قصة تشارلز إليوت وطه حسين ومشروعهما التعليمى

طه حسين وتشارلز إليوت
طه حسين وتشارلز إليوت

د.حامد عبد الرحيم عيد

قد يكون هناك فارق زمنى قدره 60 عاما بين تشارلز إليوت1834 ــ 1926 ) وطه حسين ( 1889 ــ 1973)، إلا أن كلاهما كان له مشروع علمى وثقافى، كلاهما جاء فى زمن كانت العلوم الدينية هى السائدة بمساندة الكنيسة فى أمريكا والأزهر فى مصر. ففى أمريكا وفى القرن التاسع عشر سيطر رجال الدين، على الكليات الأمريكية، وتبنوا المناهج الكلاسيكية، بينما قلة منهم فقط قدموا مقررات دراسية فى العلوم أو اللغات الحديثة أو التاريخ أو الاقتصاد السياسي.وفى مصر، كان التعليم الأزهرى سائدا فى ذلك الوقت إلا من عدد قليل من الكليات العليا التخصصية التى أنشأها محمد على لدعم ترسانته العسكرية، وبالرغم من أن طه حسين جاء من الأزهر وتعلم تعليما دينيا إلا أنه كما يقول د.جابر عصفور: أراد أن يبحث عن بيئة فكرية تتيح له الحوار والنقاش وإعمال العقل، وهو ما وجده فى رحاب الجامعة المدنية التى وجد من بين أساتذتها من يصبر على اختلافاته، ومن يبادله الحُجة بالحُجة دون غضبٍ أو ثورة عليه.

من هو تشارلز ويليام إليوت، هو أستاذ أمريكى، رئيس جامعة هارفارد لمدة 40 عامًا، ومحرر مجلة هارفارد كلاسيكس المكونة من 50 مجلدًا، تخرج إليوت من جامعة هارفارد فى عام 1853،وفى عام 1858تم تعيينه أستاذًا مساعدًا للرياضيات والكيمياء هناك.خلال رحلته إلى أوروبا، أجرى دراسة عن الأنظمة التعليمية الأوروبية. لفتت ملاحظاته المنشورة فى مجلة اتلانتك الشهرية (فى The Atlantic Monthly، 1869) انتباه مديرى جامعة هارفارد، الذين كانوا يبحثون عن رئيس جديد. فتم اختياره وتنصيبه رئيسا لجامعة هارفارد وهو فى سن ال 35 عاما فى أكتوبر 1869. وتقاعد فى عام 1909، بعد أن رفع اسم جامعة هارفارد إلى مؤسسة ذات شهرة عالمية. وجامعة هارفارد هى أقدم مؤسسة للتعليم العالى فى أمريكا حيث تأسست عام 1636.

أما طه حسين فالجميع يعرفه، فهو أحد أشهر الكتاب والمفكرين المصريين فى القرن العشرين، ومن أبرز رموز حركة النهضة والحداثة المصرية فى الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. اشتهر «بعميد الأدب العربى» وشغل منصب عميد أول كلية آداب فى العالم العربى، وهى كلية الاداب بالجامعة المصرية. وضع طه حسين الأسس لسياسة تعليمية جديدة، لكن خروج الأفكار إلى حيز التنفيذ احتاج لوقت أكبر، وخصوصا بسبب غياب الإمكانيات المادية.

