خد بالك..

أشرف غراب يكتب: اشتداد الأزمة.. وقارب النجاة

 أشرف غراب
 أشرف غراب

بقلم: أشرف غراب  

المُتمعِّن فى الظرف الاقتصادى العالمى الراهن، يرى أننا لسنا الآن بحاجةٍ لتخمينات أو مجازافات واستعراض القوة واستخدام العضلات، ولا يتطلَّب الأمر ضرب الودع وانتظار المُعجزات، ففى كل يومٍ يمر، إلا ويطرأ على الساحة جديدٌ، قد لا يُبشِّر بانفراجة قريبة تُزيح كابوس الحرب الروسية الأوكرانية التى جعلت جبهتى الشرق والغرب فى ساحة النزال والمبارزة، كلٌّ يرغب إنهاك الآخر، والإتيان به أرضًا، من أجل حسم المعركة لصالحه، وسحق غريمه من الوجود، ليخلق لنفسه كيانًا أكثر نفوذًا وسيطرةً، واستحوذًا على كنوز الأرض ومواردها، وإن كان الثمن محو بلدانٍ، وقتل شعوبٍ بأكملها، أو تهجير ساكنيها إلى لاجئين بالصحارى الشاسعة، يُلاحقهم الموت فى المخيمات من الصقيع تارةً، ومن لهيب الشمس تارةً أخرى، وربما من الجوع والعطش والمرض والتشرُّد والضياع...إلخ.

حين تُطالع حال بعض الدول التى طالتها الأزمات، ونكَّلت بها الصراعات والمؤامرات والحروب، تجد وضعًا مأساويًا للغاية، لا هى مُستقرة، أو حتى باستطاعتها صناعة الاستقرار، وفرضه بشوارعها وبين قاطنيها، ففى أفغانستان مثلًا، انغلقت الدولة على ذاتها بين جبالٍ وفى جُزرٍ مُنعزلة عن العالم، رغم أن الاقتصاد هشٌ ومعدوم، والفكر الحاكم فيها مُضمحلٌ وبدائىٌّ يعود للقرون الوسطى، حيث استعباد النساء، ومنع الفتيات من التعليم، وتقييد حرياتهن، وتزويجهن قسرًا صغيرات، فى عصرٍ تشغل فيه المرأة رئيس دولة لبلدٍ ما، وحكومة لآخر، وتحكم ملايين الرجال، ولها شخصيتها الاعتبارية، وعقليتها التى تفوق أدمغة الجنس المُغاير لها فى التعليم والثقافة والتخطيط والقيادة، وبإمكانها تحقيق المعادلات الصعبة التى عجز الذكور عن تحقيقها.

ومن أفغانستان إلى اليمن والعراق وسوريا وليبيا ولبنان، لم يكن الوضع بالأفضل حالًا، فإذا كان الجهلُ والتخلُّف والعنف ينخر فى الأولى، فإن التخبُّط فى السياسات وسوء الإدارة، وعرقلة التسويات السلمية للمشكلات على الأرض بين أطيافها المُتعددة، وإهمال أعمال الإصلاح والتطوير، وترك البُنى التحتية تهترئ للدرجة التى ينفرها الشعب بداخلها، سمحت للطامعين والمُتصيدين فى المياه العكرة، الانقضاض عليها وتدميرها، بإنهاء ماضيها وحاضرها، وسلب ثرواتها وطرد سكانها، وجعلها قواعد قتالية لأطماعٍ أخرى تبغى تحقيقها فى محيطها أو بمناطق تقع على مقربة منها.

بيدك تشييد سياج نجاتك، وبيدك هدم أسوار أمنك وأمانك، وركوب سفينة ابن نوح الغارقة، ولا عاصم اليوم من أمر الله إلا مَنْ رحم، حيث البحث عن الرفاهية وشراء فوارغ الأشياء، بزمن يعز على الجميع ألا يجد حبوب الغلال التى منها طعامه، وإن وجدها كانت باهظة الثمن لا يقوى على شرائها، فى عصرٍ باتت علبة السجائر فى جيب الشاب، أهم من عبوة اللبن لبطن الطفل، والذهاب إلى ما يُذهب العقول ويهدم البنيان، قِبلة المغيبين فاقدى البصر والبصيرة، بدلًا من المساجد والكنائس، لمعرفة الخطأ من الصواب، والضار من النافع، والأولى من المتأخِّر واللاحاجة إليه فى ظل متطلبات أكثر أهميةً ونفعًا وبها تستقيم حياته وأسرته ووطنه ودولته.

المواطن فى أى دولة له حقوق وعليه واجبات، وقد يُبخس جزءٌ من حقه بالفعل فى أوقات شِدة الدولة وظروفها الحاجية، لأمورٍ تحدث خارج إرادتها فتتأثَّر بها، وليكن فيروس كورونا مثالًا للكوارث الطبيعية التى أعجزت أمريكا ذاتها سيدة العالم، فلم تستطع جلب كمامات الوجه لشعبها، رغم امتلاكها اقتصادًا هو الأعلى والأعظم بين الكبار، وعلى الشاكلة بريطانيا وألمانيا وفرنسا والهند، والبقية الباقية من أصحاب رؤوس المال والسيادة على خريطة الكرة الأرضية، كانت جميعها تعمل جاهدةً للإفلات من شبح الموت لشعوبها، ومع ذلك استنزفت من الأرواح ما يُدمى القلوب حصره وعده، رغم أن من حق الدولة أن تُحافظ على مواطنيها، وتصون أرواحهم، وتُوفِّر لهم الدواء وأماكن العلاج.

