يعود لـ50 عامًا مضت.. ننشر حوار أمينة النقاش مع توفيق الحكيم

أمينة النقاش تكتب :فى حوار نادر«اعترافات توفيق الحكيم كنت شيخاً رجعياً فى شبابى!»
أمينة النقاش تكتب :فى حوار نادر«اعترافات توفيق الحكيم كنت شيخاً رجعياً فى شبابى!»

عندما حلقت شنبى وأنا شاب فأثرت زوبعة فى المجتمع التعليم الجامعى فى مصر يخلق آلات.. ولا يخلق عقولا قادرة على الابتكار فى شبابى.. أسرتى كانت عقبة.. ومجتمعى كان عقبة!
لاعلاقة لى بابنى: إسماعيل الحكيم! الحديث عن انحلال أوروبا.. يخفى عجزنا عن اللحاق بشبابها الفكرى  الحب يفتح للشباب حياة كاملة  خصبة مليئة بالمشاعر.


قبل أن تقرأ

كنت بالكاد أبدأ أولى خطواتى المهنية فى العمل الصحفى، حين وافق  «توفيق الحكيم» على أن أجرى معه هذا الحوار فى العدد الأول من مجلة الشباب الصادر فى 5 ديسمبر عام 1972. والمجلة كانت تصدرها أمانة الشباب فى الاتحاد الإشتراكى  ويرأس تحريرها «رجاء النقاش» وهى بالطبع غير مجلة الشباب التى أصدرتها فيما بعد مؤسسة الأهرام، كمجلة علمية رأس تحريرها «صلاح جلال» قبل أن تتحول إلى غير ذلك فيما بعد .  
كان الرئيس السادات قد أرسى دعائم  حكمه فى 15 مايو 1971، ووضع معارضيه فى السجون بأحكام  قضائية  متعجلة، حين كان «رجاء النقاش» يرأس تحرير مجلة الإذاعة والتليفزيون  الأسبوعية، الذى حولها  بكفاءته ومواهبه إلى منبر ثقافى وفنى رفيع المستوى. لكن عمله بها لم يستمر طويلا، إذ كان فى دوائر السلطة المصرية مسئولان تنقلا فى المواقع  الوازرية فى مجالى الإعلام والثقافة، هما عبد القادر حاتم ويوسف السباعى، وكلاهما كان يعد رجاء النقاش، بحكم أرائه التحررية والتقدمية فى النقد والثقافة «شيوعيا» من «بتوع الأشتراكية» كما قال أحدهما.

وفى ظل التوازن الذى أحدثته شخصية جمال عبدالناصر الكاريزمية بين قوى اليمين الثقافى والسياسى، والقوى التقدمية الداعمة لمشروعه، الذى أعلن مع صدور الميثاق الوطنى أن الإشتراكية هى طريق مصر للتقدم والتطور والتنمية، ظل الأثنان فى دوائر السلطة الناصرية والسادتية بنفس النفوذ والتأثير .

وكان من الطبيعى والحال هكذا، أن تتم إقالة رجاء النقاش من موقعه فى مجلة الإذاعة والتليفزيون ، فى أعقاب 15 مايو 1971. 
وكان الدكتور أحمد كمال أبو المجد صديقا قريباً ومحباً لرجاء النقاش، وحين تولى موقعه وزيرا للشباب «نجح فى اقناعه، بأن يرأس تحرير مجلة الشباب، فحولها كعادته، من مجرد نشرة دعائية محدودة التوزيع، إلى مجلة تنطوى مادتها على ثقافة وفن  فرجة وتاريخ، لكن الهوى السياسى تتدخل مرة أخرى، ولم يسمح لها بالاستمرا ر! 

 

ظلت الطرق مسدودة وتضيق على عمل «رجاء النقاش»  فى القاهرة، فشد الرحال، كما فعل كثيرون غيره من الكتاب والمثقفين والصحفيين للعمل فى الخارج عام 1979، حيث أسس فى العاصمة القطرية الدوحة صحيفة الراية القطرية، ومن بعدها  مجلة الدوحة الثقافية التى كانت منبرا واسع الانتشار للحوار الثقافى والفكرى لكل المثقفين والمبدعين العرب . 


اتذكر حين ذهبت لإجراء الحوار التالى مع توفيق الحكيم فى  مكتبه فى المبنى الجديد بصحيفة الأهرام، حالة الارتباك العظيم التى أصابتنى، حين وجدت فى غرفته يوسف إدريس وإحسان عبد القدوس وثروت أباظة وصلاح طاهر وغيرهم من أعلام الثقافة والفكر فى مصر  يتناقشون بحماس ويضحكون ويدخنون.