فى عام 1869 خطب تشارلز ويليام إليوت أثناء تنصيبه رئيسا لجامعة هارفارد، قائلا: «إن المؤسسة التعليمية التى تجمع عددًا صغيرًا من الطلاب لا تربطهم معًا فى روابط قوية من المصالح المشتركة والزمالة الجيدة، لن يكون لها سيطرة قوية على المجتمع الذى تعمل فيه «. فى ذلك الوقت كان أن يتردد رجال الأعمال فى إرسال أبنائهم إلىالمدارس الموجودة لإنها لا تقدم فى مناهجها شيئًا مفيدًا، فبدأ بعض القادة التربويين فى إنشاء مدارس متخصصة للعلوم والتكنولوجيا، مثل مدرسة لورانس العلمية بجامعة هارفارد، ومدرسة شيفيلد العلمية بجامعة ييل، ومعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا الذى تم تأسيسه وقدم فصوله الدراسية الأولى فى عام 1865. كما تخلى آخرون عن المناهج الكلاسيكية، لصالح المزيد من العروض المهنية.  بالرغم من أن إليوت كان الشخصية الحاسمة فى علمنة التعليم العالى الأمريكى، إلا أنه لم يكن مدفوعاً بالرغبة فى علمنة التعليم ولكن من خلال قناعات الموحدين بمعتقدات الفلسفية المتعالية المتأثرة بـ ويليام إليرى تشانينج و رالف والدو إمرسون.فى أوائل عام 1869، قدم تشارلز ويليام إليوت أفكاره حول إصلاح التعليم العالى الأمريكى فى مقال بعنوان «التعليم الجديد» نُشر فى مجلة أتلانتيك الشهرية، وأعلن فيها عن رؤيته التعليمية والتى حوت عناصر مهمة حول تنمية الشخصية، بفهم عملى لدور التعليم العالى فى القيادة الاقتصادية والسياسية، ولم يكن اهتمامه «بالتعليم الجديد» مجرد المناهج الدراسية فقط، بل المنفعة النهائية للتعليم، واختيارات الطالب الذكية، بتدريبات مهنية تقنية متخصصة.واقترح إصلاح المدارس المهنية، وتطويرها، وبينما كان هذا الإتقان يعتمد على إدراك كل فرد لقدراته بشكل كامل، كان يعتبر إنجازًا جماعيًا ونتاجًا للمؤسسات التى هيأت الظروف للإنجاز الفردى والجماعى، مثل الانتصار على البرية الأخلاقية والمادية ودعم سيادة الدولة بانضمام القوى الصناعية والثقافية.كان إليوت يعتقد أن كل عقل فردى له «دستوره الخاص»، وفى إطار الأهداف العليا للجامعة البحثية لخدمة الأمة، يمكن تسخير الخبرة المتخصصة للأغراض العامة. وفى خطابه الافتتاحى أعلن إليوت: «عندما يأتى الكشف عن ذوقه وقدراته الخاصة إلى شاب، فدعه يرحب به بوقار، ويشكر الله، ويتشجع». ثم يعرف طريقه إلى العمل السعيد الحماسى، وإلى النفع والنجاح. فحضارة أى شعب يتم الاستدلال بها من تنوع أدواته ومنتجه الفكرى، وليس توحيده. تبنت جامعة هارفارد تحت قيادة إليوت «نظامًا اختياريًا» أدى إلى توسيع نطاق المقررات المقدمة بشكل كبيرسمح للطلاب الجامعيين باختيار غير مقيد لدوراتهم الدراسية - بهدف تمكينهم من اكتشاف «المآزق الطبيعية» ومتابعتها فى الدراسات المتخصصة. وجعل الجامعة مركزًا للبحث العلمى والتكنولوجى المتقدم، وحٌول علم أصول التدريس من التلاوات والمحاضرات إلى الفصول التى تضع إنجازات الطلاب فى الاختبار، ومن خلال نظام الدرجات المنقح، إلى تقييم الأداء الفردى بدقة. بالرغم من تلك الاصلاحات تعرض إليوت إلى انتقادات كبيرة، وتم اتهامه بأنه المسؤول عن أكبر جريمة تعليمية فى القرن ضد الشباب الأمريكى – وهى حرمانه من تراثه الكلاسيكي..!

