عاجل

أحمد الزناتي يكتب: كلاريس ليسبكتور واكتشاف العالم:الكتابة بإيقاع التنفس!

أحمد الزناتى يكتب :كلاريس ليسبكتور واكتشاف العالم:الكتابة بإيقاع التنفس!
أحمد الزناتى يكتب :كلاريس ليسبكتور واكتشاف العالم:الكتابة بإيقاع التنفس!

القارىء هنا أمام كتابة ذاتية مجردة، أقرب إلى يوميات أو نصوص حـرّة، لكنها مسكونة بحكمة حياتية عميقة وخفة ظل (فى الحقيقة لم أجدها عند فيرجينيا وولف ولا سيلفيا بلاث)

التورية عند ليسبكتور، والتورية الملعوبة فى اعتقادى هى عصب الأدب، ذكية حين تصف الدنيا، لا تجارب المراهقة، وهكذا فكلامها عن الشخصين اللذين كانت تربطها بهما علاقة وطيدة وكانت تتحد روحيًا معهما، لكنهما كانا يفكّران فى شخصٍ آخر، وكلامها عن السلاحف، وأول كلمة فى الفقرة الثانية (كم يُبعد الحب الموتَ) وانفصال ما ورد لاحقًا عن هذه الجملة، كل ذلك جاء فى كلمات معدودات.

 ليسبكتور المعروفة بعوالهما الميتافيزيقية وإغراقها فى الذاتية، تلتفت فى هذه المواد/المقالات إلى حياتها اليومية بغية تحويل مادة حياتها إلى اكتشافات عميقة وموثرة وخفيفة الدم أيضًا

أحـبُّ كلاريس ليسبكتور. أقصد نصوصها طبعًا، لكنى أيضًا أحب النَظر إليها كامرأة، إلى صورها فى سنوات الشباب والنضج والمَرض الذي نهش جسدها الرقيق. أحبُّ الصورة التي تقف فيها فى شرفة –فى سويسرا حسبما عرفت- مغمضة العينين وأمامها زهور، وتشاء الصدفة أنها الصورة نفسها التى اختارتها دار بنجوين لتزيّن غلاف كتابها الذي سأشير إليه لاحقًا. لا شيء يحدث بمحضّ الصدفة كما يقول هيرمان هسّه، هذه دائرة هرمسية سرية يلتقي فيها من يفهمون بعضهم بلا كلمة، من يحبّون ويتكلمون ويغضبون ويصالحون بعضهم بالصمت. عند يونج وغيره من الآباء البطاركة تعبير الأنثى المُلهمة  La femme inspiratrice، أحسبه ينطبق عليها تمامًا. 
مُستلهِمًا ملامح ليسبكتور رسمت ملامح بطلة رواية أنهيتُها قبل سنة. شخصية يغلفها الغموض حتى الآن، أضاءت لي الكثير مثلما تضىء نصوص ليسبكتور الكثير. الروح الحرة، الجدية البسيطة فى التعامل مع الأدب، التلقائية، البعد عن الادّعاء والاصطناع، ولا أعرف فى الحقيقة سببًا وجيهًا لإحجام دور النشر عن نقل روايات ليسبكتور  إلى العربية والتركيز على كُتَّاب لاتينيين جديرين بالقراءة فى كارفور؛ على أية حال هى مسألة أذواق ومتطلبات سوق وحدود ثقافة الناشر. 

ليس بالضرورة أن يعيد المرء نحت عوالم ماكوندو وجَـــــوّ الغرائبية ليصير كاتبًا، إلا لو تحليتَ بالقدرة على مضاهاة المعمار الروائى عند ماركيز بدون افتعال كتابة مِلزّقة ولا تقليد غشيم. تلك أمّة قد خَلَت.

يكفى الكاتب أن يتأمّل حياته، ذكرياته، المواقف الحياتية الصغيرة ويعيد صوغها كما سنرى فيما اخترته من فقرات قصيرة سأتكلم عنها لاحقًا، استطاعتْ عبرها ليسبكتور كتابة نصوص أدبية فى غاية العذوبة، لا فيها غرائبية وخيال جامح ولا يحزنون، أو هكذا رأيتها. 


فى سنة 1967 طلبت جريدة Jornal do Brasi من كلاريس ليسبكتور كتابة عمود صحفى كل يوم سبت حول أى موضوع تشاء. ولما يقرب من سبع سنوات انتظمت ليسبكتور فى الكتابة بصفة أسبوعية، مقاربةً أطيافًا متنوعة من الموضوعات، عن البشر والحيوانات والأنشطة اليومية لولديْها، إلا أن موضوع المقالة كان يتجاوز فى أغلب الأحيان العنوان الرئيس. كتب ابنها باولو جورجيل فالينتى: «استمتع بالمقالات، لأنى لا أعرف شيئًا يضاهيها». 