جلست فى ركن قصى من الغرفة ، اتفحص وجهوهم باندهاش، فى انتظار أن  ينصرفوا، ويفرغ الحكيم لاجراء الحوار.

وحين حدث ذلك، لاحظ توفيق الحكيم مدى ارتباكى، فقال لى بأبوة وهو يضحك: مالك؟ أنت خايفة؟ متخافيش أنا ما  ما باعضش. 


ومع الضحكات بدأت فى القاء أسئلتى، وكانت النتيجة هى الحديث التالى الذى يعود تاريخه إلى خمسين عاما مضت. 

ممارسة الحياة نصف قرن، شىء لا يستطيعه إلا نمط خاص من الرجال.وعندما دخلت عليه، كان السؤال الملح، هو كيف استطاع أن يظل كل هذا العمر، دون أن يفقد فاعليته فى الحياة.. يقرأ ويكتب، ويعيش، ويرى خطى الزمن القادم، كما لو كان زرقاء اليمامة.. يضعف البصر، لكن القدرة على رؤية الغد لا تضعف.


وكان الحوار صريحا أحياناً.. وقاسياً أحياناً.. وطوال الوقت كنت أتأمل وجهه وأقرأ ملامح الرحلة الطويلة على تجاعيده، الرحلة من شارع عماد الدين وفرقة عكاشة المسرحية، باريس وعودة الروح وعصفور من الشرق، عدو المرأة، والعمر المنهك فى الريف، ويوميات نائب فى الأرياف.. شارع سلامة.. و «الكل فى واحد».


ووصلت الرحلة إلى مبنى الأهرام الفخم.. ومن نوافذ مكتبه وقفت أتامل زحام شارع الجلاء وأفكر من أين أبدأ معه.. وظل سؤال وحيد يلح. كيف استطاع «توفيق الحكيم» أن يعيش سبعين عاماً طويلة.. دون أن يفقد شبابه أو فاعليته فى الحياة. وليس هناك ما يمنع فى أن يكون معهد السينما أهم من كل المعاهد والكليات الجامعية وغير الجامعية، وأن تكون الدراسة به ستة سنوات بدلاً من خمسة ولماذا لا تكون تسعة مثل معهد الباليه مثلاً؟! ولكن المسألة ليست بإضافة السنوات.


ونظرة هامة على المناهج والأساتذة القائمين بالتدريس تكفى فى تعلم أن ما يدرس فى خمس سنوات هو ما يدرس فى أربعة وما كان يدرس فى أربعة يمكن أن يتم فى سنتين.


ومما أذكر فى هذه الصدد أننى كنت أناقش أحد المدرسين فى المادة التى يدرسها للسنة الأولى ودار الحديث حول موضوع معين تصورت أنه فى إمكان الطالب أن يستوعبه خلال العام الأول من دراسته لكن مدرس المادة قال لى: وماذا أدرس لهم إذن فى السنوات التالية.. ولا أظن أن هذا المدرس حالة شاذة.


وقد كان من آثار عدم استقرار النظام الدراسى وضعف المستوى العام للدراسة أن تخرجت بعض دفعات من شعبة الإخراج مثلاً ولم يمسكوا كاميرا ويصوروا بها بأيديهم ولم يقوموا بتدريب واحد كامل على المغيولا (صوت وصورة)، وحتى لم تتح لهم فرصة متابعة عمل فيلم من أوله إلى آخره.


ومع ذلك حصلوا على شهاداتهم وقذف بهم إلى الحياة العامة.وكان عليهم أن يواجهوا دون سلاح النداء الملح بخلق سينما جديدة.


مسئولية القطاع العام
فى نفس العام الذى تخرجت فيه أول دفعة من العهد العالى للسينما كانت الدولة قد بادرت بتكوين القطاع العام فى السينما وقد يبدو الأمر كما لو كان مخططا لإحكام ليتولى الشباب مسئوليتهم فى هذا المجال وإذا كانت دراساتهم السينمائية غير كافية فقد كان وجودهم داخل القطاع العام كفيلا بأن يدعم تدريجيا ودون مغامرة بالخبرة اللازمة إذا ما توفر لهم الجو الملائم.


