ممدوح رزق يكتب.. الرجل الذى كان الخميس: حيوات ملفقة

ممدوح رزق يكتب :الرجل الذى كان الخميس: حيوات ملفقة
ممدوح رزق يكتب :الرجل الذى كان الخميس: حيوات ملفقة

لا تبدو رواية «الرجل الذى كان الخميس» للكاتب البريطانى جى كيه تشستيرتون أنها تقوم على موضوع المقارنة بين «النظام» و«الفوضى» أو المراوغة الدائمة لمعانى «النقيضين» بقدر ما تتوغل فى اتجاهات وفضاءات عدة لمساءلة العلة المحتملة ـ الأبعد من كل يقين ـ التى تُشكل التصورات المختلفة والمتبدّلة عنهما.
(«بل أنت من تفتقد إلى الشاعرية»، أجابه الشاعر سايم. «إذا كان ما تقوله عن الموظفين صحيحًا، فلن يسعهم إلا أن يكونوا مبتذلين تمامًا كشِعرك. الشىء النادر، الغريب هو أن تصل إلى هدفك؛ والشىء الواضح، البشع أن تفوّته. نشعر وكأن الأمر قد غدا ملحميًا عندما ينجح رجل بسهم جامح واحد فى إصابة طير بعيد. أليس ملحميًا أيضًا أن يصل محرّك جامح واحد إلى وجهته فى محطة بعيدة؟ الفوضى تبعث على الملل؛ لأنه فى الفوضى قد يصل القطار حقًا إلى أى مكان، إلى بيكر ستريت أو إلى بغداد. لكن الإنسان ساحر، وسحره بالكامل يتمثل فى هذا، أن يقول مثلًا فكتوريا، ثم انظر! إنها فكتوريا. لأتناول كتبك من النثر والشعر المحض؛ دعنى أقرأ جدول رحلات، بدموع الفخر. خذ بايرون الذى يخصك، الذى يحتفل بهزائم الإنسان؛ وامنحنى برادشو الذى يخصنى، الذى يحتفل بانتصاراته. امنحنى برادشو بالتأكيد!»). 

إن المناظرة التى تبدأ بها الرواية الصادرة عن مركز المحروسة» بترجمة عماد منصور بين الشاعرين لوسيان جريجورى وجابرييل سايم حول القواعد والفوضى هى جدل ذاتى أقرب للغريزة بالنسبة للوعى المتعيّن فى الحياة متسمًا بالصفة البشرية، أى أنه أقرب ما يكون إلى مونولوج داخلى يُجسّد العُمر السرى للفرد متخذًا أشكالًا تنازعية متعددة ما بين الحضور والتغيّر والتخفّى، تنتج تمثلات قهرية متباينة تعادل المهام الوظيفية للبقاء.


(«حتى وإن كان الأمر كذلك»، قال، «فإننا نحن الشعراء دائمًا ما نطرح السؤال «وماذا تمثل لك فكتوريا الآن وقد وصلت إليها؟»، تظن أن فكتوريا هى أورشليم الجديدة، نعلم أن أورشليم الجديدة لن تكون إلا فكتوريا بالنسبة لك. لكن نعم، سيستاء الشاعر حتى وإن كان فى شوارع الجنة؛ فالشاعر دائمًا فى حالة ثورة»).


هذه المناظرة تخاطب أو تستهدف ما يتخطى حدودها اللغوية الظاهرة والملموسة؛ إذ أن الجدل بين الشاعرين حول «القواعد» والتدمير» تمتد ظلاله المخبوءة نحو «الماهية» متجاوزًا باتجاه «سرها»: هل ثمة حقيقة غيبية لـ «النظام» و«الفوضى»؟ .. لماذا كان عليها أن تتحصن ـ كحكمة ـ بتلك الإرادة الخفية القائمة على ما يُعتقد أنهما «الخير» و«الشر»؟.

بمعنى آخر: لماذا تحتم على هذه الحقيقة ألا تعبّر عن نفسها إلا من خلال المفاهيم / الأجساد المتصادمة أو المتقاتلة؟ .. هل تتحصّن حقًا كحكمة أم كوهم (تخريبي) ما ورائى مكلف بإنتاج السراب العفوى للنقائض؟ .. ما هى تلك الطبيعة المتعالية المفترضة التى يُنسب لوجودها الرمزى هذه الإرادة الخفية وبالضرورة تتم مجابهتها على جانب آخر؟.


