يوميات الاخبار

جدعان رشيد

محمد السيد عيد
محمد السيد عيد

هذا العام يوافق مرور مائتين وخمسة عشر عاماً على انتصار المصريين على الإنجليز فى رشيد والحماد (1807). وهذه صفحة مجيدة من صفحات تاريخنا تستحق أن نقف عندها، ونرويها لأبنائنا جيلاً بعد جيل.

بداية القصة
المكان: الإسكندرية
الزمان: مارس 1807
وقف أمين أغا محافظ الإسكندرية التركى فى مكتبه يرحب بالميجور ميست قنصل عام إنجلترا فى مصر. هز الميجور رأسه فى ثقة وهو يرد التحية: تحياتى جناب المحافظ.
- خيراً يا جناب القنصل. بلغنى أنك تريد مقابلتى لأمر عاجل. ما هو هذا الأمر؟
ابتسم القنصل وهو يقول : أريد أن أشترى منك المدينة.
- ماذا؟!! عفواً. لم أفهم. كيف تريد أن تشترى منى المدينة؟ هى ليست ملكي. أنا مجرد حاكم أرسلنى جناب السلطان العثمانى لحكمها.
- أعرف هذا طبعاً، لكنى رغم هذا أريد أن أشتريها منك. أنت تعلم أن الأسطول الإنجليزى يقف أمام المدينة مستعداً بمدافعه وجنوده وأسلحته، وتعلم أيضاً أن المدينة غير قادرة على الدفاع عن نفسها، لذلك جئت أقدم لك عرضاً لا يرفض.
- ما هو؟
- أن تسلم لى المدينة دون قتال، وأن تستسلم لنا أنت ورجال الحامية، وسنعطيك مقابل هذا ما تريد، فنحن لا نريد تدمير هذه المدينة الجميلة، ولا قتل أحد من أهلها. فماذا قلت؟
- أريد مهلة للتفكير.
- لا وقت لدينا. الأسطول أمام المدينة وأريد رداً فورياً.
صمت أمين أغا لحظة، ثم قال له: كم ستدفع؟
وسلم أمين أغا المدينة دون مقاومة للإنجليز.
• رشيد قلعة الأبطال
كانت رشيد فى هذا الوقت هى ميناء مصر الرئيسي. على رأسها رجل عظيم يسمى على السلانكلي. علم السلانكلى أن الإنجليز يتقدمون من مدينته بهدف احتلالها بعد أن استولوا على الإسكندرية. قرر أن يقاوم. لم تكن قواته تكفى للمواجهة، كل رجاله لا يزيدون على ثلاثمائة جندى ومائة وخمسين فارساً. فكر فى طريقة مبتكرة تمكنه من النصر على هؤلاء الغزاة. وأخيراً هداه تفكيره إلى خطة مدهشة. اجتمع بكبار العائلات. قال لهم إننا نستطيع أن نهزم الإنجليز لو توحدنا معاً. قالوا له: نحن معك. قل لنا ما هى خطتك.
قال: خطتى ببساطة أن تدخلوا بيوتكم، وتتركوا الشوارع خالية. والحامية أيضاً ستختبئ فى البيوت بأسلحتها. فإذا دخل الإنجليز المدينة ظنوها خالية وظنوا أن أهلها خافوا فتركوها وهربوا. وبعد أن يتوغلوا فى المدينة شاعرين بالأمان سيؤذن المؤذن، وحينئذ يخرج الجميع على قلب رجل واحد لمهاجمة العدو الذى فقد نظامه وفقد استعداده للقتال، وسيكون النصر حليفنا بإذن الله.
سمع الجميع لحاكمهم. أطاعوه. وفى يوم 31 مارس جاء الإنجليز. جاء ألفا جندى بالتمام والكمال، مدججين بالسلاح، تسبقهم المدافع، ويقودهم الجنرال «ويكوب»، لكنهم فوجئوا أن المدينة تشبه بيت الأشباح. توغلوا فيها. استظلوا بمشربياتها. تمددوا على مصاطبها. قرروا أن يستريحوا من الرحلة الطويلة التى قطعوها من الإسكندرية. خلعوا ستراتهم وأحزمتهم وركنوا بنادقهم إلى الحوائط، وفجأة أذن المؤذن فتحولت المدينة الخالية إلى جهنم. خرج الجميع من البيوت يحملون السكاكين والهراوات، وألواح الخشب، وغطيان الأواني، واشتبكوا مع الإنجليز الذين تخلوا تماما عن حذرهم. حاول الإنجليز الفرار. لاحقتهم طلقات البنادق من رجال الحامية. كانت مجزرة. وانهزم الجيش المغتر بقوته، وانسحبت بقاياه إلى الإسكندرية.
بعض الجنود هربوا نحو دمنهور. أطلق عليهم كاشف دمنهور رجاله فقتلوا بعضهم، وأسروا بعضهم. وأرسلت رءوس القتلي، مع الأسرى الأحياء إلى القاهرة، وكان ضمن القتلى الجنرال «ويكوب» نفسه، ومن بين الأسرى ضباط وقادة. وبلغ عدد القتلى حوالى مائة وسبعين، أما الجرحى فكانوا مائتين وخمسين، بالإضافة لمائة وعشرين أسيراً.

