كنوز | أبوجلدة.. والعرميط

توفيق حبيب
توفيق حبيب

بقلم: توفيق حبيب

تنفست حكومة الانتداب بفلسطين الصعداء وهدأ روعها باعتقال الشقى «أبو جلدة»، الرجل الذى روَّعها وأقلق بالها، حاولت القبض عليه مستعينة بالرجال والكلاب والراديو، فكان يحاربها معتصمًا بشريكه «العرميط»، ويزوغ من وجهها ملتجئًا إلى الكهوف بالجبال التى يضل فيها جند الإنجليز، كان هذا الرجل عنوانًا لفشل الحكومة وسقوط هيبتها، فإذا قامت لتشتيت مظاهرة أو فض اجتماع وطنى، قال أعداؤها «اتشطرى على أبو جلدة» الذى أصبح عَلَمًا، بل علم الأعلام، وتناقلت أخباره صحف أوروبا وأمريكا مكبَّرة معظَّمة.

قال أحد كتاب سيرته: «أبو جلدة كنية، واسمه أحمد المحمود، وهو من أهل قرية طحون، بدأ أعماله حمَّالًا، ثم صار رئيسًا للحمالين، وفى أيام الحرب الكبرى طلبت الحكومة التركية ابنه للخدمة العسكرية فأبى تسليمه بحجة أنه وحيده والقانون لا يسمح بتجنيد الوحيد، فأصرت الحكومة، وأصر أبو جلدة وأعلن عليها العصيان، واعتصم بجبال الخليل وجبال نابلس، وقتل الكثير من رجال الجيش التركى، وبعد خروج الترك والألمان من سوريا وفلسطين عاد أبو جلدة إلى بلده واشتغل بالزراعة، وحدث نزاع بينه وبين بعض أقاربه فقتل ثلاثة منهم، وحكم عليه بالأشغال الشاقة المؤبدة، لكنه هرب وبحث عنه السجانون فلم يجدوه!

وقالت عنه مجلة «لو» الفرنسية: «تجاوزت شهرة «أبو جلدة» حدود ما أحرزه مفتى فلسطين الأكبر، وأصبح معروفًا أكثر من مدير الهجرة والجوازات المستر جامسون، والقارئ يريد سماع تفاصيل بطولاته، وما ترتكبه عصابته من آثام، و«أبو جلدة» شبيه بلصوص «كورسيكا» فى استعصاء القبض عليه، فهو موجود فى كل مكان، وتقول عنه البلاغات الرسمية إنه ظهر فى الشمال، وارتكب كذا وكذا من الأعمال، وصال وجال فى قُنَن جبال الجليل، وإذا به يظهر بغتة قرب البحر الميت يوقع ببعض السياح البريطانيين ويسلب مالهم ومتاعهم، ثم يشاهده المسافرون على مقربة من غزة، يوقف سيارة موظفين إنجليز ويأخذ كل ما يملكونه، وبعدها يسمع أهالى بئر سبع أنه وصل إليهم واجتاز الصحراء التى تفصل فلسطين عن قنال السويس».

كان «أبو جلدة» ورجاله حكومة خاصة داخل الدولة يصدر البلاغات التى تنشرها الصحف، وفيها بيانات عن مشاغباته للحكومة، ومداعباته لرجالها، وتكذيبات لما عُزى إليه من أعمال غير مشرفة، وقد نشرت جريدة «الجامعة الإسلامية» نداء له بمقاومة الإنجليز، وكان يساهم فى قوائم الاكتتابات للمقاصد الوطنية، وكان شعاره هو «رمى الإنجليز فى البحر»، فكانت الحرب بينه وبينهم سجالًا.

جاءوه يومًا بعشرة كلاب «سكوتلاند يارد»، ثمن الواحد ألف جنيه، وأجرته خمسون جنيهًا فى الشهر، ذهبت «تشمشم» عنه فقتل أكثرها، وأراد الإنجليز أن يدسُّوا له السم فى الدسم، واتفقوا على ذلك مع إحدى نسائه، لكنه أدرك الدسيسة فأرغمها على أن تأكل من الطعام، وقبل أن يفعل فيها السم فعله قتلها بمسدسه، وهاجم «أبو جلدة» وزميله «العرميط» قوة من جنود الانتداب، ثم تركها ولجأ إلى أول تليفون وطلب إدارة الأمن العام فى حيفا، وسأل مديرها أن ينجد رجاله لأنهم وقعوا فى مأزق العفريت!

لم تقوَ عليه دوريات البوليس والكلاب لفترة طويلة، إلى أن تم حصاره والقبض عليه، وفرحت صحف لندن بالتخلص منه ومن تغلبه على حكومة الإمبراطورية التى لا تغيب عن أملاكها الشمس، وحُكم عليه بالإعدام شنقًا، فسار إلى المشنقة رافعًا رأسه كأنه ذاهب إلى معركة يداعب فيها أصدقاءه الإنجليز الذى أقسم بأن يلقى بهم فى البحر! 

من كتاب «أبوجلدة وآخرون»

اقرأ أيضاً | «البيجوم».. زوجة الأغاخان توصي بدفنها في أسوان