كنوز| عتاب رقيق للأم التى لم تكرم ابنها!

محمود عوض  --  بليغ حمدى
محمود عوض -- بليغ حمدى

فى الثانى عشر من سبتمبر 1993 عم الحزن قلوب محبيه وعشاق موسيقاه التى لعلع بها أصوات المطربين، 29 عاما مضت على رحيل «بلبل الألحان» الشهير ببليغ حمدى، أكثر من غنى لمصر بألحانه، مات مقهورا، وظُلم كثيرا لأنه لم ينل التقدير الرسمى الذى يستحقه، لكن كاتم أسراره الكاتب الكبيرمحمود عوض يعاتب فى السطور التالية الأم التى لم تقدره ! 

«الأمومة ليست سلطة، إنها مسئولية، والأمومة ليست امتيازا، إنها عبء، والأمومة ليست ضمانا ضد الخطأ، وإنما هى القدرة على الرجوع الى الصواب، والأمومة ليست واقعة مادية تؤدى بالضرورة الى الحصول على الحب ثمنا ومكافأة، وإنما الأمومة هى أولا إعطاء الحب، حتى بغير مقابل ، وفى علاقة مصر بأبنائها هناك مشاعر مؤكدة بالأمومة، إنها ليست مشاعر خيالية ورومانسية وهائمة تربطنا بمصر كأبناء لها، لأن مصر فى حياة كل منا أم حقيقية موجودة دائما فى حياتنا اليومية، وتترجم نفسها بعلاقات محددة تربطنا بهذا التراب، وهذا الشارع، وهؤلاء الجيران، وهذه الأسرة، وهذه الصحيفة، وهذه المدرسة .

فى هذه الحدود.. وقع خطأ من مصر نحو واحد من أبنائها فى الاحتفال الذى أصبح سنويا بعيد الفن، كرمت مصر عددا من أبنائها الذين ترجموا حبهم لمصر إلى فن، فاستحقوا من مصر ما تلقوه من تكريم وأكثر، لكن واحدا سقط سهوا من القائمة، وهنا تبدأ المرارة، لم يشكُ إلى أحد، ولم ينتظر شيئا من أحد، ولا توقع مكافأة من متعهد، أحب مصرلأنها أمه، ونحن نشكو مصر لحسابه، لأننا أبناؤها، الفنان الكبير الذى سقط سهوا، كان أكثر من ملأ مشاعرنا حماسا وصدقا فى حرب أكتوبر، كانت حربه الشخصية جدا، بمثل ما كانت نكسة 1967 هزيمة شخصية لـ 35 مليون مصرى، ولأنه وطنى، وفنان، وموسيقى، فإنه استخدم موسيقاه للتعبير عن وطنيته، فكانت النتيجة هى أحلى الأغانى الشعبية التى بقيت من حرب أكتوبر، أغانى استمعنا إليها بأصوات عبد الحليم ووردة والمجموعة، وحينما يعبر الابن عن مشاعره نحو أمه فإنه لا ينتظر منها ثمنا ولا مقابلا ولا تكريما، إنه يعبر لأنه يحس، ويحس لأنه يحب، ويحب لأن هذا هو انتماؤه وقدره، لكن، ماذا إذا كانت الأم نفسها قد بدأت بتكريم أبنائها ؟ ماذا إذا اختارت الأم واحدا من أبنائها تكرمه دون الآخر، بليغ حمدى الذى سقط سهوا من تكريم فنانى أكتوبر سوف يظل دائما ابنا لمصر، فنانا فى حبها وعاشقا فى إخلاصه لها، فقط كنا نتمنى أن نسمع من الأم كلمة حب لابنها الذى أحبها على بياض، فلم ينافسه فى حبها أحد».

كانت هذه هى كلماتى التى فوجئ بها بليغ منشورة كباقى القراء، وفى رد فعله كادت الدموع تفر من عينيه كطفل صغير، نعم، يومها كاد يبكى، لكنه أبدا لم يتذمر أو يشكُ، فى الواقع إنه استمر كعادته يغنى لمحبوبته التى عذبته أحيانا ودللها كثيرا وسكنته دائما، يغنى لمصر، حتى بعد عودته من غربته الاضطرارية، وقبل فترة وجيزة من رحلته الأخيرة، يتغنى بمصر بصوت شادية: «ادخلوها آمنين.. مصر بلد المخلصين».

مصر بالنسبة لبليغ هى الناس البسطاء، إنهم كل جائزته، وهم أيضا سر عذابه، وفيما بين «يا حبيبتى يا مصر» و«مصر بلد المؤمنين» كانت مياه كثيرة قد جرت فى نهر النيل، وبليغ نفسه، بعد أن تنكر طويلا وراء أسماء بعض المؤلفين، أصبح يكتب أغانيه بنفسه، سواء بحكم الضرورة أو الاختيار، فقد سجل نفسه مؤلفا غنائيا باسم «ابن النيل»، والكتابة لم تكن بعيدة تماما عن متناوله، فالذين يحبون القراءة يصبحون غالبا محبين للكتابة، وذات مرة كنا عائدين من الإسكندرية فى سيارته، وحينما سألنى عن السبب فى حرصى على التواجد فى القاهرة قبل السادسة مساء، شرحت له أن الرغبة تجددت لزيارة د. طـه حسين، من هذه اللحظة وحتى أوصلنى بليغ إلى فيلا «رامتان»، تدفق حديث بليغ بلا انقطاع عن انبهاره منذ الصغر بأسلوب طه حسين، فهو يرى أن أسلوبه فيه من الموسيقى ما كان كفيلا بجعله موسيقارا كبيرا لو لم يتجه إلى الأدب. 

محمود عوض « أخبار اليوم » 16 أكتوبر 1976

إقرأ أيضاً|زواج وطلاق مفاجئ.. مآسي لبلبة وماجدة ومريم فخر الدين