د. حسام عقل يكتب : «القاهرة ـــ لندن.. قبلة الفراق»: نصان متوازيان

د. حسام عقل يكتب : القاهرة ـــ لندن.. قبلة الفراق: نصان متوازيان
د. حسام عقل يكتب : القاهرة ـــ لندن.. قبلة الفراق: نصان متوازيان

دعاء فهمى كانت موفقة فى إصابة رميتها بنجاح.

فى روايتها «القاهرة – لندن.. قبلة الفراق»، الصادرة عن دار ببلومانيا، توفق المبدعة دعاء فهمى _ فيما أرى _ فى إصابة رميتها المسددة بنجاح ملحوظ أو مرضٍ، بقطع النظر عن أية هنات فنية هنا أو هناك، بعد أن راشت سهمها بذكاء وتركيز محكمين.

فحصدنا فى الفخاخ جراء هذه الرمية الموفقة إلى حد بعيد، وكما يشير المثل الذائع، عدة عصافير بحجر واحد.فمن وجه ظاهر قدمت الروائية بطاقة تعريف جيدة بأدواتها الفنية ورؤاها ونوع مشروعها الفنى السردى والحضارى لقارىء مختلف، يباين _ بمسافة خلف واسعة _ قارىء نجيب محفوظ أو عبد الرحمن منيف أو غسان كنفانى، ويعيش من ثمة، مخاضاً مفارقاً شديد الفرادة والاختلاف.


وهى من وجه آخر تفيد من البنية /الهجين المختلفة، التى أضحت تتسم بها الرواية الحداثية وما بعد الحداثية، بعد أن تراسل القالب الروائى مع عدة أجناس أدبية، وانفتح عليها بقوة، وتفاعل معها بخصوبة كيميائية فنية فريدة أنتجت قالباً روائياً، يباين نظيره قبل عقدين أو ثلاثة عقود كل المباينة.

وقد يكون هذا التبلور لتمازج الأنواع الأدبية تحت مظلة القالب الروائى تحديداً امتداداً لما اسماه الروائى والناقد الراحل إدوار الخراط» (1926 _ 2015) قبل عقدين مضيا: «ظاهرة الكتابة عبر النوعية». 


( فى كتابه الذى عنونه بهذا العنوان). ومن الواضح أن الروائية فى حالتنا قد مزجت فى نصها الجديد: « قبلة الفراق» بين بنية اليوميات Dairy بسماتها الفنية والزمنية ذات الطابع التأريخي.

وبين صيغة السيرة الذاتية Autobiographyبحسها الذاتى اللاهب، فضلا عن استمرار الرصد الخارجى الواقعى الموسع، لتضاريس اللحظة المصرية والعربية، بكل مكوناتها وتفاصيلها الحميمية المتنوعة طيفياً.

ويبدو أن «الحس الواقعى البارز المصاحب» هو قدر الرواية العربية منذ انبثاقاتها الأول، كما يشير بحق المستشرق الفرنسى (القريب من التجربة الأدبية العربية): « أندريه ميكيل» وقد تنقلت هنا كاميرا الراوي/الواقعى بين القاهرة ولندن، لترصد ذبدبات التحول الدال فى أعماقه الاجتماعية الخصيبة، فكان «التحول» لا «الثبات».

هو هدف الراوى ومدار بوصلته ومركز رهاناته الفنية الكبرى، وبحيث يقع رصد هذا التحول فى بعديه: المصري/العربي، والأنجلوأمريكي، منذ اللحظة الثرية/المثيرة التى حطت فيها «ندى» (مركز السرد الروائي) فى مطار «هيثرو» لتبدأ تغريبتها العميقة، بكل رؤاها وتحولاتها وأحلامها الطافرة. 

ونجح الراوى هنا، فى تحريك نصين _ بالتوازى _ فثمة مشهد تتصدره «ندى» التى سافرت إلى عاصمة الضباب فى بعثة دراسية لتحوز قوة العلم وتحتك بنموذج حضارى أوفر قوة وحيوية وانفتاحا، وهذا هو النص القشرى الخارجي، لكن ثمة حمولة نصية مباطنة ( تشكل نصاً آخر).

وتمثلها «مسودة الرواية « التى تكتبها ندى أمامنا، وتشكل أنساقها السردية، بدبيب أناملها، عنصراً عنصراً على عينها وأعيننا، وبحيث يتشكل النص أمامنا بأدق تفاصيله المتدرجة الحميمة على نحو ما صنع «بيرانديلو» فى نصه الذائع.