قبل أسابيع نشَرت مجلة باريس ريفيو مادة ثرية عرضت فيها بضعة نصوص من الكتاب المزمع صدوره فى الأسبوع الأول من «سبتمبر الجارى» تحت عنوان Too Much Of Life عن دار بنجوين، ويضمّ الأعمدة الصحفية/المقالات الحرة التى كتبتها ليسبكتور لصالح الجريدة فى السنوات من 1967 حتى سنة 1977، ربما أقدّمُ له تقديمًا أعمق بعد صدوره. بحسب عرضٍ سريع لمادة الكتاب على موقع دار بنجوين فإن ليسبكتور المعروفة بعوالهما الميتافيزيقية وإغراقها فى الذاتية، تلتفت فى هذه المواد/المقالات إلى حياتها اليومية بغية تحويل مادة حياتها إلى اكتشافات عميقة وموثرة وخفيفة الدم أيضًا. اخترت للقاريء الفقرتين التاليتين.


اكتشاف العالم (6 يوليو 1968)
ما أودّ إخباركم به رهيف رهافة الحياة نفسها. وأودُّ استخدام الرهافة التى تسكن أعماقى جنبًا إلى جنب مع الخشونة القروية التى أعدُّها نعمتى المُسداة. فى أيام طفولتي، ثم فى سنوات مراهقتى نضجت قبل الأوان فى مسائل عديدة؛ فى استشعار حالة الجوّ مثلًا، وفى التقاط «حالة الجوّ الشخصى» الآخرين. 


على صعيد آخـر، وبعيدًا عن كونى قد نضجت مبكرًا، فقد كنت متخلّفة عن أقرانى فى مسائل مهمة أخرى، بل الحق أقول إنى ما أزال حتى اليوم جاهلة فى عديد من المسائل، وما بيدى حيلة، يبدو أننى مسكونة بجانب طفولى لن ينضج أبدًا.

على سبيل المثال حتى ناهزت الثالثة عشرة من عمرى تأخّرت فى تعلّم ما يطلق عليه الأميركيون «حقائق الحياة»، والمقصود هنا هو طبيعة علاقة الحب الحميمية التى تجمع الرجل بالمرأة، ويُولد منها الأطفال. 


أم ترانى فهمت التعبير، لكنى تعمّدت التشويش على قدرتى على الفهم تجنبًا لتلقى صـدمة شديدة من نفسي، كيما أواصل التزيّن والتأنق البريء لأجل أعين الأولاد؟ لما كنت فى الحادية عـشرة كان مفهوم التزيّن عندى هو غسل وجهى حتى تلمعَ بشرتى المشدودة.

هل كان جهلى بحقائق الحياة طريقة لا شعورية ماكرة تمكننى من الاحتفاظ ببرائتى حتى يتسنى لى مواصلة التفكير فى الأولاد من دون  الشعور بالذنب؟ أظن أن الأمر كان هكذا، لأنى طالما كنت أعرِف أشياء أجهل أنى أعرفها من الأساس.

أما أصدقاء المدرسة فكانوا يعرفون كل شيء، بل كانوا يحكون قصصًا عما يعرفون. لم أكن أفهم كلامهم، لكنى كنت أدّعى الفهم كيلا يستهزئون بى وبـجهلى. 


فى تلك الأثناء، ودونما وعى بحقيقة الواقع، واصلت وبشكل فطرى خالص، «معاكسة الأولاد» الذين يروقون لى. سَبقتْ فـطرتى ذكائى. وقبل يوم واحد من إتمام الثالثة عشرة، كما لو أنى لم أشعر بالنضج الكافى لتلقى أنباء الواقع الصادمة إلا يومها، أفضيت بسرى إلى صديقة مقربة، أخبرتها أنى لا أفهم شيئًا «عما يتكلمون عنه» برغم ادّعائى فهم كل شىء.

وقد وجدَت صديقتى صعوبة فى تصديق كلامى لأنى كنت أتقن التظاهر. إلا أنها اقتنعَت فى نهاية المطاف بصدق كلامى. ثم أخذت على عاتقها شـرح سـر الحياة، هناك على ناصية الشارع. ولأنها كانت صغيرة السن وفى مثل سني، لم تكن تعرف كيف تتحدّث عن الموضوع بطريقة لا تؤذى روحى الحساسة، فقد وقفتُ أحدّق إليها مذهولة، فاغِرة الفم.

