تساؤلات

وأما أحمد..

أحمد عباس
أحمد عباس

شاب جنوبى يافع يعمل نادلًا بأحد المطاعم الفاخرة بمدينة الجونة، تسطع عيناه لمّا يضحك ولا أعرف إذا كانت تزداد بياضا فتضيء أم أن عينه هى مرآة روحه، فى الحالتين الولد روحه شفافة جدا كأنها ملساء لا نتوء فيها ولا دهاليز، هى روح سهلة وحسب.


الشاب عادى حتى اسمه -بالصدفة- أحمد، لا اسم أسطورى ولاغير مألوف ولا هو نادر، فبعض الأمكنة لو رفعت صوتك وناديت: أحمد. سيلتفت لك كل القاعدين.
عرفت اسمه من علامة موضوعة على جانب صدره الأيسر هى بالقانون من متطلبات العمل فى أى نشاط يحتك فيه العامل مع الجمهور، فلا حق أهم من أن يعرف الشخص اسم مضيفه، أعتقدها أيضًا من متطلبات وزارة السياحة وشرطتها، لمحت الاسم حين اقترب وانحنى قليلا ليضع طبق العشاء بابتسامة ظننتها ارتسمت لما جالت بخاطره ذكرى جميلة دفعته للابتسام، إما أن تكون فقط للترحاب بزبون عابر سيأكل ثم يرحل فهذا ما لم أصدقه لكن الحقيقة أنها كانت كذلك، رأيته يضع ابتسامته أولا على كل مائدة قبل أن يحط الطعام، للمصريين قبل الأجانب وللأطفال قبل البالغين.


كأن الأجانب القاعدين فى المكان يطلبون الشاب دون غيره، وأنا لا أهتم بمن يفضله الأجانب أو يكرهونه، الشاب يأخذ العقل حرفيًا، لن يفهمه متعالِ أو هاوِ أو متصنع، فالأرواح لا تصل لأولئك الذين يجيدون التظاهر والادعاء وهذه مسألة تكشفت لى لما اختبرت الحياة وخبرتها ومرت بى السنون وتعددت التجارب وزاد السفر وطال الارتحال، كأن لا شيء سوى الأرواح حينها تجذبنا وتلتقط أرواحنا، يحدث ذلك لما نتقدم بالعمر أكثر وتصفو النفس وترتقى إنسانيتنا وتسمو الرغبة وتقل المتطلبات.


أما أحمد.. لم يغادر عشرينياته أعتقده قبل نهايتها بقليل، جاء من أسوان الضاحكة قبل نحو سبع سنوات، عمل بمطاعم متعددة بنفس المدينة قبل أن يستقر بالسويسرى منها، تعلم اللغات هنا، فانجليزيته طليقة والفرنسية أقل والألمانية لديه ما تيسر منها والعربية جنوبية خلابة، مايزال يُعطش الچيم ويدغم اللام فى الواو فيقول على الولد «ود» ويسخر من نفسه متى حانت النكتة ويضحك مع الزبائن إن أرادوا ويجمع الأطفال بقطط المكان وله خطيبة أسوانية سمراء تنهض له احترامًا إذا جاءت سيرتها أو تحدث عنها.

 


ولما كنت من هواة الحكايات السهلة البعيدة عن الشوكة والسكين، وحلّت لى طلعته وتأملت طلته ناديته بلطف وسألته: لماذا لم تقعد فى أسوان!
لم ينتفض أحمد بنفس الحنين الذى يفور من عينيه لما تجىء سيرة خطيبته ولم يتجهم، فقط قال بأدب: هنا أحسن، أنا أحب بلدنا هناك حد النيل لكن الحياة هنا أفضل، الجنوب صار مُرهقًا ومُرهَقا ولم أُعد أهل له، حتى الخطيبة ستأتى معى الى هنا بعد الزواج.. هنا أحسن.


عزيزى.. انتهت الحكاية هنا، فإذا كنت من الباحثين عن مفاجأة أو عظة فللأسف لن تجدها على الورق ولا أى ورق حتى البنكنوت منه، هذه أشياء مكانها هناك فى الحياة لدى أولئك العاديين حيث طوابير المَسير.. حيث أحمد والملايين.


أما هذه الحكاية عادية وأحمد شاب عادى وأنت وأنا ونحن عاديون جدا فى كل شيء، وأنا أميل للكتابة عن هؤلاء الذين يسيرون فى الحياة من غير صخب، ولا يميلون للجلبة، ولا يستحسنون المدح والدوشة، ثم إن هذا حقهم، ولست أخشى أكثر من ضياع الحقوق أو تضييعها، أما أنا فأحسنى منهم وإليهم اقترب أعرفهم جيدا وأفهم كيف يكون أدب الحديث عنهم، وأحب أن أكون عاديا.