(ورغم أننى شخص محسن محب للإنسانية بطبعى، لكننى أتمتع، آمل ذلك، باتساع أفق كاف لفهم موقف الرجال، أمثال نيتشه، الذين يعجبون بالعنف ـ الحرب المجنونة المتغطرسة للطبيعة وكل تلك الأشياء. ألقيت بنفسى فى دور ضابط الجيش. كنت أسحب سيفى من غمده وألوّح باستمرار، وأصيح قائلًا «أريد دماءً!» بشرود ذهن، كرجل يطلب نبيذًا فى مطعم. كثيرًا ما قلت «ليَفنَ الضعفاء؛ إنه القانون». حسنًا، يبدو أن ضبّاط الجيش لا يفعلون ذلك. اعتقلونى ثانية. فى النهاية انطلقت يائسًا إلى رئيس مجلس الفوضويين المركزى، وهو أعظم رجل فى أوروبا قاطبة»).


تلك التساؤلات يمكن مخاتلتها عند إدراك ـ وهو ما تعتمده الرواية تحريضًا جوهريًا ـ أن «الشرطة» ليست كيانًا مستقلًا خارج الفكر، وإنما تنويعات من الأسس الرقابية والعقابية النشطة بصورة واعية وغير شعورية داخل الذات .. أن «التجسس» ليس ممارسة وقائية بين فرد وآخر أو جماعة وأخرى،

وإنما استكشاف ترويضى تؤديه النفس تجاه أشباحها سواء الذين يشملهم الوضوح والمعرفة كما يبدو لها أو الذين يغيبون فى عتمة العالم المتجذرة داخلها .. من ثمّ فـ «المؤامرة» تسبق «القواعد والتدمير»، أى أنها المشيئة الأصلية لـ «الحياة والموت» وليست جانبًا منها أو وجهًا لها.


(«يا رفاق!»، صاح قائلًا، بصوت جعل كل رجل يقفز خارجًا من حذائه، «هل أتينا هنا من أجل هذا؟ هل نعيش تحت الأرض كالجرذان حتى نستمع إلى حديث كهذا؟ هذا حديث قد نسمعه أثناء تناولنا الكعك فى وجبات المدارس الدينية. هل نحشو هذه الجدران بالأسلحة ونسيّج ذلك الباب بالموت خشية أن يأتى أحد ويسمع الرفيق جريجورى يقول لنا.

«كن صالحًا، تكن سعيدًا»، و«النزاهة هى السياسة المثلى» و«الفضيلة مكافأة فى حد ذاتها»؟ لم أسمع بكلمة فى خطاب الرفيق جريجورى لن يستمع إليها قسيس بكل ابتهاج (صيحات استحسان). لكننى لست قسيسًا (هتافات متجددة)، الرجل المناسب لأن يكون قسيسًا صالحًا لا يمكن أن يكون خميسًا ذا عزم وتصميم والتزام (صيحات استحسان)»).


أن يكون أعضاء «المجلس الأعلى للفوضويين» فى الرواية من البوليس السرى فكأنما يتكشف أن السلطة لا تسعى لترسيخ «النظام» وحمايته أكثر من كونها تحاول فهم نفسها عبر ما يصنّف كنقيض لها .. أن تراقب «فوضاها» كاستراتيجية لسد ثغراتها الأكيدة والمبهمة.

إن السلطة تتقمص ما تظن أنها الروح المضادة لها، لا كتلصص وتدبير للتخلص من «أعدائها» بقدر الرغبة فى العثور على ما يعطل حلم الهيمنة الغامض الذى يكمن فى باطنها وليس فى ما يحاصرها وتحاصره .. الحلم المفخخ من قبل أن تتعرّف السلطة على كونها لغزًا توجب عليها مطاردته بينما تجابه كل ما يهدد بقائها وشموليتها .. أن يكون أعضاء «المجلس الأعلى للفوضويين» من البوليس السرى فذلك يعنى أن السلطة تتعقب خرافاتها.


(لم يكن جابرييل سايم مجرد محقق سرى تظاهر أنه شاعر؛ كان فى الحقيقة شاعرًا تحوّل إلى محقق سر. كذلك لم تكن كراهيته للفوضوية مدّعية وغير صادقة. كان واحدًا من هؤلاء الرجال الذين اندفعوا فى بداية حياتهم فى اتجاه محافظ للغاية لا يناسب الحماقة المذهلة لأغلب الثوريين. لم يحقق ذلك عبر أى تقليد لترويض النفس.

كان طابعه المحترم عفويًا ومفاجئًا، ثورة ضد الثورة. جاء من عائلة من المهاويس، يتسم العجائز فيها جميعهم بأفكار جديدة تمامًا. واحد من أعمامه كان دائمًا ما يمشى بلا قبعة، وآخر حاول ذات مرة بلا نجاح أن يسير بقبعة ولا شىء آخر. كان أبوه يشجع الفن وتحقيق الذات، وأمه نصيرة للبساطة والنظافة الجسدية).