«ست شخصيات تبحث عن مؤلف» مع التحسب المؤكد لفروق أسلوبية فنية كبيرة تباين بين النصين، وهنا بدونا بإزاء «نص داخل نص» بحيث يتحرك النص الثانى الموازى متقولباً بقالب « أدب اليوميات» وهو ما يفسر استهلال النص (الثاني) بتأريخ «منضبط» يرصد الوقائع، محددًا تاريخها اليومى والشهرى بدقة، وهى السمة التى نأنسها دومًا فى أدب اليوميات.

و بدت هنا «مريم» الصديقة المقربة «ندى» هى التى تلهم وتحفز وتدفع بالمؤلفة نحو مسارات سردها المقدور، بقوة ومضاء.وربما كان اختيار هذا الدور «التحفيزي» لـ «مريم»، ليتأكد فى ضمير المتلقى بوضوح، أننا بإزاء «حكى مميز» يتخلق بأثر نوعين من الشحن التحفيزي، أحدهما تنتجه «مريم» صديقة الرحلة.

والآخر تنتجه الصراعات الداخلية الساخنة، التى تواصل اختمارها فى خبيئة «المؤلفة»: الذات الساردة حتى تحول هذا الشحن «المزدوج» إلى هاجس محتقن مقلق، لا يمكن دفعه، أو إدارة الظهر له: «... لم تستطع «ندى» أن تغفو، وهى تطاردها كل هذه الشحنة العاطفية...».


نجحت الذات الساردة، فى أن تحكم خيوط أدائها الأسلوبي، فى جديلة محكمة بقدرتها الواضحة على بعث «المجاز الدمث» و التشبيه المأنوس قريب المأخذ الذى أمد السرد بحيوية فنية/بلغية ملحوظة، تدفقت بصورة عفوية دون تفاصح رتيب أو مزعج أو مستفز، على نحو ما نجد مثالاً لا حصراً فى هذه الفقرة: «... وأعطت قبلة الحياة للماضي، لتعاود بعثه من جديد على ساحات الورق، فساحات الورق كساحات المحاكم لن تنصف إلا المرافعات المتقنة، والقصص شديدة الحبكة..».


وبدت تدفقات الوقائع والأحداث فى التجربة الروائية بجملتها، مكيفة بحركة تغير (متناوب)، أساسه «تحولات شبكة الضمائر» فى صلب العملية السردية، فثمة مساحة معتبرة نرصد من خلالها ملحمة «ندى» أو تغريبتها، ثم عودتها إلى الوطن (مروية بضمير الغائب Third person) تتوازى معها، أو تلتحم بها مساحة ثانية متشكلة بقالب اليوميات.

من خلال مسودة الرواية التى تخطها «ندى» بالبنان، أمامنا (مروية بضمير المتكلم First person) ويصاحب هذا المسار السردى المزدوج وعد متجدد بأن نمط اليوميات سيمضى بنا إلى مصائر مجهولة، لا نعرف لها وجهة حاسمة.


«... سأترك تلك الحكاية لمنتصف الرواية، فالمنتصف دائماً يحتاج لإعادة شد الانتباه حين يكون القارىء أوشك على الملل...». حرص الرواى _ فى المساحتين السرديتين المنوه بهما _ على تحديد المرجعيات الزمنية بدقة فالبطلة تستقبل باب المطار فى صدر النص الروائي.

وهى فى الثانية والعشرين من عمرها، ترتدى حذاء رياضياً، وتستقل طائرتها المرتقبة نحو المجهول، أو بالأدق نحو «الآخر الأوروبي» الذى يفرض علينا واقع المقارنات الحضارية بين نموذجين حضاريين من خلال فكرة «المثاقفة»، كما صنع «سهيل إدريس» في: «الحى اللاتيني» مثالاً  لا حصراً.


ويتأكد دائماً فى منعطفات السرد الحاسمة هنا، أن الراوى الثانى (الذى نسمع صوته الشاجن من خلال اليوميات) لا يدرى على وجه الدقة أو الحسم وكما مر بنا، إلى أين تمضى بنا عجلة الاحداث: «.. لا أدرى هل أكمل بتسلسل الأحداث، أم بما يلمع فى ذاكرتى كالبرق؟!..» ففضلاً عما يطبع الحكى هنا من سمة عفوية لا تخطئها العين، يطل علينا _ بما يتجاوز الوضوح! _ ملمح السعى الحثيث الراسخ لتقويض سمات الراوى العليم.

