عاجل

الدكتورعبد العزيز المسلّم يكتب :الحاضر الذى لا يغيب

الدكتور أحمد مرسى رفقة الدكتور عبدالعزيز المسلّم
الدكتور أحمد مرسى رفقة الدكتور عبدالعزيز المسلّم

أهديته كتابى الأول فى التراث وكان بعنوان «الذاكرة الشعبية» ففرح به كثيرًا وأخذ يقدمنى لزملائه فى الوفد المصرى ولآخرين من الوفود العربية ويقول لهم هذا تلميذى النجيب الذى أفتخر به.

برحيل الأستاذ الدكتور أحمد مرسى فقدنا عمودًا مهمًا من أعمدة التراث الثقافى العربى فقد كان التراث يتكئ عليه ويستظل بظله ويستضئ بضوئه، فهو الحارس والراعى و المنقذ، لا يهدأ لهُ بال ولا يرتاح إن كان هناك خطر يحدق بالتراث.


لقاؤنا الأول مع الدكتور أحمد مرسى كان فى ديسمبر 1985 عندما التحقت مع مجموعة من شباب الخليج العربى فى الدورة التدريبية الأولى لإعداد باحثين فى تراث الخليج والتى نظمها مركز التراث الشعبى لدول الخليج العربى.

و قد استمرت الدورة حتى يناير 1986، وكانت دورة عامة شاملة، شارك فيها عدد كبير من الأساتذة والخبراء العرب من الشرق والغرب، أحاطت مواد تلك الدورة بكافة جوانب التراث كالأدب الشعبى والعادات والتقاليد والمعرفة الشعبية والمأثور الصوتى والحركى كذلك الثقافة المادية؛ تم تقسيم المتدربين فى تلك الدورة إلى أربع مجموعات حسب تخصصاتهم وأول تلك المجموعات كانت مجموعة الأدب الشعبى التى كان يرأسها الدكتور مرسى وقد كنت أنا عضوًا فى تلك المجموعة.


فى أيام الدورة تلك اقتربنا أكثر من الدكتور مرسى واطلعنا على مدى علمه وثقافته وكذلك حرصه الشديد على التراث الثقافى وتعدد أساليبه فى الدراسات والبحوث، وقد استطاع بحنكته تلك أن يجعل المجموعة تعمل بروح الفريق الواحد وأن تكون أميز المجموعات فى نتاجها ومبادراتها المتعددة.

كما أنه استطاع فى مدة وجيزة من توسيع مداركنا وجعل التراث الثقافى ميدانًا لعملنا وابتكاراتنا، وقد ارتبط جميع الدارسين به ارتباطا وديَا وثيقَا، وإلى أن انتهت مدة الدورة التدريبية ظل الدكتور مرسى يمثل أجمل علاقة ودية بين أستاذ وطلابه.

ورغم انتهاء تلك الدورة التدريبية إلا أن علاقته ظلت مستمرة مع غالبية طلابه وأنا على رأسهم بحكم أننى كنت أعمل فى مجال الثقافة وتخصصت فى حقل التراث الثقافى سواء فى دائرة الثقافة بالشارقة أو فى لجنة الجرد الوطنية بالإمارات والتى ترأستها لفترة من الزمن.


تمر بضع سنين، وفى منتصف التسعينيات من القرن العشرين شكلت وزارة الثقافة فى الإمارات وفداً شبه دائم للتراث الثقافى لحضور اجتماعات منظمة اليونسكو (منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة)، وقد كنت عضوا شبه دائم فى ذلك الوفد، وكنت مع كل زيارة أقابل الدكتور مرسى هناك فى باريس، بصفته رئيس وفد جمهورية مصر العربية لليونسكو وتتجدد فى لقاءاتنا تلك العلاقة الجميلة بين الأستاذ وتلميذه وكنت أتلقى منه كثيرا من التوجيهات والنصائح والإرشادات.


فى عام 1999 التقيت بالدكتور مرسى من جديد داخل مبنى اليونسكو وأهديته كتابى الأول فى التراث وكان بعنوان «الذاكرة الشعبية» ففرح به كثيرًا وأخذ يقدمنى لزملائه فى الوفد المصرى ولآخرين من الوفود العربية ويقول لهم هذا تلميذى النجيب الذى أفتخر به، وكم كانت تفرحنى تلك الكلمات ويفرحنى ذلك الاحتفاء الجميل الذى يزفنى به.


قد توالت لقاءاتنا فى أوروبا وآسيا وإفريقيا وفى الإمارات بالطبع، وكنت أطرح اسمه دائمًا للمشاركة فى المحافل العلمية والمؤتمرات والمنتديات التى تقيمها الإمارات، فكنا نلتقى دائمًا ولم ينقطع تواصلنا على مدى السنين إلا فى بعض الظروف القاهرة التى كانت تلم بى أو به.


