محمود الرحبى يكتب : قصتان

اللوحات للفنان: عمر النجدى
اللوحات للفنان: عمر النجدى

حلم

إلى أحمد بن اسماعيل 

«على الكاتب أن يشتغل جيدا على مادة الحلم بورخيس»

ليلة أمس، قبل الفجر بقليل، حلمت بعبد الرحمن بدوى يتحدث فى مسرح فارغ من الجمهور. ظهرت، فى البداية، صورته معلقة وسط الركح، ثم استحال جسده -سريعا وبقدرة قادر- إلى قحفة أو صندوق حديدى صغير بحجم ترموس القهوة، آلة حديدية ذات ملامح بشرية. كانت الآلة تتحدث بغمغمات غير جلية المعنى. ولكنى استطعت، رغم ذلك، أن أسأله وهو يختفى فى الضباب: كيف استطعت أن تؤلف وحدك أكثر من مائتى كتاب؟! كان هذا فى الحقيقة ثلث السؤال فقط الذى لم يكتمل، إذ اختفى عبد الرحمن بدوى سريعا وترك فضاء المسرح فارغا. الثلث الثانى للسؤال هو أن المائتى كتاب ونيف التى ألفها بالعربية لم تشمل كتبا أخرى ألّفها بالألمانية والفرنسية والإيطالية؛ فبدوي، إلى جانب غزارته فى تأليف الكتب التى تشمل الأدب والتاريخ والتحقيق والفلسفة والأديان والمنطق، ناهيك عن سيرة ذاتية هائلة تربو على الثمانمائة صفحة، امتلك كذلك قدرة على تعلم تسع لغات أتقنها إلى درجة تأليف كتب فى بعضها. القسم الثالث من السؤال، الذى هو فى حقيقته ثلاثة أسئلة بنفَس واحد وعلامة استفهام واحدة فى النهاية، لم يكن عن عبد الرحمن بدوى وإنما كان عن أبيه.. هذا الأب خلف واحدا وعشرين ولدا وبنتا كان عبد الرحمن الخامس عشر بينهم. ولكنْ قبل أن يأتى دور عبد الرحمن فى الولادة تعرض الأب لحادث اغتيال، تعافى منه بأعجوبة. لو مات -لا قدر الله- لن تتأثر كثيرا سلالة بيت آل بدوي، ولكن كان سيختفى فى ظهر الغيب رصيدٌ هائل من الكتب.

حارس حديقة العشاق

فى يده صفارة وليس له محطة بين الأشجار. منتصبا ومتحفزا للانطلاق والنفخ ورقبته تتحرك فى كل اتجاه. يصفر قبل أن يقترب من جسدين بدآ فى التلاشي. فيتدخل ليفصل بين قبلتين، بين عناقين. يستعيد وضعه المنتصب المتحفز بعد كل تدخل. ليس غاضبا أو راضيا، فقط يعمل. يتحرك بين الأشجار. الصفارة لا تخرج من الجيب إلا للضرورة. يتردد قبل أن ينفخ فى جوفها، هل ما يراه يستحق التدخل؟ غير معنى برسائل القلوب. يراقب ما يمكن لعينيه أن تلتقطا. يتردد بعد رؤيته ملامسة أطراف اليدين بين صبى وفتاة والصفارة فى فمه. هل سينفخ فيها ويشعل اللحظة؟ تذوب العين فى العين. تتلامس الأيادي. يتحد الظلان رويدا، ثم تنطلق الصفارة وهى تقترب من بعيد. يذهب العاشقان إلى عالمهما. ترتسم علامات خجل على خدى الفتاة فتحنى رأسها، بينما يتكفل الصبى بإيماءات الاعتذار. يومئ الحارس برأسه بجدية، ثم يتقدم باحثا بين الأشجار. تدخل امرأة سمينة يسبقها صراخها وهى تسب أهل الأرض جميعا: «هؤلاء ليسوا أبناء آدم. هؤلاء أبناء كلبون. أبناء كلبون. أبناء كلبون».. لا يهتم الحارس لشأنها. لقد غدا وجودها العابر عاديا مع الوقت. يعرف طريق دخولها من صراخها الذى يسبقها. هنا يمكننا التمييز بين الدخلاء الجدد للحديقة الذين يجفلون مستغربين بمجرّد ما يسمعون صوت المرأة والمعتادين على المكان، ممن لا يعيرون اهتماما للمرأة وصراخها ويكتفون برمقها بنظرة عابرة. تدور المرأة بصراخها فى كل بقعة من الحديقة، وهى ترسل نظرتين شاردتين وعبارات محددة فى شتم العالم. تفرغ شحنتها من الصراخ. ودون أن تستريح لحظة، تهبّ خارجة من باب الحديقة إلى الشارع، فيخفت صراخها تدريجيا مع كل خطوة. تدخل بائعة ورد. العرق ينز من جبينها ولفاع رأسها وأطراف يديها. تخطو لاهثة، وحزمة الورد مخنوقة فى قبضتها. يتابعها الحارس بعينيه. تقف أمام كل عاشقين. لا تفارقهما بسهولة. اختبار صعب ينتهى بانتصارها فى العادة. قد تبيع أربع وردات لعشّاق جدد. الذين ألفوا المكان يدخلون معها فى حديث عابر، فتتركهم متقدمة عبر تعرجات الحديقة. يهرع وهو يصفر خلف بائع متجول. كان يطرده بصفارته بعد أن رآه يبيع السجائر بالتقسيط. تتحول الصفارة هذه المرة إلى لسان ساخط. عند الغروب، حين تختفى الظلال، التى تبدو وكأنها من يضيء المكان ويحدد الوقت. يتحرك بين الأشجار حاثا الجالسين على الخروج بابتسامة وإشارات استعطاف من يديه. تكون الصفارة قد آوت مستريحة فى جيب سترته الداخلى حتى الصباح. وحين يطمئنّ إلى خلو الحديقة من البشر يغلق بابها الحديدى العريض، مثل حانوتى يغلق باب دكانته. ثم يقف مع المنتظرين وصول الحافلة. بعد لحظات، يدلف إلى جوف الناقلة التى تبتعد به نازلة نحو المدينة القديمة.