محمد سلماوى يكتب: محاوراً نجيب محفوظ: وجه مصر.. وسحرها

محمد سلماوى يكتب : محاوراً نجيب محفوظ: وجه مصر.. وسحرها
محمد سلماوى يكتب : محاوراً نجيب محفوظ: وجه مصر.. وسحرها

مصر ليست مجرد قطعة أرض، مصر هى مخترعة الحضارة، لذلك فهى فى التاريخ الإنسانى بمثابة البلد الأم ومهما آل إليه أمرها فإن ذلك يجب أن يحفظ لها اعتبارا خاصا واحتراما بين الأمم تماما مثل ما يستحقه الأب والأم من اعتبار

 أجد فى نفسى ميلا أكثر إلى مصر الإسلامية، التى تختلف عن إيران الإسلامية أو السعودية الإسلامية أو أندونيسيا الإسلامية أو أفريقيا الإسلامية، وربما كان ارتباطى بها لأسباب شخصية، فأحياء القاهرة الإسلامية القديمة هى التى ولدت بها وتشربت بروحها وكل حركة من حركتها تمثلتها تماما

في عام 1996 صدر كتاب بعنوان «وطنى مصر» بالفرنسية..
تعتمد مادة هذا الكتاب على حوارات ممتدة بين كاتب نوبل العربى الشهير نجيب محفوظ، وصديقه الأديب المصرى الشاب ـ وقت إعداد الكتاب ـ محمد سلماوى، وهى حوارات استغرقت أكثر من 40 ساعة مسجلة يتحدث فيها محفوظ عن مصر التى يعرفها أكثر من أى شخص آخر: يعرف تاريخها وحضارتها ويعرف ناسها الذين يسكنون الحوارى والأزقة فى المدينة القديمة والذين تمتلىء بهم رواياته الـ50، كما يعرف أيضا مشاكلها الحالية من الأزمة الاقتصادية إلى التطرف والإرهاب.
وبما لم يستطع أحد أن يخرج ما فى محفوظ مثل محمد سلماوي، فهو أديب وكاتب مسرحي، وهو من أقرب المقربين إلى محفوظ حيث اختاره ليكون ممثله الشخصى فى احتفالات نوبل عام 1988 التى لم يستطع محفوظ حضورها، فكان محمد سلماوى هو المؤتمن على كلمة محفوظ التى قرأها بهذه المناسبة فى الأكاديمية السويدية بستكوهولم.
إلا أن محمد سلماوى ينتمى لجيل آخر غير جيل محفوظ، وهذا الاختلاف يولد شرارة حديث شيق وحى بين الرجلين، وقد كان هذا هو السبب الذى دعا محفوظ لاقتراح صيغة الحوار مع سلماوى لهذا الكتاب الذى يعتبر الأول من نوعه فى اللغة الفرنسية عن دار «لاتيس»، فخلافا لما صدر من قبل يعتمد هذا الكتاب على موضوع واحد هو مصر، مما يعطى فرصة نادرة للتعمق فيما يمثله «البلد الأم» كما يسميه محفوظ فى الحوار.. البلد الذى اخترع الحضارة.
 وفيما يلي مقاطع من الحوارات التى نشرت فى الكتاب.

وجه مصر
إن ارتباط محفوظ بمصر ليس ارتباطا معنويا فقط، وإنما هو أيضا ارتباط جسدى حيث لم يبرح الكاتب الكبير مصر إلا ثلاث مرات طوال 85 عاما، وقد كان فى كل مرة منها مضطرا لذلك.

أولاها إلى اليمن حيث طلبت القيادة السياسية فى الستينات من كبار الكتاب الإطلاع على الحرب التى كانت دائرة هناك، والتى كانت مصر طرفا فيها وإبداء رأيهم فى جدوى تلك الحرب.

والمرة الثانية فى نفس الفترة حين صدر قرار بتشكيل وفد من الكتاب المصريين لزيارة يوغسلافية كنوع من التبادل الثقافى بين البلدين اللتين كانت هناك علاقة صداقة قوية تربط بين قائديهما عبدالناصر وتيتو.


وقد امتنع محفوظ بعد ذلك عن السفر خارج مصر إلى أن اضطر عام 1991 لإجراء عملية جراحية أخذته إلى عاصمة الضباب: لندن على أن ما ينبغى التأكيد عليه هو أن نجيب محفوظ مع ذلك هو أكثر الكتاب المصريين انفتاحا على حضارات العالم وآدابها، فهو لا يعرف الشوفينية قط وتأثره بالأدبين الفرنسى والإنجليزى لا يخفيه عن أحد.