وكانت البدايات مشجعة بالفعل، ولكن لم تمر سنة واحدة حتى كانت القوى الرجعية قد طوقت القطاع العام، فوادت فكرة توظيف خريجى الجامعة فى كليات التجارة فى عمليات إدارة الإنتاج حيث لم يكن يكفى خريجى معهد السينما.

وحالت بين خريجى المعهد العاملين بالقطاع وفرصة العمل حتى لا تسمح لهم باكتساب الخبرة إلا فيما قدر وحرمتهم بذلك من حقهم الطبيعى فى النمو. وأطاحت بلجنة قراءة النصوص السينمائية المكونة من مجموعة من شباب خريجى الجامعات وتم تجميدها بدعوة تحويلها إلى رئاسة الكاتب الكبير نجيب محفوظ بالمؤسسة وبذلك عزلوها عن موقع العمل بالشركة بعد أن علقوا عليها أخطأهم.


وقد ظلت هذه اللجنة طوال العام الأول تعمل فى راد والإنتاج الفعلى للشركة يسير فى واد أخر. وكان استمرار وجود اللجنة بالشكة كفيلاً بتفجير الصراع خاصة وقد انكشفت المسألة أمام الشباب ولكن القوى الرجعية كانت أذكى منهم وأقوى حين عزلتهم بحكم وجودها فى السلطة فى الوقت المناسب. فأوقفت فاعليتهم بعد أن أدوا الدور المرسوم لهم.


وكانت فضيحة أفلام جرف (ب) التى تورطت الشركة فى انتاجها بدعوة توفير العمل للأيدى العاطلة من أصحاب بائعى الساعات ومن هم دونهم.
وتوالت فضائح مؤسسة السينما.


أفلام هابطة
ميزانيات باهظة
خسائر فادحة
تنظيمات إدارية متتالية ومتضاربة.
عدم استقرار رؤساء مجالس الإدارة على مستوى المؤسسة أو مستوى الشركات.
تضخم الجهاز الإدارى ضياع المؤسسة وذلك فضلاً عن عمليات التبديد والمخالفات القانونية المستمرة.
ويرجع ذلك أساساً إلى عدم وضوح الهدف وتغلب النزعات الفردية. ومع غياب الهدف وتغلب النزعات الفردية أصبح كل شىء جائزا ومباحا وكان يكفى تغيير رئيس مجلس إدارة لتغيير كل شىء والبداية من جديد.


وكان طبيعيا أن يؤدى هذا الوضع إلى حالة الاختناق التى انتهى إليها الجهاز السينمائى. ولكن بدلاً من معالجة الأسباب الحقيقية لهذا الاختناق تتم تصفية هذا الجهاز وتسليمه إلى القطاع الخاص.

ويوضع فى مقدمة قائمة التصفية أسماء الشباب المثقف من الفنانين والفنيين الذين حرموا من حقهم فى العمل وظلوا مبعدين عنه رغم إلحاحهم المتواصل ثم أصبحوا متهمين بالعمالة الزائدة، وأصبح عليهم أن يدفعوا ثمن الخطأ الذى كان يجب أن يسأل عنه غيرهم.


ماذا بعد؟
وخلاصة القول فإن الخديعة الكبرى التى وقع فيها شباب السينما فى الستينيات وأوائل السبعينيات هى تسليمه بقدرة هذه الأجهزة السينمائية على أن تمد بفرصة التعبير عن نفسه. ورغم الضربات المتلاحقة التى كانت تناله منها فإنه ظل مهادئاً لها.


وعلى ذلك فإذا كانت هذه المؤسسات مسئولة عن حرمان الشباب من التعبير عن أنفسهم فإن مسئولية الشباب أكبر لأنهم لم يحاولوا أن يفرضوا إرادتهم فى اختيار مصيرهم الذى يخصهم أنفسهم بالدرجة الأولى.


والآن وقد تجاوز شباب الستينيات مرحلة الشباب فإننا نأمل أن يكون فى كهولتهم أصلب عوداً ولكن الأهم من ذلك أن يعى شباب السينما فى السبعينيات هذه التجربة، وليس فى وسع أحد أن يقدم لهم ما يجب أن يفعلوه لأنهم يجب أن يكونوا أعلم الناس بما يريدونه.

ولا يتركون مصيرهم ليقرره الآخرون وحدهم دون أن يكون لرأيهم وجود فى تقرير هذا المصير سواء كان ذلك داخل ما ذكرناه من مؤسسات أو خارجها.