مشلولة الأطراف، ونفسى مملوءة بمزيجٍ من مشاعر الذهول والرعب والسخط والبراءة المجروحة. كان ذهنى مبلبلًا: لكن لماذا؟ لأجل ماذا؟ كانت صدمة عنيفة استمرّت بضعة أشهر حتى أنى فى زاوية الشارع تلك، أقسمت بملء فمى أنى لن أتزوج أبدًا. إلا أننى حنثت بقَسَمى بعد انقضاء بضعة أشهر وواصلت غرامياتى البسيطة. 


فى وقت لاحق، وبمرور الوقت، وعوضًا عن شعورى بالصدمة من طريقة ممارسة الحب بين الرجل والمرأة، فكّرتُ أنها طريقة مثالية، بل طريقة شديدة الرهافة أيضًا. كنت قد صرت امرأة شابة، فارعة الطول، رصينة التفكير، متمرّدة، مسكونة بنزعة قوية إلى الوحشية الجامحة التى لا تخلو من مسحة خجل خفيفة.


برغم ذلك وقبل أن أتصالح مع «سنّة الحياة»، عانيت معاناة شديدة، وهو ما كان بإمكانى تحاشيه لو أن شخصًا بالغًا يتحلى بالمسؤولية اضطلع بمهمة أن يشرح لى كيفية ممارسة الحب بين الرجل والمرأة. لأن ذلك البالغ المسؤول كان سيعرف حتمًا كيفية الاقتراب من الروح الطفولية من دون أن يؤلمها بتلك المفاجأة المزعجة.

ومن دون أن يجبرها على تفهّم حقائق الحياة، ولا أن يجبرها، مجددًا، على قبول الحياة وأسرارها. المدهش حقًا هو أنى حتى عندما وعيت إلى كل هذه الحقائق، بقى السرّ على حاله. برغم معرفتى أن النبات ينبتُ زهورًا، لم تفارقنى الدهشة بشأن ما تسلكه الطبيعة من دروب خفية.

ولو أننى اليوم ما زلت محتفظة بحيائي، فذلك لأنى لا أرى شيئًا مـخـزيًا البتة فى «حقائق الحياة»، الحكاية كلها حياء الأنثى لا أكثر. أقسم لكم: الحياة حلوة.


النقر على الآلة الكاتبة بأسرع ما يمكن (17 إبريل 1971)
يا إلهى! كيف يُبعد الحبُّ الموتَ؟ الحقيقة أنى لا أعرف ما أعنيه تمامًا بهذه الجُملة، وأعوّل على عدم الفهم الذى وهَبنى حياة فطرية بديهية، بينما ما يُطلقون عليه الفهم شىء محدود للغاية. 


فقدتُ أصدقاء. أنا لا أفهم الموت، لكنى لا أخشاه. سيكون الموت راحـة لى، سيكون مــهــدًا أســجَّـى فيه على الأقل. لكنى لن أستعجل الموت، وسأعيش حتى الرمق الأخير المرير. لا يروقنى ما يقوله الناس عن وجود رحمٍ ماسة بينى وبين فيرجينيا وولف (لم أقرؤها إلا بعد تأليف كتابى الأول)،

والسبب أنى لا أنوى أن أسامحها على الانتحار. واجبنا المروِّع هو الاستمرار حتى النهاية وعدم الاتكال على مساعدة أحد. عِـشْ واقعك. اكتشف الحقيقة. ولأجل أن تقِلَّ معاناتك احقن نفسك بمخدّر خفيف. لأنى لم أعد أقوى على حَمل أحزان العالم.

ولكن ماذا يتحتم عليَّ فعله كونى أشعر تمامًا بما يشعر به الآخرون؟ أنا أعيشُ حياتهم، لكن خارت قواى. سأسعى إلى عيش حياتى قليلًا. سأقاوم نفسى قليلًا. ثمة أشياء لن أبوح بها، لا فى الكتب، ناهيك بالصحف. أشياء لن أخبر بها أى مخلوق على وجه الأرض.

أخبرنى أحدهم أنه جاء فى التلمود: ثمة أشياء يجوز أن تُـقال لكثير من الناس، وأشياء يجوز أن تُقال لقِلّة من الناس، وأشياء ثالثة لا يجوز أن تُقال لأى مخلوقٍ مهما كان.