أسأل نجيب محفوظ عن مصر، ذلك البلد الذى أصبح يمثله ويرمزه له أكثر من أى كاتب آخر فى التاريخ الحديث، حتى أصبح نجيب محفوظ ومصر يكادان يكونان مترادفين، فمن هى مصر بالنسبة له وكيف يراها؟ هل هى مجرد قطعة الأرض التى نشأ عليها أم هى أكثر من ذلك؟


فيقول الأستاذ:
لا، مصر ليست مجرد قطعة أرض، مصر هى مخترعة الحضارة، لذلك فهى فى التاريخ الإنسانى بمثابة البلد الأم ومهما آل إليه أمرها فإن ذلك يجب أن يحفظ لها اعتبارا خاصا واحتراما بين الأمم تماما مثل ما يستحقه الأب والأم من اعتبار حتى وإن فاقهما الأبناء فى الثراء أو فاقوهما فى العلم أو القوة.


ولأن مصر هى أقدم الحضارات فقد توالت عليها الأمم جميعا بعد الفراعنة جاء الفرس ثم الإغريق ثم الرومان ثم العرب وهكذا، وقد كان من نتيجة ذلك أن أصبح وادى النيل كتابا عالميا لجميع الحضارات، فكل حضارة جاءت وتركت توقيعها فى هذا الكتاب، ففى القاهرة تستطيع أن تشاهد الآثار المصرية القديمة والرمانية والإغريقية والإسلامية إلى جانب الحضارة الحديثة.


ثم يرفع الأستاذ أصبعه قائلا: هنا تاريخ البشرية كله فلا أعتقد أن ذلك التاريخ تجمع لبلد آخر كما تجمع لمصر، وقد احتضنت مصر كل هذه الحضارات فى أمومة واضحة ولولا ذلك لما مكثت فيها هذه الحضارات ولما تركت فيها بعضا منها.


 ما الذى أهل مصر لذلك؟
إنه قدرها وحظها فى الحياة وما كتب لها أن تلقاه وتتعامل معه بخيره وشره.
 يقال إن نابليون بونابرت قال إن مصر أهم دولة فى العالم.
بالنسبة لرجل جاء لكى ينشىء امبراطورية عالمية فليس غريبا أن يكون قد قال ذلك لأنه وجد فى مصر المرتكز الحقيقى لهذه الامبراطورية.


إن ذلك الموقع الجغرافى الفريد أعطى لمصر ميزة بين الأمم توازى ميزة حضارتها بين سائر الحضارات، فموقعها مفصلى فى نقطة التقاء قارات العالم الثلاث الكبرى والذين كانوا فى الجزء الأكبر من تاريخ الإنسانية هم العالم كله.


من الغريب أنه مثلما ترك الغزاة آثارهم فى مصر فمن الملاحظ أن مصر قد تركت هى الأخرى تأثيرها على هؤلاء الغزاة دون أن تبرح مكانها، من الإسكندر الأكبر إلى بونابرت، فقد تأثر الإسكندر بمصر لدرجة أنه سمى نفسه ابن آمون إله المصريين، ولبس لباس الفراعنة وأوصى بعد موته بأن يدفن فيأرض مصر.


أما نابليون فقد عاد إلى فرنسا حاملا معه ما أصبح يعرف باسم «الولع بمصر» Egyptomarie فبدأ عهد من الدراسات المصرية غير مسبوق، وتغلغلت مصر فى كل جوانب الحياة فى فرنسا حتى فى الأثاث، فقد تحولت طرز لويس الخامس عشر والسادس عشر إلى طراز الامبراطورية الذى ملأته الأشكال الفرعونية، ثم عاد نفس الطراز بعد ذلك بسنوات يلح مرة أخرى فيما عرف بعودة مصر retour d'Egypte.