أتذكر أن أستاذى الجليل على عبدالله خليفة الذى كان عضوًا فى المنظمة الدولية للفن الشعبى اتصل بى ذات يوم وطلب منى أن ألتحق بالمنظمة وأن أسافر بعد شهر من ذلك الاتصال إلى إيطاليا لحضور اجتماع الجمعية العمومية للمنظمة والمساعدة فى تعديل مسار الانتخابات لصالح الدول العربية؛ بالفعل سافرت مع مجموعة من الزملاء.

وهناك فوجئنا بتواجد الدكتور مرسى حاضرًا للدعم والمؤازرة، وقد كان ما تمنيناه إذ رجحت كفة العرب وتم انتخاب الأستاذ على عبدالله خليفة رئيسًا للمنظمة والدكتور أحمد مرسى عضوًا فى المجلس العلمى للمنظمة وهكذا استمرت علاقتنا فى النماء.


عام 2014 تم تحويل احتفالية «يوم الراوي» إلى ملتقى الشارقة الدولى للراوى وضمن برنامج الملتقى تم استحداث تكريم شخصية علمية لها إسهامات كثيرة فى مجال التراث الثقافى فتم تسمية الدكتور أحمد مرسى كأول شخصية لذلك التكريم وتم الإعلان عن ذلك.

وفى حفل الافتتاح الذى كان تحت رعاية وحضور صاحب السمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمى عضو المجلس الأعلى حاكم الشارقة، تم تكريم الدكتور مرسى من قبل صاحب السمو وفى حديث جانبى مع سموه بحضور الدكتور مرسى قال لى سموه: «هل تعرف الدكتور أحمد مرسى عز المعرفة؟» قلت نعم هو أستاذى.

وله أفضال كثيرة، فقال سموه: «إذًا عينه مستشارا عندكم فى معهد الشارقة للتراث لتستفيد منه قدر المستطاع ويكون بقربك» وقد رحب الدكتور بذلك لكنه طلب مهلة لإنهاء بعض الارتباطات فى مصر، وبعدها عاد للقاهرة وبعد فترة أرسل لى دعوة لحضور الحفل الخمسينى لمجلة التراث الشعبى المصرية فحضرت الاحتفال.

وكرمنى بدرع الجمعية المصرية للمأثورات الشعبية باعتباره رئيسًا لها، وفى عام 2017 تم تعيينه بالفعل مستشارًا فى المعهد واستمر الدكتور مرسى لمدة ثلاث سنين معنا ناصحًا ومرشدَا وموجهَا.

وبعد اكتمال مدة التعاقد لم يرغب فى المواصلة بسبب مرض زوجته فقرر السفر إلى إسبانيا لمتابعة حالة زوجته هناك، لكنه تعب فى إسبانيا وتكشف أثناء الفحوص أنه قد أصيب بمرض خطير، والذى كانت رحلة معاناته معه طويلة ومؤلمة.


فى شهر يناير من هذا العام 2022 كانت مشاركتى معه فى ندوة بعنوان «تراثنا…مستقبلنا» والتى كانت من تنظيم إدارة معرض القاهرة الدولى للكتاب فى القاعة الرئيسية للمعرض، وقد حضر تلك الندوة وهو على كرسيه المتحرك ومكمم بجهاز المساعدة على التنفس.

وقال للحضور: «أنا صحتى لا تسمح بمثل هذه المشاركات هذه الأيام ولكن تقديرًا لابنى وتلميذى الدكتور عبدالعزيز المسلّم جئت ولن أتخلف عن موقع هو فيه»؛ كانت تلك الكلمات وساماً وتقديراً ليس لهُ مثيل من أستاذ وقامة علمية كبيرة.


اليوم التالى لتلك الندوة أعد لنا الدكتور أحمد مرسى وليمة كبيرة فى بيته العامر، وقد احتفى بى أنا ومجموعة من الزملاء احتفاءً كبيرًا وعبر عن سعادته الكبيرة بلقائنا وكأنه كان لقاء الوداع الأخير معه رحمه الله.


لا أعلم هل تلك الكلمات تفى تاريخ تلك العلاقة الطويلة التى تعدت الثلاثة عقود مع الراحل الكريم، لكن الراسخ فى قناعاتى أن منهجه العلمى ورسالته ستمضى بواسطتنا نحن تلاميذه إلى الأمام وستمتد مسيرتهُ من خلالنا وستصل إلى الأجيال الأخرى محققين رسالته ومستلهمين من حكمته وفكره.
 

اقرأ ايضا | د. نبيل بهجت يكتب: فارس التراث وحامي ذاكرة الوطن