وأزيدكم من الشعر بيتًا فأقول: وهناك أشياء بعينها لا أريد أن أخبر بها حتى نفسى. أشعر أننى أعرف بعض الحقائق. لكنى لا أعرف ما إذا كان ذهنى سيفهمها. أنا بحاجة لأزداد نضجًا لو أردت الاقتراب من تلك الحقائق التى فى مقدورى تخمينها. لكن ليست للحقائق كلمات تُعبّر عنها. أهى عدة حقائق أم حقيقة واحدة؟ لا، لا تظنّوا أننى سأتحدث عن الله: هـذا سـر يخصنى وحدى. 


يوم خريفى جميل. هبّتْ رياح منعشة على الشاطىء، حـرّية. كنت وحدى. فى مثل هذه اللحظات لا أشعر بحاجة إلى أحد. أحتاج إلى تعلّم عدم الاحتياج إلى أى شخص، وهو أمر صعب لأنى أحتاج إلى مشاركة ما أشعر به مع غيرى. كان البحر هادئًا. أنا أيضًا كنت هادئة. بدا البحر وكأنه يترصّد شيئًا، بدا متشككًا وكأن هدوئه لا يمكن أن يدوم طويلًا، أو كأن شيئًا ما على وشك الحدوث دائمًا. المباغتُ يأسر قلبى. 


كانت تربطنى علاقة وطيدة بشخصين، وكانت العلاقة قوية لدرجة أنى لم أعد أشعر بوجودى وأنا موجودة. كيف يمكننى شرح الأمر؟ كنا نحدق فى أعين بعضنا البعض ولا ننبس بكلمة، كنت أنا الآخر والآخر هو أنا. من الصعب التعبير عن الأمر.

ومن الصعب قول أشياء عصية على القول، غارقة فى الصمت. كيف نترجم الصمت العميق لحالة التقاء روحين؟ من الصعب جدًا شرح ذلك، أخذنا نحدق إلى بعضنا البعض مباشرة، وبقينا على هذا الحال لعدة لحظات. كنا كيانًا واحدًا. تلكم اللحظات هى سـرّى المكنون. كان هناك ما يسمى بالتواصل الكامل. أطلقُ عليها «حالة السعادة القصوى».

كنت فى حالة صفاء مثالى، ويبدو أننى بلغت أعلى مراتب الإنسانية. كانت أسمى لحظات مررت بها فى حياتى على الإطلاق. إلا أنه بعد ذلك.. بعد ذلك عرفت أن هذه اللحظات لم تكن تمثّل أى معنى بالنسبة إلى هذين الشخصين، كانا يفكّران فى شخصٍ آخر غيرى. كنت وحيدة، غارقة فى الوحدة. وكان وقْعُ الألم على الكلمات شديدًا.


سأتوقف قليلًا لأفتح الباب للرجل الذى جاء لصيانة مُشغِّل الأسطوانات. لا أعرف أى مزاج سيتملّكنى عندما أعود إلى الآلة الكاتبة. توقفتُ عن الاستماع إلى الموسيقى لفترة من الزمن فى محاولةٍ منى لتقليل حساسيتى إزاء الأشياء. برغم ذلك أخذتنى الدهشة ذات مرة.

وأنا أشاهد فيلم Five Easy Pieces. كنت أستمع إلى الموسيقى التصويرية وأجهشتُ بالبكاء. لا يوجد شيء مخجل فى البكاء. المخجل هو أن الاعتراف جهرًا أمام الناس أنى بكيت. لكنهم يدفعون لى مقابل الكتابة، ولذلك أكتب.


ها قد عدت. ما يزال اليوم جميلاً كما هو. لكن الحياة مُكلِّفة جدًا (أقول مكلِّفة بسبب المبلغ الذى تقاضاه عامل الصيانة). أحتاج إلى العمل لساعات طويلة للحصول على الأشياء التى أريدها أو أحتاجها. لا أظن أننى أود تأليف مزيد من الكتب. سأكتب لهذه الصحيفة فقط، كل ما أريده هو الحصول على وظيفة لبضع ساعات فقط فى اليوم، لنقل لمدة ساعتين أو ثلاث ساعات، وأن من بين مهام (الوظيفة) إجراء مقابلات مع أشخاص.

أنا موهوبة فى ذلك، برغم كونى أبدو غائبة فى عالمٍ آخـر فى بعض الأحيان، لكنى عندما أكون أمام إنسان حقيقى غير مصطنع، أكون حقيقية غير مصطنعة. ولو كنتَ تعتقد أننى سأنسخ ما أكتبه الآن أو أنى سأصحح هذا النص، فأنت مخطئ. ستذهب المقالة كما هى [شخصيًا أفعل مثل ليسبكتور فى كثير من الأحيان!.

