أصوات من الجنوب| «المرماح».. فوارس من زمن «أبوزيد الهلالي»

ساحة المرماح فى القرنة بالأقصر
ساحة المرماح فى القرنة بالأقصر

كتب: حسن حافظ

يجتمع عشرات الفرسان من مختلف المحافظات، ليستعرضوا مهاراتهم فى قيادة الأحصنة، يعودون بك إلى زمن «أبو زيد الهلالي» وأبطال السيرة الهلالية، وأيام الفروسية لأبناء القبائل العربية، وذلك كله فى الاحتفالية التى تقام على هامش عدد من أكبر الموالد بالصعيد، والتى تعرف بين أبناء الصعيد باسم «المرماح»، حيث يختلط صهيل الخيول بصيحات الجمهور وسط أداء الفرقة الشعبية بأصوات الطبل والمزمار، يتلقى الفرسان وهم فوق أحصنتهم نظرات الإعجاب من المشاهدين، يخرجون مخزونا متوارثا منذ سنوات الفتح العربي، لعادات الفروسية الأصيلة التى تواصل حياتها فى تلافيف مدن الصعيد وقراه.

مولدا سيدى عبدالرحيم القناوى والعارف أبوالقمصان أشهر تجمعات الفرسان

يرتبط المرماح عادة بالموالد، إذ يقام فى الليلة الكبيرة لموالد سيدى عبدالرحيم القناوى فى قنا، والعارف بالله أبوالقمصان فى الأقصر، ويعد سباق مرماح قرية فارس بمحافظة أسوان الاستثناء الوحيد، إذ يقام هذا السباق بذاته ويقصده الفرسان بأحصنتهم من أجل المشاركة فى سباق المرماح الذى يعد الأكبر فى الصعيد كله، وهى فعاليات تكشف عن تأصل تقاليد القبائل العربية فى المجتمع الصعيدي، لتعطيه طابعه المميز الذى يتفاخر به أبناؤه ويحرصون على توارث هذه الاحتفالية التى يشارك فيها أبناء القبائل العربية فى الصعيد، فتتحول إلى كرنفال حقيقى يشارك فيه الجميع ويتمسكون بالحفاظ على تفاصيله كأحد أهم الاحتفالات المميزة لمحافظات قنا والأقصر وأسوان.

مهرجان فروسية أبناء الصعيد الجوانى.. ظاهرة على هامش موالد الأولياء

وتشكل احتفالية «المرماح» أحد الملتقيات الكبرى لأبناء محافظات الصعيد، وعلى حد وصف الخيال على أبـو الحمد عليوة، الذى التقته «آخرساعة» على هامش مهرجان مرماح سيدى «أبو القمصان» بمحافظة الأقصر، فإن مضمار المرماح، فرصة للتعارف، يقول: «المرمـاح مصداق لقوله تعالى: ﴿وجعلناكم شعوبًا وقبائل لتعارفوا﴾»، ويشير إلى أن أهالى الصعيد يعيشون على ذكرى المرماح، ويتذكرون كل مسابقة وما جرى فيها، انتظاراً لمسابقة المرماح التالية، ويتناقلون أمجاد الفوارس الذين شاركوا فى إظهار تقاليد الفروسية العربية بكل فخر، لتتناقل الأجيال هذه الروايات وكأنهم يرددون بعض فصول السيرة الهلالية.

اقرأ أيضًا

«المرماح» أشهر احتفالات العيد بالأقصر

سباقات الخيول عادة متوارثة من أيام القبائل العربية التى فتحت مصر

ويعد المرماح أشهر طقس يرتبط بمولد (أبو القمصان) الذى يقام فى عصر الليلة الكبيرة منتصف شعبان من كل عام، فى ساحة ترابية متسعة غير بعيد عن موقع المقام الواقع بالقرب من قرية القرنة بمحافظة الأقصر، ويشارك فيه أبناء الصعيد من مختلف محافظات الجنوب ولا يقتصر على أهالى الأقصر، ويعنى المرماح سباقات الخيول، وهو عادة متأصلة ومتوارثة من أيام القبائل العربية التى فتحت مصر قبل 14 قرناً، تلخص هذه الذكريات التى تعيش فى العقول أغنية شعبية يرددها أهالى الصعيد، تقول: «اركب فرسك يا واد.. ارمح واتخايل يا واد.. ترفع راية جدودك.. بفرس المرماح يا واد»، ففى المرماح تقام سباقات بين رجال وشباب الصعيد، لإظهار مهاراتهم فى ركوب الخيل والرقص بها على موسيقى الطبل والمزمار الصعيدي، فى تقليد يركز على الفروسية كما عرفتها القبائل العربية قديماً والمرتبطة بالقدرة على السيطرة على الخيل وقيادته كما يشاء، وفقا لعلاقة خاصة بين الفارس والفرس حتى يخيل للناظر أنهما روح واحدة فى جسدين.

الاستعداد للاحتفال يبدأ ظهراً وينتهى بجولة الفرسان بعد العصر

ويصف على أبو عليوة طقوس الدخول فى أجواء المرماح بالبدء فى طقوس التجهيز، بقوله: «بعد أذان الظهر أقوم بحمام الحصان وتنظيفه بالمياه، ثم نرمى له العليق والعلف له، لافتاً إلى أن حصانه يفضل أكل البلح، وقبل صلاة العصر نرمى عليه السرج والعدة الخاصة به بما فى ذلك الخلاخيل والعلّاقات الفضية والنحاسية، وبعد الصلاة نتوجه إلى بيت النقيب وهو الشخص الذى تخرج من عنده زفة المرماح بالطبل والزمر لساحة المرماح»، ويؤكد ابن قرية الترامسة فى محافظة قنا، أن هذه هى الطقوس الافتتاحية الأشهر بين مختلف الرماحين استعداداً للمشاركة فى ساحة المرماح، لافتا إلى أن هذه الاحتفالات تتركز بشكل أساسى فى محافظتى قنا والأقصر وبدرجة أقل فى محافظة أسوان.