وسلبه صلاحياته وسلطاته البطريركية المهيمنة، وهى سمة حداثية ملحوظة، تميز بها النص الروائى فى العقد الأخير بوجه عام، مفضلاً  لذة التساؤل وطزاجة الاكتشاف المتجدد على عجرفة الحسم النهائى والرصد الدوجماطيقي، الذى يحتكر الحقائق، أو يحسمها قسراً بغرور.

ولم تنس الذات الساردة وهى تنحت مشهداً مصرياً، متجذراً فى تربة الأرض المصرية، وهى تساجل العالم الخارجى وتتفاعل معه، أن تفسح رقعة ملحوظة تطل من خلالها خيوط مرسومة بالنار والدم تفرضها «الأزمة السورية» الخطيرة، التى شطرت صفاً واحداً، بشكل كانتونى إلى «صفوف».

وقد تجسدت تجليات الأزمة العاصفة، من خلال شخصية «مالك»، الذى منح التجربة الروائية سمكاً عربياً، يصل أحلام الإنسان العربى بلحمة واحدة، ويوثق مخاضاته الرهيبة مرتداً بهذه المخاضات والقيم إلى ضمير واحد، يرصد ويحذر ويتألم، مطلقاً نفاثة الصدر دون قيود وبمقدورنا القول إن الراوى قد نجح بلعبة الاتصال والانفصال بين قالبين روائيين.

وضميرين من ضمائر اللغة أن يدير الأحداث بتنوع طوبغرافى مدهش، يتنقل بنا بين عاصمة الضباب حيث الصديقات والحب المحطم، الذى خلف أحلاماً مجهضة من وجه، وبين القاهرة من وجه آخر حيث تعود ندى إلى حاضنة الأب وتبحث حثيثاً عن أمها، وتنجح بالفعل فى الاهتداء إليها، وكأنها تعيد _ بصورة رمزية بليغة _ عرى الأسرة المتشذرة بعد أعوام التيه، وأعمار الاغتراب.

وقد تلاحظ أن البنية الزمنية للرواية، قد توزعت بين مسارين مميزين، أحدهما مسار الاسترجاع، بنمط الفلاش باك ذى الطابع (الماضوي) الواضح، والآخر تمثل فى مسار «الاستباق» الزمنى «Anticipation، حيث قفز بنا السرد مع جائحة وباء كورونا نحو عام 2024 مستشرفا ً، بعينى «زرقاء اليمامة» ما سيكون، حيث «تهرول الأيام.. وتتعاقب» بتعبير الراوي.
وقد اختار الراوى _ أو الراويان بالأدق _ للبطلة مصائر الانتصار المطلق على الخصم (أو الخصوم) فى ارتداد فنى لبعض القيم الميلودرامية المستعادة.

وفى استيحاء فنى فى الخلفيات لشكل الملاحم القديمة ونسقها، كما فعل «أوديسيوس» فى الإلياذة حين أزاح الخصوم فى النهاية وبلغ وطنه «إيثاكا»، وكما فعلت «ندى» هنا حين عادت إلى الأوطان فأعادت معها نسيج العائلة، وعاودت الاقتران بمن تعشق، ونجحت مجدداً فى ترتيب الأوراق المرتبكة أو الملبسة.


وقد نتفق أو نختلف قليلاً أو كثيراً، مع الروائية فى هذه الخاتمة الهانئة، التى أنهت عهد الأحزان بـ«فستان الزفاف»، وارتقت ربوة الانتصار الكامل، الذى نقلنا فى انخطافة روائية مباغتة من المسارات الدرامية ذات الصراعات غير المحسومة، إلى القوالب الملحمية المصرة على حسم النتائج بانتصار تام، لا يقبل الشك! لكننا مع هذا السجال الخلافى الذى تخلقه دائماً النصوص الطليعية، قد لا نختلف كثيراً، على أننا بإزاء قاصة، تملك أداتها الروائية، بحصافة وإحكام، وحساسية سردية، لا تخطئها العين.

إقرأ أيضا | شعبان يوسف يكتب: الخطاب الثقافى المتعدد لثورة يوليو