يبدو «تدمير الأماكن» كمجاز يتخذ صورة الواقع .. ذلك لأن الأماكن لا يلزم تدميرها ـ بما تتضمنه من عابرين ـ نتيجة غرض تغييرى أو ارتقائى أو حتى انتقامى بشكل مباشر وإنما لأن المكان لا يطابق ما يبدو عليه فى المخيلة الفردية سواء أفرزت هذه المخيلة مسمّى كـ «الفوضى» أو وجدت ضالة إجبارية ومؤقتة فى تواطؤها مع خيالات أخرى .. بمعنى أدق لا ينقذ المكان المتعيّن خارج الجسد صورته الأصلية الغائمة فى الخيال .. لذا لزم تدميره بذرائع متنكرة .. ذرائع مصدّقة تمامًا لدى المختبئين داخلها .. ذلك ما يجعل التدمير تنقيبًا عن خلاص «المكان الذاتى» المدفون فى العدم وليس الحيّز التقليدى القابل للاستبدال .. الفضاء الإلهى المخصص ـ منطقيًا ـ لفرد عالق فى فنائه.


(حينها استولى عليه الإغواء العظيم الذى كان مقدّرًا أن يعذبه لأيام طويلة. فى حضور هؤلاء الرجال الأقوياء والمثيرين للاشمئزاز، أمراء الفوضوية، كان قد نسى تقريبًا الشكل البشرى الهش والعجيب للشاعر جريجورى، المعجب الأول بجمالية الفوضوية. بل إنه فكر فيه الآن على نحو قديم، كما لو أنهما قد اشتركا سويًا فى ملاعب الطفولة).


إن «رئيس المجلس» فى الرواية قد يحيلنا إلى مقاربته كـ «ذات مبدعة»، تخلق نصوصًا (لا يقبص عليها بقدر ما تستحوذ عليه) من الشخصيات الثأرية .. نصوص تقوّض المسارات الأرضية الممكنة على نحو فعلى باستعمالها كأبدان من لحم ودم .. أبدان تجسد امتدادًا تلقائيًا للشبق الذهنى الذى لا يعنيه سوى تحطيم فكرة «الوجود» عمليًا .. انتزاع «الطبيعة» من أسطوريتها باعتبارها البرهان الحسى المخادع للشر .. ليس هذا بحثًا عن هوية الثائر وإنما تفتيشًا عن الكينونة التى ينبغى تصفية الحساب معها .. الكينونة المطلقة التى تستقر فى القناعات وتلتف حول المتاهات وتمر عبر سياقات التبدد إلى خارج الزمن دون خسارة.


(لم أرغب سوى فى الالتحاق بخدمة المحققين السريين، لمكافحة مفجرى الديناميت بالتحديد. لكن بسبب ذلك أرادوا شخصًا ما قادرًا على التنكر كمفجر ديناميت؛ وأقسموا جميعًا بالجحيم أننى لن أبدو أبدًا كمفجر ديناميت. قالوا إن مشيتى تبعث على الاحترام، وإننى أبدو متمتعًا بصحتى جدًا ومتفائل جدًا؛ وخيّر وجدير بالثقة على نحو أكثر من اللازم).


«الرجل الذى كان الخميس» هى رواية تأمل الكآبة التى لا يُعرف لماذا كان عليها أن تظل دائمًا غير مفهومة، عجيبة كشىء خارق رغم بداهتها وبساطتها وطيشها كأنها دماء تتراقص فى مرحها الطفولى الخاص داخل كل جسد منذور للعماء والتلاشى .. الكآبة الناجمة عن أدوار يتم انتقائها ظاهريًا وفقًا لتمعن وإيمان، ولكنها فى حقيقتها توحدًا إجباريًا بأدوات التعذيب غير المرئية التى أردنا الانفلات من قيودها الماكرة .

خضوعًا لما يقتلنا بكيفية تزيف انفصالنا عن أنساقه المتشابكة .. تزيف سيطرتنا على مصدر الانتهاك الذى يمتلك أرواحنا .. لهذا ليست هناك حركة أو إمكانية للتنكر .. هناك جمود وفضح، كأنما جثث هامدة، عارية، تلفق حيوات، مبادئ، رسائل، قرارات، قدرات حاسمة لا تنجح فى ستر دموعها الوداعية التائهة والمتحسرة، المتلاحقة بغضب شهوانى عاجز وراء كتمان مرتعش فى كل لحظة منذ ما يُعتقد أنها البداية.   

اقرأ ايضا | أحمد الزناتى يكتب: الأبدية الآن...الوحدة والعزلة عند باول تيليش