أما الأخطر فى الموضوع حاليًا، هو استعار البشرية وتقاتلها، لكبح جماح قوة مُعادية، أو فرض إرادة على أخرى مسالمة، وكلاهما يُحدث خسائر فى الأموال والأرواح والبيئة المُحيطة، كذلك الذى يقع الآن بين أوكرانيا وروسيا من صراعٍ دمَّر الأخضر واليابس، وأعطب الاقتصاد العالمى وأعاده أعوامًا للوراء، خلافًا للقتلى والجرحى والتشريد الجماعى لسكان دولة كانت بالأمس ملء السمع والبصر، تتمتع برغد العيش، وينعم أهلها برفاهية لم يعهدها غيرهم من أولئك الذين يعيشون نُدرة الموارد، وقلة الإمكانات والإمكانيات، ويستوردون أكثر ما يُنتجون، لكن السياسات الخاطئة، والتفكير العقيم، والإدارة المُتخبطة، فتحت عليها أبواب الهلاك، فالتهمتها نيران المطامع، وأغرقتها أمواج الحرب بالوكالة، فكانت كالذى قال له الشيطان اكفر، فلما كفر قال إنى برىء منك.

لا بد أن يتوقَّف جميعنا وفورًا عن سلوكياته الإسرافية، ومتطلباته الترفيهية، التى لا تتناسب مع ما نحن فيه من ضغوطات وصعوبات فى الحصول على الضروريات الحياتية لبقاء النوع الإنسانى، فليس معقولًا أن يلهث البعض خلف السيارات الحديثة، والأزياء المستوردة ذات الماركات العالمية، والإنفاق ببذخٍ على كماليات وأطعمة وإكسسوارات، وحوله ثلث سكان العالم يضربه الجوع والمرض، ويطحنه التنازع والعنف، ويقهره العوز لأبسط لوازمه المعيشية، بعد أن فرض كورونا أمرًا واقعًا أشد بأسًا وبؤسًا من الأوبئة التى وقعت فى الأزمنة الغابرة، ووضعت الحرب الروسية الأوكرانية حواجز بين وجود الشىء المهم والقدرة فى الحصول عليه، وليس مقبولًا أن نسجد أمام الأزمات فى حين بإمكاننا مواجهتها بالاقتصاد والإقساط فى حياتنا اليومية، ووضع الخُطط والأسلوب الأمثل للخروج منها بسلام، واستثمار ما حدث لمكاسب فكرية يُمكن البناء عليها مستقبلًا.

يجب أن يعرف المسئول قبل المواطن أننا جد فى أزمة طاحنة، تم وضعنا فيها بقصدٍ أو من غير قصد، لكنها باتت ماثلة أمامنا ولا مفر من المواجهة، ليس بالعنترية وإطلاق الصيحات والفرقعات الإعلامية التى لا تجنى إلا التريند الزائف على صفحات الإلهاء الاجتماعى، وإنما بوضع الحلول وخلق المخارج، وفتح المنافذ الأفقية للخلاص، ولتكن فى خفض النفقات أولًا بالمؤسسات التى يتولون أمرها، وكف اليد عن المال العام، والبُعد عن تفريع المشكلات بمشكلات أكبر، بتعدُّد اللجان الموضوعة لها، ووضع بدلاً منها خبراء أزمة على أعلى مستوى من كل المجلات المرتبطة بالشأن، تكون مهمتها حلحلة المعضلات والتشابكات وفك رموز التعقيدات، تمتاز بالسرعة والدقة وتعمل لصالح الدولة وتحفظ مواردها، والنزول لأرض المعركة دون تقيُّدٍ بالمتابعة والجلوس على المكاتب انتظارًا لتقارير قد تكون خاطئة، وربما تحمل شبهة الفساد والإفساد، أيضًا تحفيز المهرة فى تنفيذ الأعمال وبالجودة المطلوب، بإسناد المهمة لهم، وتنحية المُتكاسلين جانبًا، والمُتخازلين بعيدًا، لأننا لا نملك رفاهية الوقت.

نعم، هناك من هو بحاجة لتضحيات العقلاء وأصحاب المسئولية، ومن هو أولى أن ينعم بالطمأنينة بعد أن ذاق الصبر على المصاعب والمشاق طويلًا، لأجل استقرار دولته، ذلك هو الشعب الأبى المناضل فى محراب التنمية، الواقف على حدود الرخاء، الذى ينتظر الفرج، وكله أملٌ أن يسمع خبرًا يُسعده، أو عملًا يعود عليه بالنفع، فى شوقٍ لأن يستيقظ على مشروعٍ يقضى على بطالته، ويُعينه على أوجاع التيه التى عاناها من قبل، فضاعت بسببه أسرٌ وشُرِّد أبناؤها.. اللهم بلغت اللهم آمين.