محمد مختار يكتب : الضحية

محمد مختار يكتب : الضحية
محمد مختار يكتب : الضحية

أنا الآن أستدبِر دنياى لأستقبل آخرتى، فدعونى أسكبُ بين أيديكم بعض العبَرات قبل أن أُغادِركم.

أنا المظلومة المقهورة التى جَرَت عليها أقدارها بما لا قِبَل لها به، أنا بسملة، «بسملة طفلةٌ سوداء»، قالها أحد أساتذتى يومًا ساخرًا من سوادى، فلم أستطِع ردًّا، وأجابَت دموعى التى بلَّلَت وسادتى ليلَتها. سألتُ نفسى: لماذا أنا سوداء؟ أهُوَ عيب خلقىّ؟ لا سامحكِ اللهُ يا أمى، لمَ أورثتِنى عيبَك؟!

«بسملة طفلةٌ سوداء»، أخذَتْ هذه الجملة تتعاظم فى نفسى وفى عقلى بعدما أصبحْتُ مضغة تلوكها الأفواه، ما جعلنى أعتزل الجميع، فكنت ألجأُ إلى مكتبة المدرسة هربًا منهم، لكنهم مع ذلك لم يتركونى بحالى، بل كانوا يقفون على باب المكتبة صائحين فى نَفَس واحد: «يا سوداء»، ما جعل دموعى تسيلُ أنهارًا وأنا لا أعرف كيف أواجههم.

كم وقفتُ أمام مرآتى ألطِم خدى وأخمش جلدى بأظافرى لعلِّى أستطيع أن أُبدِّل بسوادِ جلدى بياضًا، لكن دون جدوى. انغلقتُ على نفسى صارفةً جهدى إلى دراستى، أجتهد فيها حتى فُقْتهم جميعًا. 

لكن سوادى بقى معى، ملتصقًا بى، وقد أُضيفَ إليه ما شقيتُ به، شقاءً أُضيف إلى شقائى، فبِنيتى ضعيفة، لعله سوء تغذية أو لعلها وراثة، عيبٌ آخر أورثتِنى إياه يا أمى، لكننى فائقة أحوزُ المراكز الأولى فى كل عام، ما جعلنى أطمح إلى أن أكون طبيبةً لأُعالِج الفقراء من المرضى وأُخفف آلامهم، حتى وصلتُ إلى المرحلة الثانوية، وآنْ للحلمِ أن يكتمل لولا أنَّ قدرى كان يُخبِّئ لى شقاءً من نوع جديد! مات أبى وأنا فى أمسِّ الحاجةِ إليه، جعلنى موته المفاجئ أتخلَّى عن حلمى، وأستبدل بكليةِ الطبِّ المعهدَ الفنىّ الصحى، أربع سنوات أتخرج بعدها لأعمل وأُعِين أمى فى شقائها لتربية بقية إخوتى. حلمٌ جديدٌ أخذَ مكان الحلم القديم، الذى كان أن أتخرَّج فى المعهد لأعمل مُدرِّسةً فيه، ما جعلنى أُقبِل على دراستى بشغفٍ أدهَشَ زميلاتى، فما الذى يدفعنى إلى أن أجتهدَ فى دراسةٍ لن أُفيدَ منها إلا أن أكونَ ممرضةً بائسةً فى مستشفى حكومى يستجدى إحسانًا من المرضى؟!

- معذورة فى اجتهادها، ألا ترونَ أنها رفيعة سوداء، ليس عليها ولو مسحة من الجمال تجعلها ممَّن يَرجُون نكاحًا؟!

عبارة قالتها إحدى المشرفات بعدما قرأَت الغيظَ فى وجوه زميلاتى عقب إجابتى الوافية عن سؤالٍ عَجِزن جميعهن عن الإجابة عنه. أكثر ما ضايقنى حينها اندفاعهن فى موجةٍ من الضحك، جعلت الدموع تطفر من عينى وحفزتنى أن أذهب إليها بعد انتهاء الدرس لأعاتبها، لكن بدا أننى أعاتب مَن لا تلينُ لمُعاتِب، فقد وجدتُها صامتةً ساخرةً منى ومن كلماتى التى أسوقها بين يديها، لكننى وجدتها أخيرًا تتغير وتظهر لى تعابير الغضب فى حركاتها وفى كلماتها، بعدما طلبتُ منها فى أدبٍ -بالغتُ فى اصطناعه- أن تُحسِن معاملتى أسوةً ببقية زميلاتى. أفهَمَتنى فى كلمات قليلة أنها تفعل ذلك لأنهنَّ يُقدِّمن لها العطايا والهدايا، وأننى يجب أن أحذو حذوهنَّ إذا أردتُ أن أفوز بحسن معاملتها. أدهشنى حديثها وأغضبنى، فأين هى من القول الخالد: «قُم للمعلمِ وفِّه التبجيلا، كاد المعلم أن يكون رسولا»؟ ونقلتُ حديثها مع غضبى كاملًا إلى أمى، وأنا أحسبها ستغضب لغضبى، لكننى وجدتها فى اليوم التالى تحملنى بالهدايا إليها وتطلب منى أن أبلغها سلامها!