فيقول الأستاذ:
إن لمصر سحرا خاصا لا يستطيع أن يتحدث عنه إلا من عرفه، ولقد جاءها الغزاة بالجيوش والأساطيل فغزتهم هى بالحضارة لأن حضارتها كانت أقدم وأعرق من حضارة كل من غزاها.
إن قدرة مصروصلت إلى حد استيعاب كل من غزاها حتى أصبح  الغزاة يتشبهون بها، ويتخذون من عاداتها بل ومن دياناتها عادات وديانات لهم، وقد جعلها هذا فى حقيقة الأمر غير محتلة، لأن الحاكم الأجنبى كاد يصبح فى النهاية مصريا وخير مثال على ذلك كليوباترا مثلا.


ولم يكن هذا هو الحال فى التاريخ القديم فقط، وإنما أيضا فى العصر الحديث، فإذا أخذنا على سبيل المثال محمد على ذلك العسكرى الألبانى الذى استقل بمصر وحكمها هو وأبناؤه، وقد كان آخرهم فاروق الذى خلعته ثورة 1952.. من ذا الذى يستطيع أن يقول إنهم لم يكونوا مصريين؟ إن محمد على هو الذى أخرج المصريين من ظلمة التاريخ إلى مسرح الحياة، ورفض الشعب للملك فاروق فى نهاية عهده لم يكن من منطلق أنه ليس مصريا ولكن بسبب فساد حكمه.


لكنى ألاحظ فى بعض رواياتك أن هناك تفرقة بين التركى والفلاح، وأذكر فى الثلاثية على سبيل المثال أن تقدم أحد أبناء الفلاحين للزواج من بنت إحدى العائلات ذات الأصل التركى وكانت مصر فى ذلك الوقت جزءا من الامبراطورية العثمانية، وقد طرد شر طردة بعد أن رفضته العائلة، فكيف تزوج العائلة التركية ابنتها لأحد أبناء الفلاحين؟! وحين علموا أنه قد تعلم بعد ذلك فى الخارج وحصل على أكبر وأصروا على رفضهم.


نعم ولكن تلك كانت تفرقة طبقية أكثر منها تفرقة عرقية، فتلك العائلة التى رفضت العريس الفلاح لم تفعل ذلك بسبب أصولها التركية، وإنما بسبب الفارق الطبقى بينها وبين عائلة العريس.


إن خاصية استيعاب من يأتى من الخارج التى تتحدث عنها هى خاصية مصرية صميمة، وقد أضيف إلى محمد على الجنرال الفرنسى دى سيف de seve الذى استوطن مصر، وأصبح سليمان باشا الذى يقود الجيوش المصرية.


لكنى أذكر مثلا حين زرت استراليا أننى عجبت لأن معظم المدن الاسترالية تقع على السواحل أما قلب القارة فيكاد يكون خاليا، وقد قال لى المؤرخ الأسترالى الشهير مانينج كلارك: إن السبب فى ذلك أن كل من جاءوا إلى استراليا جاءوا رغما عنهم، لذلك ظلوا شاخصين بأبصارهم عبر البحر إلى البلد الأم إنجلترا، وظل بداخلهم حنين قوى للعودة إليها، لذلك سكنوا الشواطىء ولم يدخلوا قلب القارة.


فيقول الأستاذ:
والغريب فى الأمر أنك إذا قارنت مساحة مصر بمساحة أستراليا وجدت أن مصر هذه ذات التاريخ العريق والحضارة السامية ليست سوى شريط رفيع على جانبى النهر وبقية أرضها صحراء خالية.. لكن المسألة فى النهاية ليست مساحة الأرض وإنما هى الروح التى تسكن تلك الأرض، فهذا الشريط الرفيع هو الذى خلق القيم الأخلاقية وهو الذى عرف الوحدانية الدينية Monotheisme وهو الذى ابتدع الفنون واخترع العلوم وبدأ أساليب الإدارة، وقد كانت تلك العوامل كلها هى التى أعطت للمصرى القدرة على البقاء فى الوقت الذى اندثرت فيه حضارات وشعوب أخري.


وأين يكمن السر فى هذه القدرة؟
السر يكمن فى أن المصرى كان أول من أخرج الحياة من الأرض، لذلك فهو حريص على هذه الحياة ويعرف كيف يحافظ عليها، إن المصرى القديم هو مكتشف الزراعة وهو أول من قدس الخضرة.

وهو بهذا المعنى أو «الخضر» الذين عرفهم التاريخ الإنساني، ولقد شعر المصرى على مر العصور أن مهمته هى أن ينمى الحياة لأنه خلقها ولقد حول الأرض إلى نبات تنمو به الحياة التى يقدسها.