العقل لا يشيخ
فى بداية الحوار سألته عن مفهومه عن الشباب؟.. ضحك، شعر بالمطب، قال إنه برغم أعوامه السبعين أكثر شباباً منى، واستطرد:
الشباب عندى هو شباب العقل، هو الحركة والنشاط العقلى والتطلع إلى المستقبل فحركة العقل فى اتجاه المستقبل هو ما يمكن أن نسميه بالشباب وإذن لا علاقة للشباب بالعمر لأن هناك شباب تتحرك عقولهم فى اتجاه الماضى، وهناك شيوخ تتحرك عقولهم فى اتجاه المستقبل.


بناء على ما سبق ما هى اعتراضاتك على توفيق الحكيم الشاب؟
ـ فى شبابى كنت شيخا فى التفكير، فعندما احتدمت معركة «السفور والحجاب» بالنسبة للمرأة، كان من الطبيعى لإنسان شاب من حيث العمر فى ذلك الزمن أن ينحاز فى صف المطالبين بتحرير المرأة وسفورها.

ولكن العجيب أنى كنت من الساخرين المتشككين فى أمر سفور المرأة وتحررها، وظهر ذلك من مسرحيتى «المرأة الجديدة» التى كتبتها عام 1923 فى أوئل العشرينات من هذا القرن حيث كانت حركة تحرير المرأة بعد ثورة 1919 من أهم ميادين النشاط الاجتماعى، وإنى لأعجب اليوم وأنا فى شيخوختى المتطلعة إلى المستقبل والمنتمية إلى التقدم والتحرر كيف كنت فى شبابى بهذه العقلية الرجعية المتحجرة.


كيف تفسر ذلك؟
ـ ذلك يرجع إلى أثر البيئة والتنشئة الاجتماعية والعائلية التى كانت تضغط على عقلية الشباب وتجمدها تجميداً، والنتيجة أننى عشت حياتى بالعكس، أو بالمقلوب، إذ كنت «شيخا» متجمد العقلية فى شبابى «وشابا» متحرر العقلية فى شيخوختى، وهذا يدفعنى لمطالبة شباب اليوم بأن يعيشوا حياتهم بمنطقها الطبيعى فيصبحوا أصحاب عقلية بعيدة عن التجمد.


هل تعتبر الاستفادة من خبرات جيلك تطلع إلى الماضى؟
ـ بالقطع لا، بيد أنه من المهم أن ندرك؛ أن العمر الطويل يكسب الإنسان تجارب وخبرات يمكن أن تكون مفيدة لمن يقطع فى الحياة شوطاً كبيراً، ويجهل الكثير مما ينتظره فى طريق الحياة، هنا تظهر مهمة التجارب والخبرة عند من قطع طريق الحياة الطويلة من الشيوخ وهنا يصبح تلقين.

ونقل هذه الخبرات والتجارب للشباب واجب من أهم واجبات الشيوخ، وتبقى المشكلة الوحيدة فى الطريقة التى تعطى بها هذه التجارب والخبرات لجيل اليوم، إن أخطر الأشياء هى فرض هذه الخبرات فرضا على الشباب كأنها حقائق ثابتة، قرارات حاسمة ينفذها مرغما، هنا تصبح هذه الخبرات ضررا.


وإذن فكيف يمكن أن تنتقل هذه الخبرات؟
ـ أن تعرض بطريقة ديمقراطية، بحيث تقدم فى قالب المادة التى يمكن للشباب الانتفاع بها إذا شاء طواعية واختيارا، يقبل منها ما يشاء ويرفض منها ما يشاء، وما علينا نحن الشيوخ سوى أن نقول له إليك تجربتنا وخبرتنا فى الحياة نقدمها لك لتكون موضع نظرك وتفكيرك وأساس لخطتك ومنهجك فى الحياة.. ولكن إذا أردت!


تميزت فى شبابك بين جيلك بالدعوة إلى «روحانية الشرق» فى مواهة ما أسميته فى عصفور من الشرق «بمادية الغرب» فى الوقت الذى ارتفعت أصوات منها حسين فوزى، وطه حسين للمطالبة بالارتباط بحضارة حوض البحر المتوسط، وحضارة حوض البحر المتوسط، وحضارة الغرب هل مازالت عند رأيك.. أم ماذا فعل به الزمن؟


- عندما كتبت «عصفور من الشرق» كانت أوروبا خارجة من الحرب العالمية الأولى مهتزة، ومبلبلة تترنح من صدمة هذه الكارثة البشرية وكان كثير من مفكرى الغرب يخشون من انهياره، وكنا نحن فى الشرق قد بدأنا ننهض قليلا ويستيقظ فينا الوعى بأنفسنا، ونحاول أن ننشىء حضارة نقف بها إلى جانب حضارة أوروبا الكبرى.وكنت عندئذ أريد أن أبحث عن موضع أقداما على هذه الأرض الجديدة، أرض حضارتنا الوليدة.. وكان السؤال المطروح يومها كيف نكون؟

وأيامها حاولت أن أنظر إلى خير ما فيه من تراث حتى ننجب أسباب الكوارث التى تهدر الحضارة الأوروبية.