هناك من قال وصدق فى قوله: «أطعِم الفم تستحى العين»، فقد أصبحت تُحسِن معاملتى وتُثنى على اجتهادى، بل إنها أخذت تُعيِّر زميلاتى باجتهادى وتطلب منهن أن يحذون حذوى، مع أننى لم أعُد بعدها تلك الفتاة الهادئة المستسلمة الراضية بقضائها. 

استمددتُ من ضعفهن قوةً جعلتنى أقوى، لأول مرة أردُّ الإهانة بمثلها، ومع أننى أصبحتُ فى نظرهن قليلة أدب، فإنَّ إحداهنَّ لم تجرُأ على مواجهتى. طبعًا، فما دُمت أُطعِم الفم فلا بدَّ أن تستحى العين! لكننى مع ذلك، لم أتخلَّ عن اجتهادى، ولا عن حلمى بأن أكون مُدرِّسةً فى المعهد نفسه الذى أدرسُ به، لتنقضى سنوات الدراسة موزعةً بين شقائى لإتمام دراستى بتفوق، وشقاء أمى للنهوض بنا جميعًا، لكن إلى حين. ففى لحظةٍ ما، لم تعُد أمى قادرةً على العمل، هَدَّها شقاؤها المتواصل من أجلنا وأصابتها أزمةٌ قلبيةٌ طاحنةٌ كادت تقضى عليها، لتلتزم على إثرها بنظام غذائى صارم وكثيرٍ من الأدوية التى التهَمَت تقريبًا نصف ميزانيتنا، مما جعلنى لا أقدر على الوفاء بما التزمتُ به من قبل. وعلى الرغم من أننى بسَطْتُ لهم عذرى، فإنهم صموا آذانهم عنى، أفهمونى أنَّ ما أُقدِّمه – أنا وغيرى – إنما هو فرضُ عين، علىّ أن أستمر فى تقديمه حتى لا تعود الأمور إلى ما كانت عليه من قبل، بل ربما أكثر.

أُسقِط فى يدى، واحترتُ ماذا أفعل، فأنا الآن فى أشدِّ حالات الافتقار والعَوَز إلى كل قرشٍ لأنفقه فى علاج أمى، ما جعلنى أقرر أن أغض الطرف عن تحذيراتهم، وليكن ما يكون. وفعلًا عادوا إلى ما كانوا عليه من قبل، عدتُ هدفهم الذى يُصوِّبون إليه سهامَ كلماتهم الجارحة وتصرفاتهم الفجة التى لم أعد أملك اعتراضًا عليها بعد أن توقفتُ عن إطعامهم، جعلنى تنمُّرهم علىّ أفقِد الرغبة تدريجيًّا فى إتمام دراستى، بعدما كرهت الذهاب إلى المعهد وكدت أن أنقطع فعلًا عن الدراسة، لولا الرجاء فى عينَى أمى والدعاء فى شفتيها أن أُوفَّق لإتمام دراستى قريبًا لأعمل فأحمِل عنها بعض همومها، ما جعلنى أعتصر البقية الباقية من كرامتى وأُرغم نفسى على الاستمرار فى الدراسة.

لكن الحال ما زالت هى الحال، فأنا لا أزال هدفهم الذى يُصوِّبون إليه سهام كلماتهم الجارحة وتصرفاتهم الفجة، جعلنى استمرارهم فى التنمر أعودُ لأجأر بالشكوى من جديد، عدت أشكو إلى أمى ما ألاقيه من إهانات وعَنَت، شافعةً شكايتى بدموعى، حتى وجدت أمى قد حملت نفسها وحملتنى ذاهبةً إلى المعهد، تستعطفهم وتسترحمهم أن يرأفوا بحالى، شرَحَت لهم حالَنا مُصوِّرةً لهم عيشَنا الكفاف حالمين باليوم الذى أتخرج فيه لأعمل وأعينها فى شقائها لتربية بقية إخوتى. بدا لى حينها أن ما ظهر لهم من ضعف أمى وانكسارى أمامهم قد رقَّقَ قلوبهم، لكن يبدو أننى كنت مخطئة، فما هى إلا أيام قليلة حتى عادوا من جديد إلى تنمرهم بى، لأعود من جديد إلى الشكوى، وتعود أمى إليهم مراتٍ ومراتٍ راجية، مُستعطِفة ومُسترحِمة، لكن دون جدوى. 

أسقط فى يدى ولم أعد لا أدرى ماذا أفعل بعدما لم تعُد أمى ترُد على شكايتى إلا بقلب كفيها ومطِّ شفتيها والتربيت على كتفى مُطالِبةً إياى بالصبر، بعدما لم يبقَ إلا القليل وأُنهى دراستَى فى المعهد. لكننى لم أعد أطيق صبرًا، بعدما أخذت الأمور تزداد سوءًا يومًا بعد يوم، ولمَّا لم يعُد لدىّ ما أقدمه لهم، فقد قررت أن أنسحب من هذه الحياة، قررت أن أموت وليذهب كل شىء إلى الجحيم، نعم، لم يعد لدىّ سوى أن أموت!