اجتماع صاخب
ضرب «فريزر» المنضدة بقبضة يده فى غضب وهو يصيح: ما حدث لنا فى رشيد فضيحة عسكرية بكل المقاييس. أنا لا أتصور أن جيشاً من جيوش بريطانيا العظمى يُهزم من هؤلاء الفلاحين. لقد ضاعت كرامتنا فى رشيد.
قال الجنرال «ستيوارت» فى محاولة للتخفيف عنه: هون عليك جنرال «فريزر». لقد خسرنا معركة واحدة لكننا لم نخسر الحرب. أمامنا جولات أخرى.
- بل جولة واحدة، ويجب أن تكون حاسمة. يجب أن نسترد كرامتنا المهدرة. لقد أرسلت فى طلب مساعدة المماليك. كتبت إليهم أذكرهم بوعودهم ووعود رئيسهم الراحل ألفى بك، وهؤلاء سيكونون قوة كبيرة لا يستهان بها. لكن لا بد من الاعتماد أولاً على قوتنا نحن.
- فعلاً. قواتنا هى الأصل.
- اسمع جنرال «ستيوارت». ستقود بنفسك الحملة على رشيد. أريد أن أسمع أخباراً جيدة. ستتحرك بجيش قوامه أربعة آلاف جندى ومعكم الأسلحة والمدافع. أريد أن يأتينى خبر احتلال المدينة فى أسرع وقت ممكن.
- ستسمع ما يرضيك جنرال «فريزر».
جدعان رشيد
علم أهل رشيد والقرى المحيطة بها أن العدو فى الطريق إليهم. لم يهتزوا. لقد هزموهم من قبل. صاح السلانكلى فى جامع المدينة بعد صلاة الجمعة: يا رجال. الإنجليز فى طريقهم إلينا مرة أخرى، فهل سنتركهم يحتلون مدينتنا؟
تعالت الأصوات: لا .. لن يدخلوها إلا على جثثنا. كما انتصرنا عليهم من قبل سننتصر عليهم فى المعركة القادمة. لن نكون رجالاً إذا احتلوا بلدنا دون أن نقاومهم.
صاح : من معى للقتال حتى نحرز النصر أو نلقى الشهادة؟
تعالت الأصوات: أنا معك.. وأنا.. وأنا...
وانتشرت الأخبار فى القرى المحيطة، وتطوع الناس للمقاومة والدفاع عن بلدهم.
الإنجليز وصلوا
حين وصل الإنجليز إلى مشارف رشيد فى 7 إبريل 1807 عقد الجنرال «ستيوارت» اجتماعاً لقادة جيشه. قال لهم: سأتولى أنا حصار المدينة، وستذهب قوة لاحتلال قرية الحماد جنوب رشيد لأن موقعها استراتيجي. وسنحتل أبو مندور وننصب فيها المدافع. أريد أن نُصْلى هذه المدينة ناراً. سنهدم بيوتها، ونقتل أهلها بلا رحمة حتى نجبرهم على التسليم. إنهم لا يملكون المدافع مثلنا، لذلك فيجب أن نستخدم هذه الميزة التى لدينا. مفهوم؟
- مفهوم جنرال. كلامك أوامر.
نصبوا المدافع. قصفوا المدينة بلا رحمة. أنزلوا بها خسائر فادحة. وأرسل الجنرال «ستيوارت» لحاكم المدينة يطلب منه الاستسلام. قال السلانكلى فى عناد: لن نستسلم ولن نسلم المدينة.
- لا داعى للعناد. نحن نعلم أن خسائركم فادحة.
- لكن إرادتنا لا تلين. قل لمن أرسلوك إن رشيد لن تستسلم.