ويعد المرماح، بحسب على أبو عليوة، كرنفالاً ينعقد على هامش الموالد الكبرى مثل مولد العارف بالله عبد الرحيم القناوي، ومولد العارف بالله أبو القمصان الذى يشهد عادة واحدة من أكبر ساحات المرماح فى مصر كلها، إذ تتسابق كبار العائلات فى محافظات الصعيد على إرسال أفضل فرسانهم للمشاركة ليكون فخر العائلة فى المنتديات والمجالس المنعقدة ليلا فى ديوان كل عائلة لذا يشارك أكثر من 60 فارساً عادة، فالفارس المجيد الذى يبهر الحضور فى ساحة المرماح يكون محل فخر، والفارس الذى يسقط من على فرسه يكون سبباً لمعايرة عائلته، وقد يمنع من المشاركة مرة أخرى فى حلقات المرماح الكبرى ما يتسبب فى إحراج عظيم لعائلته، التى لا تجد أمامها إلا تدريب عدد من شبابها للمشاركة مجدداً ومسح عار الفارس الساقط.

وتدور المشاركة فى ساحة المرماح على عدة أقسام رئيسية، تنظم عملية السباق فى الساحة، وتبدأ عادة بالزفة وهى الفقرة الافتتاحية التى يرمح فيها الفارس بفرسه فى الساحة كتقديم وتحية للموجودين، وذلك على أنغام الطبل والزمر البلدي، ومن آداب الساحة أن يعطى كل فارس النقطة أو الإكرامية لفرقة الزفة، ثم تبدأ أولى مراحل المرماح الرئيسية وهى مرحلة (التقطيع)، وهو أن يمرح الفارس بفرسه فى المضمار ثم يجعل فرسه يلعب فى حركات إيقاعية تحت العصا الزان التى يمسكها الفارس بقبضة يده، وهى فقرة إلزامية على جميع الفرسان المشاركين، ثم تبدأ المرحلة الثانية وهى مرحلة (المشالاة)، والتى تتضمن مباراة بين اثنين من الفرسان يمسك كل منهما بعصا الزان ويركب حصانه، ويدخلان فى الحركة فى شكل دائرى لاستعراض مهارات التحكم فى العصا والفرس فى مساحة ضيقة، وهو ما يتطلب احترافية وقدرة فريدة على التحكم فى الفرس مع رشاقة الفارس.

وأحياناً تتم إضافة فقرة أخرى تكون أكثر إثارة، وهى التحطيب فوق ظهور الخيول بين الفرسان باستخدام العصا، كما يوجد سباق آخر يسمى (الطارد والمطرود) ويقام فى بعض محافظات الصعيد، وإن كان الكثير من العائلات تتحسب منه خشية ما قد يثيره من مشاكل بين أبناء العائلات، إذ يعتمد هذا السباق على استخدام فارس لكرباج أو جريدة نخل، ليعوق حركة فارس آخر ويمنعه من الوصول إلى خط النهاية، وإذا استطاع الفارس المطارد أن يصل إلى خط النهاية عد فائزاً، أما إذا استطاع الفارس المعيق أن يخرج بالفارس المطارد هو وفرسه خارج المضمار فيستحق هنا لقب الطارد والفارس الآخر لقب المطرود.

وللقضاء على أى حزازات نفسية من أثر المنافسات، يلتزم جميع الفرسان بقراءة الفاتحة بصوت عال عند نهاية المسابقات، بعدها تستقبل العائلات المنظمة للمرماح الفرسان فى بيوتها وسط ضحكات ولقاءات بين رجال وشباب من مختلف محافظات الصعيد، وذلك فى فترة استراحة تدوم حتى صلاة العشاء، يتوجه الجميع بعدها للمشاركة فى الليلة الختامية لمولد الولى الذى يقام على شرفه الاحتفال.

ويرى الدكتور أحمد شمس الدين الحجاجي، أستاذ الأدب بجامعة القاهرة، أن المرماح واحد من أهم مظاهر الخصوصية الثقافية لمحافظات الصعيد الجنوبية، خاصة أنه صاحب تجربة فى التعاطى مع المرماح، إذ ينتمى إلى محافظة الأقصر، وسجل حضور المرماح فى المخيلة الشعبية فى روايته الشهيرة (سيرة الشيخ نور الدين)، عندما يسرد بطولات الشيخ نور الدين فى ساحة المرماح، ويقول لـ«آخر ساعة»: «كلمة المرماح مشتقة من كلمة رمح بمعنى الانطلاق فى الجري، وهى كلمة مناسبة لانطلاقة الخيال وحصانه عندما يمتزجان معاً فى الجرى بسرعة وبتناغم بينهما، وكلما كان التناغم أوضح كان ذلك دليلاً على قدرة الفارس على تطويع فرسه وكان الاحتفاء الجماهيرى به أكبر، فى ظاهرة تعود أصولها إلى القبائل العربية وفنون الفروسية منذ عصر المماليك».