هذا عن رؤيتك وأنت شاب فماذا عن اليوم؟
 اليوم؟.. لقد تغيرت الصورة تماماً فسرعان ما قامت أوروبا إلى ترميم ما تهدم فيها فى كل ميدان ولم يستطع الشرق أن يضيف كثيراً إلى النهضة التى كان قد خطط لها فى عشرينات وثلاثينات هذا القرت وزاد الطين بلة، أنه ابتلى بمساوىء الحضارة الأوروبية من التكالب على المادة، بدون أن يضيف إليها محاسن النهضات من التجديدات الفكرية والمبتكرات العملية، والوثبات الفنية التى رأيناها فى ميادين العلم والفن والتكنولوجيا فى الحضارات الغربية.

وكل ما شاهدناه عندنا قعود وهمود وتمسك بشعارات جامدة والتغنى بأمجاد قديمة لم نضف إليها شيئاً ولم نجدد فيها، ولذلك كثر الكلام اليوم عن ما يسمى الانحلال الحضارى الأوروبى، لإراحة أنفسنا من سباق النشاط الحضارى الحقيقى لأوروبا والعالم المتحضر.

وترتفع الأصوات هنا وهناك تنعى حضارة أوروبا وتتخذ من بعض الظواهر السطحية كملابس الشباب أو مظاهر لهوهم دليلاً على انحلال هذه الحضارات متجاهلة شتى نواحى النشاط المثمر، والخلاق، والإنتاج الحقيقى فى كل ميادين النشاط الإنسانى والذى يقوده بحق أغلبية الشباب فى تلك البلاد.


على ضوء تجاربك.. كيف يمكن للجيل الشاب أن يخطط لتكوين عقله وثقافته؟!
- أنا من أشد المطالبين بالتفتح على كل نشاط ذهنى فى الحياة، وأرفض رفضاً قاطعاً أى توجيه للشباب، يؤدى إلى السجن داخل حدود معينة بحجة صيانته من الزلل، فالتحجر والحبس لا يحميان من الزلل، ولكن التفتح هو العاصم الحقيقى.

ومن هنا فإن الشباب مطالب بأن يقرأ كل أنواع الثقافات بما فيها القيم، والغث، الضار والنافع، فليقرأ الشباب ما شاء له من قراءات بكل حرية وبلا وصاية ولنترك له فرصة أن يحكم بنفسه على قيم الأشياء وأن تتربى فيه ملكة التفكير الخاص والحكم الصائب، فالحجر على عقول شبابنا بحجة حمايته، يؤدى إلى عجز الشباب عن معرفة ما هو ردىء وما هو طيب، ذلك أن الثمين تزداد قيمته بمعرفتنا للردىء.


هذا عن الثقافة فماذا عن الحياة؟
استيعاب الحياة، بمعنى التفتح التام على كل ما فيها والشباب مطالب بأن ينفتح عليها بكل حواسه، بالذهن أو بالذوق، فالثقافة ليست كلاماً نملأ به الرءوس ولكنها يقظة كل الملكات والحواس للإنتاج الفكرى أو الفنى، أو الرياضى، كل مظاهر هذا النشاط يجب أن تكون مفتوحة أمام شبابنا، مع التوعية بالقيم منها والرخيص فى مجال العلم والفن والأدب وكل مظاهر الإنتاج الحضارى، والتوعية شىء، والحجر والحصار شىء آخر.


والمعارف المتصلة بكل الفنون والعلوم، بدأت وطأة العمر، وضعف الصحة، وبالتالى قل نشاطى الخاص بهذه القراءات ولكن على الرغم من ذلك لم أفقد سبل الاتصال المباشر وغير المباشر بمصادر المعرفة التى تجعلنى غير بعيداً عن ما يحدث فى حضارة اليوم المتجددة باستمرار.