وفى مصر ظهر رجل ومفكر ورع هو طه حسين نادى بأعلى صوته ووصف التعليم فى ثلاث كلمات: أنه « مثل الماء والهواء»، وأكد أنه طريق الانطلاق نحو دولة قوية ومجتمع متماسك وواعٍ ومستنير. وقد دفعه اهتمامه بقضية التعليم إلى أن يخصص لها جزءاً واسعاً من كتابه «مستقبل الثقافة فى مصر» الذى أحدث صدى كبيراً وتسبب فى معارك فكرية واسعة. وحتى اليوم، لا تزال أفكار ومقترحات طه حسين صالحة للنهوض بالتعليم، فكثير منها تتعلق بقضايا ومشكلات لا تزال عالقة حتى اليوم، مثل قضية الامتحانات، التى وصفها بأنها «سبب فى فساد النظام التعليمى»، وتم اختزال الهدف من التعليم فى فكرة «النجاح والسقوط». وعندما تقلد «طه حسين» منصبه وزيراً للمعارف فى حكومة إسماعيل باشا، استطاع خلال عامين أن ينفذ بعض من رؤيته، فمد مجانية التعليم لتشمل التعليم الثانوى والفنى، وزيادة مدة التعليم الابتدائى من 4 إلى 6 سنوات، واستعان بوفود خارجية للمساهمة فى تطوير التعليم كما تعاقد مع أساتذة من فرنسا وإنجلترا لنقل خبراتهم إلى المدارس المصرية.وكان المبدأ فى كتابه المهم «مستقبل الثقافة فى مصر»: «هو أن نأخذ من الحضارة الغربية خيرها وشرها حلوها ومرها، ما يُحب منها وما يكره وما يُحمد منها وما يعاب”، ثم يؤكّد على بعدين أساسيين فى نهضة مصر الحديثة، أولهما البعد الفرعونى، وثانيهما البعد المتوسطى، فمصر – كما يرى – تشرف على البحر الأبيض، وتربطها بأوروبا وشائج من القرابة التجارية والفكرية والجغرافية، ويتساءل طه حسين: أَوَلَم يتجسد هذا التقارب فى عصر البطالسة، حين كانت الإسكندرية قطب العالم المتنور المتحضر المبدع؟ كان مشروع طه حسين تنويرياً فكرياً ثقافى عربى يعتمد على التفاعل مع الثقافة الأوربية، حيث إنه أباح الأخذ من الثقافة الأوربية، من موقع الثقة بالنفس، لا من موقع رد الفعل، ومن موقع الفخر بالحضارة الإسلامية، وحيث لا تكتمل رسالة التنوير إلا بمد جسور مع الفكر العالمى فى صيغتيه التاريخية والحديثة، عبر تعريب روائع الفكر الإنساني.وفى الجامعة تعلم طه حسين طرقا أخرى للتعليم تختلف جذريا عن طرق التعليم الأزهرية. يتحدث طه حسين عن الحياة الجامعية فى مصر قائلا: «... وكانت حياة الجامعة فى أول عهد المصريين بها عيدا متصلا يحبونه إذا أقبل المساء من كل يوم، حين يزدحمون على غرفات الدرس على اختلاف منازلهم من الفقر والغنى، وعلى اختلاف حظوظهم من الثقافة، وعلى اختلاف أزيائهم أيضا ... «.يقول طه حسين فى كتابه: «أن الجامعة لا يتكون فيها العالِم وحده، وإنما يتكون فيها الرجل المثقف المتحضر الذى لا يكفيه أن يكون مثقفاً، بل يعنيه أن يكون مصدراً للثقافة، ولا يكفيه أن يكون متحضراً، بل يعنيه أن يكون منمياً للحضارة؛ فإذا قصرت الجامعة فى تحقيق خصلة من هاتين الخصلتين، فليست خليقة أن تكون جامعة، وإنما هى مدرسة متواضعة من المدارس المتواضعة، وما أكثرها، وليست خليقة أن تكون مشرق النور للوطن الذى تقوم فيه، والإنسانية التى تعمل لها، وإنما هى مصنع من المصانع، يعد للإنسانية طائفة من العلماء ومن رجال العمل، محدودة آمالهم، محدودة قدرتهم على الخير والإصلاح».

فقط إذا تمكن المصريون من إصلاح التعليم سيتمكنون من اللحاق بركب الحداثة الأوروبية. إن هذا التفاؤل الذى كان يعبر عنه طه حسين، هو ما عبر عنه أيضا الكثير من المصريين ومن المراقبين الغربيين أيضا. لقد كان طه حسين فى طليعة الذين ساهموا فى إرساء القواعد المهنية النزيهة فى الجامعة المصرية استنادا على الموهبة والذكاء والمعرفة والجدارة العقلية والمعرفية، دون أى تمييز طبقى أو عرقي. وعندما عاد إلى عمادة كلية الاداب فى 1936 دفع بجهود الكلية للتطور والتقدم فى شتى المجالات، وحث على تدريس المزيد من اللغات والآداب بها، وعلى مشاركة أساتذتها فى المؤتمرات العلمية الدولية، كى يضع الجامعة على خريطة العالم باقتدار وندية. وشجع باحثى المصريات الشباب: سامى جبرة وسليم حسن على التنقيب عن الآثار حماية لتاريخنا وآثارنا من نهب المنقبين الأجانب. وأنشأ نظاما جديدا للمعيدين، للاستفادة من الشباب النابهين وإعدادهم للبعثات.عندما احتفت جامعة السوربون الفرنسية بأفضل عشرة من خريجيها فى الفترة من 1889 ــ 1973، أختارت عميد الأدب والثقافة العربية طه حسين، كأبرز دعاة التنوير فى العالم العربى، كواحدً من الرجال العرب الأكثر موهبة وأعتبرته واحداً من أولئك المثقفين العرب الذين حملوا الشهرة لجامعة السوربون فى الشرق. لقد كان سر تسمية طه حسين من مجرد عميدأ لكلية الآداب إلى عميدا للأدب هو موقف ضميرى حرّ مستنير. وقد تتلمذ طه حسين فى الجامعة المصرية على يد العديد من العمالقة فى الأدب والفن والتاريخ واللغة منهم أحمد زكى وأحمد كمال باشا والمستشرق جويدى كرنك نللينو، وفى اللغات السامية القديمة ليتمان، وفى الفلسفة الإسلامية على سانتلانا، وميلونى، وماسينيون، وكليمانت.وفى جامعة باريس درس على يد جلوتسس، وبلوك، وسيجنوبوس.