يقال أن المصرى هو أكثر من قدس الموت وأفنى حياته فى بناء القبور و..فيقاطعنى:
غير صحيح، إن الموت الذى اهتم به المصرى القديم حين تتمعنه تجده امتدادا للحياة التى عرفها وأحبها وقدسها، فأراد أن يأخذها معه إلى العالم الآخر، لذلك تجد فى مقابر المصريين جميع أنواع الطعام والشراب بل والراقصات والأشعار وعازفى الموسيقى ورحلات الصيد وخلافه، وهذا ليس الفناء الذى يتصوره العالم الحديث.

إنما هو انتقال بالحياة ذاتها وبكل مباهجها إلى العالم الآخر، لذلك فحين يفنى المصرى حياته فى تحنيط أمواته، وفى بناء القبور لهم فهو بذلك إنما يتحدى الفناء لتمتد الحياة فيما بعد الموت.


ثم يضيف الأستاذ: النقطة الثانية هى أن المصرى هو مخترع الأخلاق، ولقد سبق بذلك أدياننا السماوية، والأخلاق ليست فقط نظاما للتعامل بين الناس ولكنها هى التى تنظم المجتمع وتحميه من الفوضى والفناء.


أى الأمصار؟
وأقول لنجيب محفوظ:
حين تتحدث عن مصر، عن أى الأمصار تتحدث فهناك مصر الفرعونية، ومصر اليونانية الرومانية، ومصر القبطية ومصر الإسلامية ومصر الحديثة، ثم هناك أيضا مصر البحرمتوسطية ومصر الإفريقية ومصر الآسيوية.


إن مصر هى كل ذلك، وغير ذلك لأن تلك الصفات ليست قائمة بذاتها، وNنما حين قدمت إلى مصر وامتزجت بمصر صارت شيئا آخر ومصر كما أعرفها ليست نتاجا لجمع كل الصفات.

وإنما هى نتاج جديد ومنفرد نشأ عن هذا الامتزاج، تماما كالأكسجين والهيدروجين اللذين لا يكون اجتماعهما هو أكسجين زائد هيدروجين، وبقدر اختلاف الماء عن الغاز كان اختلاف مصر الحالية عن كل من هذه الهوايات الحضارية، فالمعمار الإسلامى فى مصر مثلا ليس هو المعمار الإسلامى فى تركيا أو فى المغرب، والكنيسة القبطية ليست هى الكنيسة المسيحية الأوروبية.


إن للشخصية المصرية جوانب متعددة لاشك فى هذا، لكنها كلها مصر وليست شيئا آخر.


وأى تلك الجوانب أقرب إلى قلبك؟
إنى أجد فى نفسى ميلا أكثر إلى مصر الإسلامية، التى تختلف عن إيران الإسلامية أو السعودية الإسلامية أو أندونيسيا الإسلامية أو أفريقيا الإسلامية، وربما كان ارتباطى بها لأسباب شخصية، فأحياء القاهرة الإسلامية القديمة هى التى ولدت بها وتشربت بروحها وكل حركة من حركتها تمثلتها تماما وعشقتها تماما، وأقصد الأحياء المملوكية والأيوبية والفاطمية بشكل خاص.


ثم تليها عندى مصر الفرعونية التى هى الأصل وبداية الحضارة. والحقيقة أنك حين تتكلم عن مصر القديمة يتسع القول، فهى إلى جانب اكتشافها الزراعة فإنها أيضا مخترعة الأبجدية، وهى كما قلنا أول من وضع الأخلاقيات وبشر بالقيم السامية فكان أن بزغ فيها الضمير الإنساني.


وماذا أضافت مصر الإسلامية إلى مصر الفرعونية؟
- أضافت فى المقام الأول العقيدة، فحين فتح الإسلام مصر لم يأت إليها بحضارة جديدة أو متفوقة على حضارتها، وإنما أتى إليها بعقيدة سامية وبكل ما كانت تمثله تلك العقيدة من مبادىء  ومثل، ومنها ما لم تكن مصر القديمة قد توصلت إلى تحقيقه.

وهو مبدأ العدالة والمساواة بين كافة البشر والتى تعتبر ركنا أساسيا من أركان العقيدة الإسلامية التى لا تعرف فرقا بين الأسود والأصفر والأبيض، ولا فرق بين الغنى والفقير، ولا بين الحاكم والمحكوم وعمر بن الخطاب كان خير تجسيد لذلك.