هل لعبت الجامعة دوراً فى تكوينك الثقافى وأنت شاب؟
 لعبت هذا الدور مدرسة الحقوق إذا لم تكن الجامعة قد انشئت بعد، وقد انعكس هذا الدور على جيلى كله، وأذكر فى هذه المناسبة أن استاذاً إنجليزيا كان يدرس لنا الاقتصاد السياسى، وقرأ علينا فى هذا الفرع كتابا انجليزياً صغيراً ومختصراً.

وكان شديد الصعوبة بالنسبة لنا، وكان هذا مصدرا من مصادر همى، غير أنى بالصدفة سمعت الاستاذ يوماً يطلب إلينا الإطلاع على كتب غيره فى المكتبة، وإلى هذه اللحظة كنت أتخيل أن هذا الكتاب هو الوحيد من نوعه فى العالم كله، فلما ذهبت إلى المكتبة وجدت العديد من الكتب التى سهلت لى هذا العلم لكثرة تفصيلاتها وكان من رأى أساتذتى فى المدرسة أن العبرة ليست فى حفظ كتاب بعينه، ولكنها باكتساب المعلومات من أى كتاب شئنا، ذلك أن الهدف الرئيسى هو تنمية روح البحث، والتفكير، والاختيار الخاص لما نبحث عنه.


 وإذن فكيف تصبح جامعاتنا مصدراً من مصادر المعرفة لشبابنا؟
مهمة الجامعات المصرية ليست فى صب معلومات محددة فى رءوس الشباب بغرض أفراغها من جديد على ورق الامتحانات، أنه منهج عقيم فى التعليم، لا يجعل من خريجى الجامعات عناصر ذات عقول ابتكارية فى فروع المعرفة بما يفيد مستقبل البلاد.


والطريقة المثلى فى التعليم الجامعى عندى وربما أيضاً فى المراحل الأخيرة من التعليم الثانوى هى فى تنمية القوى المفكرة للشباب المصرى، وليس القوى الحافظة. فالطريقة المتبعة التى تفترض كتب بعينها، بحفظ شبابنا ما فيها ولا يعرف شيئاً خارجها هى ما تجعل عقل الشاب أشبه بالآلة الحافظة، التى تحفظ ما يقوله الاستاذ ولا تعطى الفرصة لمعرفة الآراء المخالفة لرأيه للإفادة منها. فهكذا تعلم جيلنا تحصيل المعرفة، وتفهم شتى الآراء واختيار ما يقنع منها أكثر حتى لو كان مخالفاً لمعلمينا داخل قاعات الدرس.


إن الأراء الحديثة ترى أنه فى بعض فروع العلوم، لا ضرر من أن يمتحن الشباب فى قاعات المكتبات، وأن يسمح لهم بالرجوع إلى كل ما يطلبون من الكتب والمراجع، ذلك أن العبرة من الامتحان ليس المعلومات الموجودة فى الكتب.

ولكن العبرة فى طريقة الإنتفاع بها، وحجة هذه الآراء أن المعلومات ستظل دائماً فى الكتب والكتب فى حياتنا العصرية فى متناول كل يد، والمهم فى تكوين الشاب هو أن يعرف كيف يرجع إلى هذه الكتب، ويستخلص منها المادة التى تلزمه.

ويستخرج منها طريقته الخاصة، فيجب أن نعى جيداً أن تكوين واثراء ملكات التفكير عند شبابنا اليوم هى المهنة الأساسية للتعليم وليس حشو الرأس بمعلومات جوفاء سرعان ما تنسى بعد حين.


الحب.. الزمن
ياشيخنا توفيق الحكيم.. قال الشاب الذى يحمل اسمك فى مسرحية أهل الكهف أن الحب يهزم الزمن أن القرون لا تحصى عليه» فهل تحقق هذا الكلام؟ ألم يغير الزمن حبك؟
 برغم أننى أكثر شبابا منك يا ابنتى، فمن الصعب على الآن أن أتكلم عن الحب، أو أراه بالطريقة التى تكلمت عنها فى شبابى، لأن من كان مثلاً شابا شيخا، لا يعطى للحب نفس الأهمية التى يعطيها له الشباب، فالحب هو شعلة حياة وأمل وافق ينكشف فجأة أمام الشباب، ما لم يكاد بشبه العالم المطلق، وعندما يكون الشباب فى حالة حب حقيقى أى مئزه من الأغراض الوقتية القريبة، يصبح الحب فى لحظة من لحظاته، مثله مثل الكشف الصوفى، نكاد نراه عالما رحيما يستطيع أن يعيش فيه وبه وحده حياة كاملة خصبة ممتلئة بالمشاعر، غنية باشعاعات لا توصف. وقتها يصبح كل شىء فى العالم مورقاً مثمراً، حتى آلام الغيرة والفراق والحرمان - ويضحك الحكيم وهو يقول وغيرها من أنواع الآلام التى أكد أذكرها الآن.


