إنها مصر

فاروق وعبد الناصر وأم كلثوم

كرم جبر
كرم جبر

فرقتهم السياسة ولم شملهم الفن، ورغم أن أم كلثوم أهدت أغنية «يا ليلة العيد آنستينا» للملك فاروق قبل ثورة 23 يوليو، وغنت له فى عيد ميلاده «اجمعى يا مصر أزهار الأمانى، يوم ميلاد المليك.. واهتفى بعد تقديم التهانى، شعب مصر يفتديك»، إلا أن الرئيس جمال عبدالناصر لم يقصها ولم يناصبها العداء، بل اعتبرها أهم روافد المخزون الاستراتيجى للقوة الناعمة المصرية، وقال عبارته الشهيرة «أم كلثوم لا يمكن حجب فنها فهى مثل الأهرامات باقية وخالدة».
«يا ليلة العيد آنستينا.. وجددت الأمل فينا» أغنية الأعياد الخالدة جاءت بالصدفة، فقد كانت أم كلثوم ذاهبة للإذاعة ليلة عيد الأضحى لتقديم أغنية «طاب النسيم العليل»، وسمعت أحد البائعين ينادى على بضاعته ويغنى «يا ليلة العيد آنستينا»، والتقت الشيخ زكريا أحمد فى مبنى الإذاعة القديم، وطلبت منه تلحين أغنية للعيد بنفس المطلع الذى سمعته من البائع، وأمسك بيرم التونسى بالقلم وبدأ يكتب «يا ليلة العيد آنستينا وجددت الأمل فينا.. جمالك هو أحلامنا، هلالك فرح أيامنا».. ولكن عاودت بيرم آلام المرض فغادر الإذاعة ولم يُكمل الأغنية.


حضر «أحمد رامى» لتهنئة أم كلثوم بالعيد وفى يده وردة حمراء، فصاحت: «جئت فى وقتك» وهديتى استكمال «ياليلة العيد آنستينا»، وأخذ رامى يكتب وزكريا أحمد يلحن وأم كلثوم تحفظ، وقدمت الأغنية على الهواء مباشرة الساعة العاشرة مساء ليلة عيد الأضحى سنة 1937، ثم أعادت أم كلثوم الأغنية بلحن جديد لرياض السنباطى ليلة العيد سنة 1939 فى حفل حضره الملك فاروق بملعب مختار التتش بالنادى الأهلى، وصفق الجمهور كثيرا لمقطع «يا نيلنا ميتك سكر، وزرعك ف الغيطان نور.. يعيش فاروق ويتهنى، ونحيى له ليالى العيد».. «الليلة عيد ع الدنيا سعيد.. عز وتمجيد ليك يا مليكى».
«يا ليلة العيد آنستينا» والأعياد هى أعظم مناسبة للتواصل والتصالح، مهما كانت الخلافات والضغائن والصراعات، ومصر فى أمس الحاجة لمصالحة شاملة تلتقط فيها أنفاسها وتبدأ مرحلة جديدة، تترك الماضى بكل آلامه وأوجاعه وهمومه وتتطلع للمستقبل.


العيد فى مصر له مذاق خاص يختلف عن سائر البلاد، ولكننا لم نعد ذلك الشعب الذى يقتسم أحزانه وأفراحه، ويتوحد فى السراء والضراء والشدائد والمحن، والعيد فرصة كبرى لتنقية النفوس وتصفية الأجواء، وعبارة «كل سنة وإنت طيب» يمكن أن تفتح قلوبا مشحونة وتزيل ضغائن كثيرة، بشرط أن تكون النوايا طيبة والأفعال صادقة، وأن يتنازل الخصوم عن مصالحهم الخاصة وحساباتهم الضيقة، وأن ينتصر بعض رجال الدين لمعانى التسامح والرحمة والموعظة الحسنة.


ومازال صوت أم كلثوم يأتينا من أعماق الماضى البعيد، يفرش القلوب بالفرحة والبهجة منذ قرابة 85 سنة، صوت يصاحب البقاء والخلود لأنه يصوغ مشاعر المصريين وأحاسيسهم بصدق وواقعية، الصوت الذى جعل جمال عبدالناصر يتنازل عن عدائه للملك والملكية، وينتصر للفن الجميل الذى يجرى كنهر النيل فى وجدان المصريين، وسيبقى هذا اللحن الجميل ضيفا غاليا يهل علينا فى كل عيد.. وكل سنة وأنتم طيبون.
«عثرت فى أرشيفى على هذا المقال الذى نشرته يوم 25 أكتوبر 2012.. وكأن الزمن واقف ولا يتحرك».