إن الإسلام جاء إلى مصر بالعقيدة، كما ذهب إلى الشام بلاد الرف، فمثلما كانت لمصر حضارتها كانت فى الشام حضارة بيزنطية، وفى إيران كانت الحضارة الفارسية. ولو كانت العقيدة الإسلامية ضعيفة لانغلقت على نفسها، ورفضت تلك الحضارات، لكنها على العكس كان دين عقل ومعرفة وعلم فاستخلص من هذه الحضارات أحسن ما فيها، وترجم وأضاف إليه فكانت الحضارة الإسلامية، ولذلك نجد أن مراكز ازدهار الحضارة الإسلامية ونموها هى مراكز حضارة القاهرة ودمشق وبغداد وقرطبة.


 وماذا عن مصر القبطية؟
 إن مصر القبطية تعتبر نسبيا فترة قصيرة فى حياة مصر بالمقارنة مع آلاف السنين التى عاشتها الفرعونية قبل ذلك أو الإسلامية بعد ذلك، لكنها مع ذلك كانت فترة هامة جدا أثبتت أن الروح المصرية التى ذكرنها قبل ذلك لا تموت أبدا مهما.

وصل الاحتلال فى محاولاتها لطمس الهوية المصرية. إن مصر القبطية هى الرد الوطنى على الاحتلال الرومانى الذى رغم أنه دام طويلا إلا أن رفضته واتخذت لنفسها دينا مغايرا لمعتقدات الإغريق والرومان، ولرغبتهما وتحملت فى سبيل ذلك أهوالا كبيرة، ولا عجب أن تلك الفترة شهدت ثورات وتمردات كانت حلقات متصلة للمقاومة الشعبية فى ذلك الوقت.


ثم يقول الأستاذ:
إن القبط هم الذين حافظوا على روح مصر القديمة، ومصر القبطية لذلك هى همزة الوصل بين التاريخ المصرى القديم والتاريخ الحديث. وحين وصل الإسلام مصر وجد أن حضارتها القديمة مازالت قائمة فخلصها من الظلم الرومانى ومنح الأقباط حقوقهم ثم اندمج مع مصر إلا أن أعمدة الإسلام المصرية كانت هؤلاء القبط الذين دخل الكثير منهم الدين الإسلامي، واتخذت الكنيسة القبطية اللغة العربية لغة رسمية لها بعد أن أصبح يتحدثها كل سكان مصر، ولقد تركت لنا مصر القبطية العديد من الآثار والأعمال الفنية المتميزة.


ثم يذهب نجيب محفوظ بفكرة بعيدا ليعود بعد لحظات قائلا:
إن لمصر القبطية هوى خاصا فى نفسى يعود فى جزء منه بلاشك إلى زننى مصري، لكنه فى جزء آخر يعود لأيام الطفولة.. لقد كانت والدتى سيدة أمية لا تقرأ ولا تكتب لكنها كانت على درجة عالية من الثقافة.

ففى الوقت الذى كان يمكن لمثيلاتها أن يكتفين بأخذ أطفالهن إلى حديقة الحيوان مثلا كانت أمى تأخذنى دائما إلى زيارة آثار مصر القديمة، وقد كانت تقف أمام قلعة صلاح الدين أو الكنيسة المعلقة بنفس الانبهار الذى تقف به أمام أهرامات الجيزة.

ولقد عرفت منذ طفولتى المبكرة - حيث لم يكن عمرى قد تخطى سن الرابعة فى ذلك الوقت - عظمة كنيستى أبوسيفين ومار جرجس التى لا تأتى من أبهة الطراز التى تعرفها الكنائيس الكاثوليكية، وأنما من نقشها الكلاسيكى الذى يذكرنا بالآثار المصرية القديمة، كما عرفت أيضا فى ذلك الوقت جمال النسيج القديم بالمتحف القبطى الذى زرته عدة مرات مع أمي.