ويكاد الحب يدخل فى نطاق الأحلام غير المحدودة، فتصور الجمال الروحى أو الجسدى عند المحبوب يصبح من الأشياء المطلقة، ككل المطلقات فى الكون.


مرة أخرى هذا عن الماضى.. فماذا عن الحاضر؟
 يمكننى أن أقول إنه فى المراحل التى يمكن وصفها بمراحل الكهولة للبشر أو العصور، فإن الحب يتخذ مفهوما أخر مغايرا لما سبق، لما يدخل فيه من مطالب سريعة، أو أغراض مباشرة تدخله فى خضم الحياة المادية المحسوسة.

وعند ذلك لا ينطبق عليه مفهوم الحب فوق الزمن أنه يصبح مرتبطاً بزمن معين قد يطول أو يقصر تبعاً لنوال الأغراض والمطالب المنشودة منه. فنحن فى عصر لا يحتمل هذا النوع من الحب بالمعنى الكلاسيكى له، فسهولة اتصال الشاب بالفتاة فى هذا العصر يجعل فترة توهج العالم المسحور بينهما قصيرة، فسرعان ما تنتهى إلى الزواج أو بالحصول على المطالب السريعة، ولذلك لا أستطيع أن أعرف بالتحديد مفهوم الحب عند الشباب اليوم فى مجتمع أصبح الاختلاط فيه هو القاعدة.


لا نتحدث عن الشباب عموما ولكن رؤيتك أنت الأن؟
 من الصعب وأنا فى هذا العمر أن أحدد تصورا لمعنى الحب عندى، فإذا ما سألت كثيراً من زملائنا الشيوخ عن معنى الحب عندهم سوف يضحكون ذلك أن الظروف قلما تضعهم فى هذا الموقف، وإذا وضعتهم وأخذوه على سبيل الجد، فإنها تصبح كارثة مضحكة فى نظر المجتمع، وربما كان هذا من بلاء الشيخوخة إلى جانب مصائبها الأخرى.


الشباب والموضة
بمناسبة الحديث عن الحب والشباب ما رأيك فى المينى جيب؟
 ولماذا المينى جيب بالذات فهناك من الشباب من يطلقون شعورهم، ويرتدون ملابس خاصة بألوان مميزة.


 إذن نسمع رأيك فى ظاهرة أزياء الشباب بشكل عام؟
 أؤمن أن لكل عصر ولكل جيل طريقته الخاصة ومظهره الخاص الذى يناسب العصر الذى يعيش فيه، ففى أيام شبابنا كانت هناك موضات كثيرة للرجال، وأحيانا يتسع البنطلون اتساعاً كبيراً، فيما يسمى بالشرلستون ثم تأتى موضات أخرى تضيق فيها الملابس بشكل واضح.

وتصبح الأحذية بشكل خاص، كلنا لبسنا هذه الموضات ولم نجد غضاضة فى ذلك، ولم ينتقدنا أحد، كذلك فى مسألة الشوارب لقد كان من المتعارف عليه فى شبابنا أن مظهر الرجولة الحقيقية هو وجود شارب مبروم يقف عليه الصقر.

وكان حلق الشارب فى ذلك الزمن يعتبر من المخنثين، باستثناء فئة قليلة كان ينظر إليها فى العادة نظرة بعيدة عن الإحترام والتقدير وتعتبر منبوذة، وهى قلة قليلة كان ينظر إليها فى المنتمين إلى هذه الفئة بحكم اشتغالى وقتئذ بكتابة المسرحيات فقد حلقت شاربى وكان هذا فى نظر أهلى ومعارفى عيباً كبيراً، ولكنهم كانوا يغتفرونه أحياناً، ويقولون ساخرين «اتركوه أصله عامل فنان».


ومرت أعوام وتتابعت أجيال وأكثرية شباب اليوم فى مصر وفى العالم، هم أصحاب الشوارب الحليقة، فهل يحق لأحد أن يقول إنهم مخنثون!.
وكذلك الحال بالنسبة لمن يطلقون شعورهم، أن هذا يعود بالشباب إلى طفولة الإنسانية.