أنهَت ما تكتبه بعدما بثَّت ما يعتلج نفسها من مشاعر على الأوراق، وطوتها واضعةً إياها فى درج مكتبها، وليس هناك من فكرةٍ تملأ نفسها وعقلها سوى الموت، لكن كيف وأين ومتى؟!

مرت الأيام القليلة التالية وهى تحاول أن تقضى على نفسها، لكن دون جدوى. طبعًا، فهى لم تكُن تريد قتل نفسها، هى فقط كانت تريد قتل شىء ما بداخلها. حتى جاء اليوم الذى استدعتها فيه إحدى المشرفات لتذهب إليها، فذهبت، ذهبت وهى تعلم جيدًا أنَّ هذا الاستدعاء ليس بسبب إخفاقها فى اختبارٍ أو تقصيرها فى واجبٍ من واجباتها، لكنهم يرغبون فى التسلِّى بها، أن يقيموا حفلةً على شرفها، فيتناولوها بألسنتهم، يُؤلِموها بكلماتهم حتى يحمرَّ وجهها وتطفر الدموع من عينيها، وعند ذلك فقط يسمحون لها بالانصراف، لتعود إلى بيتها مكدودةً مرهقةً وقد طفت على سطح وجهها الأسمر سحابة ثقيلة من الحزن، جعلتها لا تستجيب لنداءات أمها كى تتناول غداءها، وأغلقت باب غرفتها، لتقف أمام مرآتها تتأمل وجهها الأسمر وتُديره يَمنةً ويَسرةً وأذناها تستعيدان كلماتهن لها. خلعت ملابسها وألقتها على الأرض فى حنقٍ لتتأمل جسدها وتمرر يدها على نتوءاته البادئة فى التشكُّل، إنَّ صدرها ما زال صغيرًا حقًّا وردفيها لم يتكوَّرا بعد، لكنها ليست رجلًا، إنها فتاة، كل ما فيها يُنبِّئ بذلك. ألقت بنفسها وهى لا تزال عاريةً على فراشها آخذةً فى البكاء، لكنها بين دموعها سمعَت طرقات على باب حجرتها المغلق، ماذا يريدون منها؟ ألم يفشلوا من قبل فى أن يحفظوا لها ماء وجهها؟! لكنها تسمع صوت ابنة خالتها تستأذنها فى الدخول، فتقوم لترتدى ثيابها وتفتح لها الباب ودموعها لا تزال عالقة على خديها، ما روَّع ابنةَ خالتها المسكينة فاحتضنتها وجعلت تصرخ:

- ما لكِ؟

أما هى، وعلى الرغم من كل ما يعتمل فى نفسها، هدَّأت من روعها، ثم فتحت باب الشرفة لتقف أمامها عاقدةً ذراعيها أمام صدرها، لكن ابنة خالتها لا تزال مرتاعةً مما رأت ولا تزال تُلِح فى سؤالها عما حدث لها، لتجيبها بصوتٍ باكٍ:

- لا جديد، لا شىء أكثر مما تعرفينه.

فعادت ابنة خالتها إلى احتضانها مرةً أخرى، وقالت:

- اصبرى، فما بقى إلا القليل وتُنهين دراستكِ وتنتهى معها كل عذاباتك، فهَوِّنى على نفسك.

رفعت إليها عينين محمرتين من أثر البكاء وقالت:

- وكيف لا أصبر وأنا لم يعد لدىّ ما أفعله أو أقوله؟ أنا فقط أُنفِّس عمَّا يعتمِل فى نفسى من غضب، لأننى لم أعُد أطيق إهانَتهم المستمرة لى.

عادت ابنة خالتها تردد على سمعها أنْ اصبرى، وفات الكثير وما بقى إلا القليل، لكنها كانت غنيةً عن الكلمات، فقيرة لمن يحفظ لها ماء وجهها، لمن يردُّ إليها كرامتها، بعدما لم يعد لديها ما تفعله. 

لكنهم مثلها فقراء، ليس لديهم ما يقدمونه لها سوى الكلمات، ولأنها تعرف ذلك عنهم، فقد بدا لها كلام ابنة خالتها كمَن يضع ملحًا على جرحٍ ليزيده اشتعالًا، ومع كل كلمةٍ تقولها تتصارعُ ألسنة الألم بداخلها، وتدفعها خطوةً تلو أخرى نحو الموت الذى أطلَّ برأسه مرةً أخرى يلوحُ لها ويُقرِّبها من حاجز شرفتها الذى اعتَلَته - أمام عينَى ابنة خالتها الملتاعتَين – لتُلقى بنفسها من عَلٍ، فتضع بذلك النهاية، لا لعذاباتها وحدها، بل لحياتها كلها!