محمود الوردانى يكتب: بحثا عن الشمس المشرقة ( 1- 2 )

محمود الوردانى
محمود الوردانى

[email protected]

لاتكتب ميرال الطحاوي عملا روائيا، بل تشيّد عدة عوالم متشابكة ومتداخلة في ضفيرة واحدة محكمة. غادرت الطحاوي هنا عالمها القديم بعد أن استنفدته على مدى رواياتها السابقة: الخباء، الباذنجانة الزرقاء، نقرات الظباء، ثم بروكلين هايتس التى أعتبرها القنطرة التي عبرت من فوقها نحو «أيام الشمس المشرقة» - دار العين - 2022.


لاأظن أنها مصادفة أن يفصل بين آخر رواياتها «بروكلين هايتس» وبين هذه الرواية مايزيد على عشر سنوات، حتى لو كانت قد أصدرت بالفعل أكثر من دراسة أكاديمية. 


أريد أن أؤكد أولا على أن أعمالها الروائية التي ذكرتُ عناوينها لتوي، كانت أعمالا استحقت كل الحفاوة النقدية التي نالتها، وكذلك الحفاوة من جانب القراء، لكنها استُنفذت.

وفى اللحظة المناسبة، غادرت الكاتبة عالمها القديم، عالم التماهى مع شخوص الرواية، والامتلاء بشحنة عاطفية على وشك الانفجار، واستخدام ضمير المتكلم، واللغة الحافلة بالظلال، اللغة الناعمة العاطفية..


كل هذا كان جميلا ومعبّرا عن مرحلة سابقة، وقامت الكاتبة ببناء عالمها السابق الإشارة له حجرا فوق حجر، ثم غادرت كل مابنته، وانتقلت تماما إلى عالم آخر. لاأفاضل هنا بين عالم وعالم آخر، لكني أؤكد على أنها عندما شعرت بأنها استنفدت عالمها القديم، غادرته لتشيّد عالم الشمس المشرقة.


على القارئ ألا يخدعه العنوان فليس هناك أي شمس مشرقة، بل تجري الأحداث في آخر العالم إذا كان للعالم آخر. أغلب شخوص الرواية لفظتهم بلادهم، أو أُلقى بهم على هذا النحو أو ذاك. فقراء يتضورون جوعا، ويواجهون عالما بالغ الشراسة، يسعون طوال الوقت للسماح لهم بخدمة السادة الذين يسكنون في القمة وماحولها.


من جانب آخر، تكشف الطحاوي عن عالم مغاير لعالم المهاجرين إلى أمريكا، بلاد الوفرة والثراء والفرص الذهبية. شخوص هذا العالم- وأغلبهم من النساء، وحتى الرجال القليلين جدا يلعبون أدوارا هامشية.

والأبطال الحقيقيون نساء يملأون الرواية صخبا وضجيجا، لاتكتفي الكاتبة بتقديمهن وتقديمهم في بلاد الشمس غير المشرقة أبدا، بل تصحبهم من طفولتهم الباكرة، وتمضي بهم وتعبر عقودا من الكد والغُلب والمهانة، وعندما تصل بهم إلى بلاد الشمس المشرقة يواصلون رحلة المهانة والفقر.


أشير على سبيل المثال لـ«نعم الخباز». أبوها خباز فعلا، لكنها قطعت رحلة مخيفة من قرية صغيرة في الدلتا، طفلة مشوهة الوجه بسبب الإهمال، وكدحت لسنوات في بيوت العجائز الذين يواجهون نهاياتهن، والتحقت بخدمة إحداهن وعبرت إلى نهاية العالم.


ويمكنني أن أشير أيضا إلى «نجوى» أو «ميمي دونج» أو «أحمد الوكيل». كل من هؤلاء وغيرهم تصحبهم الكاتبة من أبعد نقطة، وتمضي بهم إلى بلاد الشمس المشرقة، وتكتب عدة روايات عنهن وعنهم، ليس في المهجر فقط، بل ماذا جرى وهم في طريقهم إلى المهجر، وكيف فقدوا كل شئ حتى الأولاد الذين أنجبوهم، وهاهم يتسكعون قرب الشاطئ الخانق برائحة كلاب البحر النافقة.


لذلك ذكرتُ في أول سطر أنها تشيّد عدة عوالم متشابكة في ضفيرة واحدة محكمة، وتغزل خيوطها بأناة وخبرة جديدة مدهشة في كل شئ: خبرة بعالم جديد تقتحمه للمرة الأولى، ولغة مختلفة، بل وإحساس مختلف بالكتابة ذاتها، وسيطرة وإحكام.


ليست مصادفة أن تكتب ميرال الطحاوي «أيام الشمس المشرقة» بضمير الغائب الذي يسمّيه النقاد السارد العليم.، وليست مصادفة أيضا أن تكون لغتها عارية إلى هذا الحد من الظلال، وساخرة ولايفوتها الحس الكوميدي عند الضرورة.على أي حال، أستكمل قراءة أيام الشمس المشرقة الأسبوع القادم إذا امتد الأجل..

اقرأ ايضا | محمود الوردانى يكتب : نوادى الإجرام وشركات القَتَلَة «2- 2»