«ملحوظة: لقد أطلق الحكيم نفسه شعره ليطول».
والواقع أنها سخافة ما بعدها سخافة، أن يحاول البعض انتقاد الشباب لإطلاقهم شعورهم أو لارتدائهم المينى جيب مثلاً.


إن هذه المظاهر يجب أن تخرج نهائياً من مجال الانتقاد أو الملاحظة أو حتى المناقشة، فلكل إنسان أن يفعل ما يراه لائقاً أو مناسباً رجلاً كان أم امرأة، فاللياقة أو المناسبة ومراعاة منطق العصر، يجب أن يكون هو المرجع فى اختيار الشاب أو الفتاة، لما يرتدون وما يجب أن يكون عليه مظهرهم.


والشباب هو نفسه الذى يحدد ما هو المناسب أو اللائق بالنسبة له.
إن العبرة فى المظهر هو أن يكون الشخص نظيفاً، لا يؤذى الابصار أيا كان مظهره، سواء شعره طويلاً أو قصيراً، ملابسه طويلة أو قصيرة، هل تعرفين أن كثيراً من عظماء الرجل كان لهم شعر طويل حتى المنكبين أحياناً.

ومن هؤلاء «جمال الدين الأفغانى» الذى كان شعر رأسه يكاد يلمس منكبيه، ومثل ذلك أيضاً «نابليون» القائد العظيم وكذلك المناضل الكوبى «جيفارا» وأكثر من ذلك العلامة أينشتاين.


إن الإتهامات الغريبة بالخنوثة، والميوعة مثل هذا الكلام الغريب وغيره مما يرمى به شبابنا لمجرد المظهر الخارجى سخف لا معنى له، إن ما يعاب على شبابنا - إذا كان لابد أن يعاب عليه شىء - وهو التصرف العابث واللهو المعيب وعدم الجدية فى قيامه بواجبه نحو الإنتاج، ولإتقان ما يقوم به من أعمال نافعة فالمحك الحقيقى للحكم على شبابنا هو ماذا يفعلون لا ماذا يلبسون؟
جيل.. وجيل
 هل يمكن أن تعبر لى عن تقييمك للعلاقة بينك وبين والدك، مقارنة بالعلاقة بينك وبين ابنك إسماعيل؟
 علاقتى بابنى هى علاقة تكاد تكون علاقة بين شخصين عادين منفصلين، لا يجتمعان إلا فى فترات قليلة، كلا منا مشغول بعالمه وأعماله الخاصة فى الحياة، وقد اختار هو بمحض إرادته طريقه فى العمل كما اخترت أنا طريقى، غير أن الفارق بيننا أن النسبة الضئيلة التى تركت حسرة فى حياتى، قضيتها كلها.

فى الكفاح والصراع ضد العوائق التى وضعها أهلى أنفسهم فى طريقى، ومن خلفهم المجتمع كله فى ذلك الوقت، وقف هؤلاء يعاضون بشراسة حقى فى ممارسة واختيار طريق الفن والأدب الذى أردته، والذى رآه المجتمع، وفى مقدمته والدى طريقاً يؤدى للضياع.


ولكنى اليوم، وبعد هذه التجربة، أصبحت أرى حولى وفى بيتى جيلاً جديداً، يختار طريقا يمكن أن يعتبر طريق الضياع، فلم أحاول أن أحول بينه وبين هذا الطريق، الذى اختاره، والشىء الذى أنا متأكد منه تماماً أنه جاد فى الاختيار.

ومستعد للتضحية بحياته فى سبيله مبصراً إياه بالأفق الذى قد يكون مشرقاً أو مظلماً، فلما تأكدته منه، أن هذا الفن كما قال لى، جزء من دمه وكيانه، تركته دون أن أتدخل فيما إختار فكل عمل فى نظرى قيم وشريف طالما يبذل فيه صاحبه من الجهد والإيمان والاخلاص الحقيقى ما يمكنه من الوصول إلى أفضل النتائج.


 ياشيخنا الحكيم، هل تشعر أن الزمن تجاوزك أم أنك تجاوزته؟
 أحاول دائماً أن أشارك فى هذا العصر، وكل ما أخشاه أن يكون بينى وبين العصر حجاب طالما أنا على قيد الحياة لأن الأمر المؤسف فى الشيخوخة هو أن يكون الإنسان حيا بجسمه فقط مختلفاً بفكره وعقله، وأرجو ألا تحدث لى هذه الكارثة.

اقرأ ايضا | فى ذكراه الـ 35: توفيق الحكيم يكتب لإبنه رسالة خاصة جداً