حديث الاسبوع

المؤشرات الاقتصادية... هل يتعلق الأمر فعلا بمجرد خرافة ؟

عبدالله البقالى
عبدالله البقالى

عبدالله البقالى

اعتدنا أن نسوق للأرقام والإحصائيات لتشخيص الأوضاع الاقتصادية فى أقطارنا وفى دول العالم، لأن المعلوم والمعروف أن هذه الإحصائيات تمثل لوحة قيادة فى إدارة شئون الحكم والاقتصاد. لذلك يظل الرأى العام الوطنى والدولى مشدودا باستمرار إلى تقلبات هذه الإحصائيات ومتابعة مؤشراتها نزولا وصعودا. لكن ومع كل ما تكتسيه هذه الأرقام من أهمية بالغة فى نظر الخبراء الاقتصاديين والماليين والمختصين فى شئون السياسات العمومية فى الدول وفى العالم، فإن الشعوب لا تحس بانعكاس حقيقى ومباشر على تحسن هذه المؤشرات الماكرو اقتصادية و الميكرو اقتصادية على أوضاعهم المعيشية،

سواء تعلق الأمر بمعدلات النمو أو البطالة أو الهشاشة الاجتماعية أو التضخم أو الادخار أو تحسن مؤشرات مناخ المنافسة والاستثمار، لينظر المواطن العادى إلى هذه الإحصائيات كأرقام جامدة لا تعنيه فى شيء. والأدهى من ذلك يبقى يتابع باستغراب شديد تباينها واختلافها من حين إلى آخر، حينما يتم الترويج لإحصائيات متضاربة و متباينة بين الجهات التى تدعى الاختصاص من منظمات دولية مختصة وخبراء حول نفس المؤشرات ، فهذه جهة تسوق لمعدل نمو وطنى أو عالمى معين، و تلك جهة أخرى تروج لمعدل نمو مختلف يهم نفس الاقتصاد و نفس الأوضاع، بل وفى التراجع الذى تعلنه جهات مختصة عن أرقام سبق لها إعلانها بسبب تغير المعطيات التى استندت إليها، فى تناقض صارخ يمكن تفسيره باختلاف فى اعتماد المراجع، أو بتباين فى التقديرات، ومنها أيضا ما قد يكون مرده اعتبارات أخرى بعيدة عن الاقتصاد والتنمية.


وتسود التخوفات من تقلبات هذه الإحصائيات، لأن الاعتقاد السائد يستند إلى أن نمو الناتج المحلى الخام مثلا يعنى تحسن الأوضاع الاقتصادية بما ينعكس إيجابًا على الأوضاع الاجتماعية فى البلاد، وأن تراجع هذا المعدل يعنى ترديا فى هذه الأوضاع بما يهدد بتنامى الغضب الاجتماعى و ينذر بحدوث اضطرابات اجتماعية ترتبط بالاستقرار السياسى العام.
و الحقيقة ألا أحد يملك إلغاء هذه القاعدة العلمية الدقيقة، لكن البسطاء من عامة الناس لا يفقهون فى هذه التفاصيل التقنية الدقيقة، وينظرون إلى أوضاعهم الاقتصادية والاجتماعية من زاوية تحسن أحوالهم المعيشية العامة، ومدى قدرة السياسات العمومية والبرامج المعتمدة فيها على الاستجابة إلى حاجياتهم اليومية المرتبطة بالشغل والتعليم والصحة والحماية الاجتماعية و تحقيق الرفاه الاجتماعي. وعلى هذا المستوى لا يلمس عامة الناس انعكاسا إيجابيا مباشرا على أوضاعهم.


وفى ضوء ذلك يجد النقاش حول مصداقية و فعالية الإحصائيات المتعلقة بالأوضاع الاقتصادية والاجتماعية مشروعيته، لأن هذا الأمر إذا كان مسلما به من الناحية التقنية، فإنه يبقى محل شكوك كبرى من حيث انعكاسه على الواقع المعيش، وهذا ما يفسر الاختلافات والتباينات بين الخبراء أنفسهم فى هذا الصدد، حيث طفت مؤخرا على ساحة النقاش العام فى هذا الشأن آراء مخالفة ترى من وجهة نظرها أن هذه الإحصائيات ( مجرد خرافة ) وأن ما يعرف مثلا بـ ( النمو الاقتصادى ) ليس ضروريا و لا حتميا لتحسين أوضاع عامة الناس. وجاء فى مقال متخصص نشرته صحيفة ( الواشنطن بوست ) أن «النمو الاقتصادى لا يمكن أن يتواصل بشكل دائم، وإلى ما لا نهاية.

كما أن استمرار النمو لا يعنى بالضرورة أن حياة الناس تسير نحو الأحسن فيزدادون رفاها « و تنفذ وجهة النظر هذه إلى عمق الإشكالية حينما يتساءل أصحابها عما إذا كان النمو بصيغته الحالية يفضى إلى زيادة الثروة، أم أنه يجعل النفقات أكثر من الأرباح؟ وتفسر شرعية هذا السؤال بأن خبراء الاقتصاد الذين يتبنون نظرية تقليدية لا يقيمون وزنًا لجانب التكلفة، أى تكلفة النمو الاقتصادى دون أى اعتبار لتأثيرات هذا النمو على الحياة البشرية فيما يتعلق بالمناخ مثلا وبتسريع تعميق الهوة بين الطبقات والفئات وبحدوث الاختلالات فى الفوارق المجالية وبين الجهات والمناطق، لأنهم يركزون على رقم الناتج المحلى الخام بمعزل عن محيطه البيئى والاجتماعي. و تستدل وجهة النظر هذه بالتكلفة الغالية والباهضة التى تنتج عن النظر الأحادى المعزول إلى النمو بحجم الكوارث المرتبطة بمعدلات الوفيات المترتبة عن حوادث السير والتغيرات المناخية الخطيرة التى تتجلى فى مظاهر الجفاف والحرائق والتلوث البيئى وتأثيرات الصناعات الحديثة على الصحة العامة. و تنبه إلى الخطورة البالغة التى ترافق السعى نحو الرفع من معدل النمو مع عدم مراعاة خطر تدمير البيئة.


فالنهوض بصناعات السجائر والخمور مثلا قد يحدث آلاف مناصب الشغل و يخلص ملايين الأشخاص من البطالة وضيق العيش، لكن تكلفتها تكون مرتفعة جدا على الصحة العامة فى البلاد و تتسبب فى عجز البرامج الصحية العامة على التجاوب مع الحاجيات المطلوبة.
و من جهة ثانية فإن قضية انعكاسات تحسن المؤشرات على الاقتصادات الوطنية يمكن النظر إليها من جانب آخر يتعلق بحجم الاستفادة من هذا التحسن من طرف الجهات المعنية. والتساؤل عما إذا كانت أوساط اقتصادية و مالية معينة ممثلة فى الشركات الكبرى و العملاقة هى المستفيد الأوفر حظا من تحسن تلك المؤشرات، وهى الجهة التى تحصل على الجزء الأكبر من كعكة الاقتصاد العالمى ، وأن عامة الناس يبقى لهم الفتات مما تلهفه تلك الشركات، وأن الترويج للأرقام و للإحصائيات المرتبطة بتحسن المؤشرات الاقتصادية مجرد تخدير للرأى العام فى مختلف أنحاء المعمور؟
إنها أسئلة مشروعة ، و انشغالات مبررة إزاء قضية مركزية لا يبدو أنها محل اهتمام كبير من طرف الأوساط الاقتصادية و المالية المتخصصة.