قال واحد من الأهالي: لماذا نسكت على الإنجليز؟ يجب أن نجعل إقامتهم هنا قطعة من العذاب. وبدأوا فى المقاومة. شنوا الغارات على معسكرات الإنجليز. حرموهم النوم. حتى صارت حياتهم فى رشيد جحيماً. وقال آخر: لقد ترك الإنجليز بعض المدافع حين انسحبوا، لماذا لا نصلحها ونستخدمها ضد الإنجليز؟
وفوجئ الإنجليز بالمصريين يضربونهم بالمدافع.
محمد على فى القاهرة
وصل محمد على القاهرة يوم 12 إبريل. كانت رشيد لا تزال صامدة. قرر محمد على أن يرسل جيشاً لمواجهة الإنجليز. لكن كانت لديه مشكلة كبرى: المال. كيف يدبر المال اللازم لتجهيز الجيش؟ لجأ لزعيم الشعب عمر مكرم، ولعلماء الأزهر أصحاب الكلمة المسموعة بين الأهالي. طلب مساعدتهم. لم يتأخروا عنه، بدأوا فى جمع المال من الناس الذين لم يبخلوا على جيش بلدهم. واكتمل استعداد الجيش فى أيام معدودات.
كان الجيش بقيادة نائب محمد علي: طبوز أوغلي، وينقسم لفرقتين، إحداهما يقودها هو شخصياً والأخرى يقودها حسن باشا. وتحركت الفرقتان نحو رشيد. وسارتا على ضفتى النيل، وصارت المواجهة وشيكة.
المواجهة
خرجت قوات حسن باشا تستطلع المكان، فقابلت كتيبة إنجليزية. هاجمتها، وانتصرت عليها، وقتلت وجرحت وأسرت الكثير من رجالها. أصيب الإنجليز بالإحباط، وارتفعت معنويات المصريين. عبر طبوز أوغلى النيل ليلاً وانضمت قواته لقوات حسن باشا لمواجهة القوات المرابطة فى الحماد. فوجئ الكولونيل «ماكلود» قائد القوات الإنجليزية فى الحماد أمامه بقوات جرارة، فقرر الانسحاب إلى مقر القيادة فى رشيد، وانتهز المصريون فرصة الانسحاب وانقضوا عليه فكبدوه خسائر جسيمة، ثم قتل هو نفسه. هاجم المصريون أيضاً ميمنة الجيش الإنجليزى وقتلوا جنودها وقائدها الكابتن «تارلتون»، ولم يبق منها سوى خمسين فرداً. واستسلمت الميسرة التى كان يقودها الميجور «ووجلساند». وبلغت خسائر الإنجليز فى هذا اليوم أربعمائة وستة عشر، وأسر من رجالهم أربعمائة.
فك الجنرال «ستيوارت» الحصار عن المدينة وأسرع بالفرار إلى الإسكندرية. تعقبه الرجال من الجيش والمتطوعين وأنزلوا به خسائر تفوق خياله.
الفصل الختامي
أحس «فريزر» بالفشل الشديد. قرر الانسحاب. أرسل لمحمد على يطلب الصلح ومغادرة الإسكندرية مقابل الإفراج عن الأسرى. وافق محمد علي، وخرج الإنجليز يجرون أذيال الخيبة والعار فى 19 سبتمبر 1807.
إنها صفحة من صفحات المجد سطرها جدعان رشيد تستحق أن نعلمها لأبنائنا. وأن نباهى بها.