ولكن كتبها غيره.

ويبدو أيضا كأنه يقيم علاقة حميمية مع كتب ومؤلفين، حتى إذا ما كلمنا عن أحدها أو أحدهم بدا كمن يكلمنا عن كتاب أو كاتب عرفناه نحن من كتابته، بينما عرفه هو فى حياته اليومية وهو يأكل ويشرب ويحب ويهزل ويكشف من نفسه ما لا يمكن أن تكشفه الكتابة.


قليلا قليلا، مع سنوات من القراءة له، سوف أجد أنى أبحث عن عزت القمحاوى، كاتب المقال الفريد، فلا أجده إلا حيثما أجد كبار الناثرين فى عصرنا هذا، وليتنى أوسع اطلاعا على التراث العربى كله فأوسع الفئة التى أراه فيها لتشمل كل التراث العربى.


وقليلا قليلا، مع استمرارى فى القراءة له، والتفكير فى المقال بوصفه قالبا، ثم قراءتى لكتبه التى سبق بها إلى تأليف الكتب غير الخيالية أو الـnonfiction بحسب التسمية الشائعة بيننا الآن، سأضع عزت القمحاوى ضمن فئة أخرى من الأدباء أمتن لوجودها امتنانا شخصيا عميقا: فئة النبلاء.


لا أتذكر أين قرأت أن جورج بوش الابن قال فور أن بلغه خبر انهيار برجى مركز التجارة العالمى «اعثروا لى على صلة لصدام حسين بذلك». لم يفزع الرجل مما فزعت منه الإنسانية كلها فى تلك الظهيرة ـ بتوقيت القاهرة ـ من 11 سبتمبر 2001، أو لعله فزع فلم يمنعه الفزع من الحرص على تحقيق مكسب من جراء تلك الكارثة. أراد أن يستعملها فى تحقيق غرض شخصى وضيع، حققه على أى حال بعد ذلك ملفقا له أسبابا أخرى.


يبدو لى جورج بوش فى نفعيته المقيتة تلك شبيها بكثير من الكتاب أنزع عنهم صفة النبل لأراها فى مكانها اللائق مقترنة بأمثال يحيى حقى، ومحمد المخزنجى، ومحمد مستجاب، وقليلين آخرين منهم طبعا عزت القمحاوى.
عرف أولئك الكتاب جميعا أنهم يعيشون عصرا ضيق الأفق، لا يستطيع إن أحبَّ الرواية أن يحب القصة أو العكس، ولا يقبل من كاتب إلا التخصص الضيق فى إنتاج سلعة واحدة، ولكنهم عرفوا أيضا، ورضوا، بأنهم لا يستطيعون أن يكونوا فى مثل ضيق أفق عصرهم، ولا يستطيعون إلا أن ينصاعوا لمواهبهم ويتجهوا إلى حيث توجههم، وإن لم يغنموا من وراء ذلك مثل ما يغنم غيرهم.


كثير من رحلات محمد المخزنجى فى بلاد العالم كان يمكن أن تُنشر وتُقرأ وتُنسى، لو ضن عليها ببعض تأملاته وملاحظاته، مدخرا إياها لقصص أو روايات هى التى يتوهم كثيرون أنها الأبقى أو الباقية. لكنه لم يقدر. بقى حينما يكتب مادة يفترض أنها سريعة الزوال، لا يملك إلا أن يُسخِّر لها كل روحه، وكل مخزونه المعرفى.

وكل قدراته التأملية، غير مبال بسؤال البقاء، أو سباق المغانم الصغيرة. وربما يعرف الكثيرون الآن المخزنجى بقصصه دون تلك المقالات البديعة من أدب الرحلات التى كانت تُنشر فى مجلة العربى الكويتية (وصدرت لاحقا فى كتاب)، لكن المؤكد أن هناك من يرجعون إليها طلبا لما يعرفونه فيها من جمال، ومؤكد أن الحكم النزيه عليها هو أنها جديرة بالبقاء وقادرة على اجتياز اختبار الزمن، شأنها شأن قصصه، ومقالات أخرى له، وكتفا بكتف مع كل نتاجه الرفيع.


ومثل ذلك يصدق على عشرات ـ إن لم يكن مئات ـ من مقالات الراحل محمد مستجاب، وعلى كتب كاملة غير خيالية للكبير يحيى حقى، ويصدق بلا شك على كتابات عزت القمحاوى غير الخيالية.


لقد أدرك عزت القمحاوى ـ وكل هذه الفئة من الأدباءـ ببساطة أن الأدب أوسع كثيرا من القوالب القليلة المسلعة، وأن الكتابة فى قالب المقال ـ وهو من أكثر القوالب الأدبية مرونة واتساعا ـ يفسح المجال لأفكار ومواضيع وطرق فى العرض لا يمكن ـ أو يصعب كثيرا ـ أن تستوعبها قوالب الكتابة الخيالية.


أين من هذا النبل كتاب آخرون أتصورهم كلما ضلت فكرة الطريق وانتهت إليهم يحبسونها فى زنازين عقولهم المظلمة الخانقة، ولا يتوقفون عن تعذيبها مخيرين إياها بين الموت والزوال أو الرضوخ بالتحول إلى قصة قابلة للبيع والعرض فى مسابقات ملكات جمال القصص؟ بل أين من هذا النبل من يضنون حتى على أنفسهم بكتابة سيرهم الذاتية ما لم توقع إقرارا بقبولها التحول إلى روايات؟ 


مؤكد أن عزت القمحاوى دفع ثمن استقلاله هذا، شيئا من الغربة حتى فى وطنه، لكن المؤكد أيضا أنه كوفئ مع كل جملة كتبها بأعظم مكافأة يمكن أن ينالها كاتب: أنه كتبها، وأنه كتبها كما ينبغى أن تكتب. 

اقرأ ايضا | " القمحاوي" يناقش "يكفي أننا معًا" في مكتبة القاهرة الكبرى