وأسأل نجيب محفوظ عن مصر الإغريقية الرومانية؟
فيقول: إن أكثر ما يستلفت النظر فى التراث الإغريقى الرومانى فى مصر هو تأثره الشديد بالفرعونية، فقد مكثت تلك الفترة سنوات طويلة حتى صارت جزءا لا يتجزأ من التراث المصري، فمن ذا الذى يستطيع أن يقول: إن معمار أبنيتها ليس فرعونيا رغم أعمدته الآتية من الطرز الأيونية ionique أو الدورية doriaue؟ ومن ذا الذى يستطيع أن يقول: إن الإسكندرية ليست مصرية؟


فالحقيقة أن تلك الفترة تعتبر تطورا جديدا على الإغريقية القديمة، فقد تأثر الفكر الإغريقى بما وجده فى مصر، فأخرج فلسفات جديدة أخلاقية وصوفية لم تكن معروفة فى الفلسفة الإغريقية القديمة ومدرسة الإسكندرية شاهدة على ذلك وكذلك مكتبة الإسكندرية Biblioteka Alexandrina وفلسفة أفلوطين التى كان أول من بشر بها أحد مواليد أسيوط.


ويمضى استعراض الأستاذ لتاريخ مصر حتى يصل إلى عصر محمد على فى بداية القرن التاسع عشر، والذى يصفه بأنه كان مقدمة النهضة الحديثة فى الوطن العربي، وفى العواصم الإسلامية، فمصر محمد على هى التى اتصلت بأوروبا فحدث التفاعل بين الأفكار الغربية الحديثة، والتراث الإسلامى العريق فانطلقت شرارة التقدم.


ألا ترى أنه رغم التباين الشديد ماب ين المؤثرات المختلفة التى تعرضت لها مصر طوال تاريخها إلا أن مصر هى المصرى بنفس طباعه القديمة؟ هو نفس الإنسان المحب للحياة والتسامح والإخاء، وحياته مازالت فى بعض الأحيان هى نفس حياته القديمة، فالفلاح مازال يستخدم الشدوف الذى وجدنا رسومه على الجدران الفرعونية.

بل إن الكثير من الطقوس الإسلامية الحالية لا تأتى من الإسلام، وإنما من العادات الدينية التى كانت سائدة فى مصر القديمة مثل «الخمسان» وذكرى الأربعين التى انتقلت بعد ذلك من مصر إلى دول إسلامية أخري.


وفى ذلك قدر كبير من الحق لكنه ليس الحق كله، فإلى جانب بعض الجوانب التى ظلت فى شخصيتنا منذ العهود القديمة إلا أننا لا ينبغى أن ننسى أن الإسلام قد أعاد خلق الشخصية المصرية، صحيح أنه لم يمح الجذور لكنه قد أعادها فى طبيعة وتكوين جديدين أكثر من أية فترة أخرى تالية للفترة الفرعونية.


ألم تقم مصر بإعادة صياغة الإسلام أيضا؟ إن الإسلام الذى نعرفه فى مصر يختلف إن قليلا أو كثيرا عن إسلام إيران أو إسلام ماليزيا أو أوزبكستان، لقد أعادت مصر تصدير هذا الإسلام إلى أجزاء كثيرة من العالم العربى.


وعلى سبيل المثال فإن طريقة إنشاد القرآن التى تعرف باسم التجويد قد نشأت فى مصر اعتمادا على الإنشاد الذى أخذته الكنيسة القبطية من الغناء الدينى فى مصر الفرعونية، ولقد أصبح التجويد الآن هو الإنشاد السائد فى العالم العربى للقرآن.


بلاشك قد أعطت الإسلام صوتا جديدا، وإن كانت بالطبع لم تضف إلى الإسلام أركانا فكرية جديدة، ونظرا لمكانة مصر الثقافية والحضارية فى العالمين العربى والإسلامى فقد انتشر هذا الصوت الذى يختلف عن الصوت الذى كان فى البادية.


إن إسلام مصر يمثل الاعتدال الذى عرف دائما عن مصر، والسماحة وكراهية التطرف فى كل شيء، فالمصرى متدين لكنه مثل جده الفرعونى القديم يقول «ساعة لربك وساعة لقلبك».

إن المصرى هو الذى صنع من المناسبات الدينية المقدسة مهرجانا للابتهاك بالحياة مثل الموالد ومثل شهر رمضان الذى يقوم فيه المصرى بالصيام لربه والتقشف طوال اليوم ثم ما إن تغرب الشمس حتى يتفنن فى الاستمتاع بمباهج الحياة.

اقرأ ايضا | ابنة نجيب محفوظ تكشف كواليس عن حياة والداها الشخصية وتسلمها جائزة نوبل