سأقرأها مرة أخرى لتصحيح أية أخطاء مطبعية. بالنسبة إلى الشخص الذى أفكر فيه فى هذه اللحظة، الذى يستخدم علامات الترقيم استخدامًا مختلفًا عنى، أقول إن علامات الترقيم هى نَفَسُ الجملة. أظن أنى قلت هذا بالفعل. أكتبُ بذات الإيقاع الذى أتنفّس به.


القارىء هنا أمام كتابة ذاتية مجردة، أقرب إلى يوميات أو نصوص حـرّة، لكنها مسكونة بحكمة حياتية عميقة وخفة ظل (فى الحقيقة لم أجدها عند فيرجينيا وولف ولا سيلفيا بلاث). فى النص الأول يتجاوز الأمر استدعاء ذكرى عن فترة المراهقة واكتشاف الجنس، إلخ.

هذا غلالة رقيقة تنزعها لتكتشف وجه الحياة، الحياة التى تلطمكَ على وجهك بقوة، ثم تراك فى مرحلة لاحقة تصف هذه اللطمة بأنها «هزار عادى». وصفَت ليسبكتور التجربة بأنها تجمع بين الرهافة والخشونة فى آن واحدة، وتنهى النص بكلمة: «أقسم لكم: الحياة حلوة». اعترفت أن شكل العلاقة الجنسية بين الرجل والمرأة بدا فى نظرها كصبية فى الثالثة عشرة مروِّعًا مقززًا، لكنها رأت العلاقة لاحقًا رهيفة ومثالية.


التورية عند ليسبكتور، والتورية الملعوبة فى اعتقادى هى عصب الأدب، ذكية حين تصف الدنيا، لا تجارب المراهقة، وهكذا فكلامها عن الشخصين اللذين كانت تربطها بهما علاقة وطيدة وكانت تتحد روحيًا معهما، لكنهما كانا يفكّران فى شخصٍ آخر، وكلامها عن السلاحف.

وأول كلمة فى الفقرة الثانية (كم يُبعد الحب الموتَ) وانفصال ما ورد لاحقًا عن هذه الجملة، كل ذلك جاء فى كلمات معدودات. وكأنها تقول: هذا معنى قريب يراد به بعيد يا بتوع الأدب، ربما تأسيًا بعبارة التلمود: ثمة أشياء يجوز أن تقال لكثير من الناس.

وأشياء يجوز أن تقال لقِلّة من الناس، وأشياء أخرى لا يجوز أن تقال لأى مخلوق؛ مثلها كمثل جملة فى مولوى أو فقرة فى الصفحة الأخيرة من المحاكمة أو حُلم من أحلام فترة النقاهة. هذا مـتن الأدب، والباقى إلى البحر.  

قبل أن يقرأ نص ليسبكتور، وهروبًا من كتابة رواية ستأخذ سنوات، ولأن الوقت قصير والعمل عظيم والعمال خاملون، ولأن صاحب المهمات يريد تفكيك السقالات لاستخدامها فى موقع آخر، ولأنه ليس من الضرورى أن تكمل العمل، لكنك لست حرًا  فى التوقف أو الامتناع عنه، كتَبَ صاحبنا مرّة فى دفتر يومياته من سنوات: فى حُلم وصلته الموافقة على إضافة ملحق تكميلى إلى التقرير.

كلّف السكرتير وأمين السر بمشوار لشراء دفاتر وأقلام من محل معين فى المقطم. السِيم القديم. القط وشركاه. يحرّف كلام القديس أوغسطين عن موضعه: لو سألنى أحد مَن هو فلن أجيب

ولو لم يسألنى أحد فأسجيب الجواب الأوفى. العَوْد الأبدى، السيناريو نفسه بِحطّة إيدك يا باشا. يعود أمين ويخبره أن الجماعة الخبراء يصرون على مقابلته شخصيًا هذه المرة وأن التفاوض يجب أن يجرى بشكل مباشر، وبدون وسطاء، لا أقنعة ولا لعبة أو مرايا. المكان ساحة ملاعب الكروكيه. تورية. طلبوا منه أن يتدرّب جيدًا هذه المرة. أخبروه أن الحضور إجبارى. أخبروه أيضًا أن الموضوع محسوم ولا حل لذلك.«كما أنك لست تعلم ما هى طريق الريح ولا كيف العظام في بطن الحبلى كذلك لا تعلم أعمال الله الذى يصنع الجميع « - سفر الجامعة (11 :5).

اقرأ يضا | القراءة كأداة مقاومة