فنان من زمن فات l صلاح نظمى.. «الشرير الوفي»

صلاح نظمى
صلاح نظمى

مايسة أحمد

احتكر أدوار الشر في فترة الخمسينيات وحتى نهاية السبعينيات عدد من الأسماء التي أصبحت علامات في هذا الدورن أبرزهم محمود المليجي واستيفان روستي وتوفيق الدقن، وأيضا نجمنا اليوم صلاح نظمي، الذي يشترك معهم أنه رغم احترافه تلك الأدوار إلا أنه كان يتمتع بقلب طيب ووفي في الواقع، ولهذا قصة تحكى.. 

صلاح نظمي، ابن محافظة الإسكندرية، حيث ولد بها في 14 يونيو عام 1918، وأشتهر في طفولته بخفة الدم والروح المرحة، لذلك إلتحق بفريق التمثيل أثناء دراسته، بل إنه قدم أول أدواره على خشبة المسرح وهو في “الروضة”، حينما لعب شخصية السيد المسيح في إحدى المسرحيات، وبعد أن نجح في أداء هذا الدور أعفاه الناظر من المصروفات الدراسية، وكان في ذلك الحين يتيم الأب وتقوم والدته برعايته هو وأشقاءه، وبعد أن انتقلت الأسرة إلى القاهرة لإتمام أشقائه دراستهم العليا، إلتحق صلاح بمدرسة أزهرية، وبالطبع لم يجد بداخلها فريقًا للتمثيل، لذلك كان يذهب كل أسبوع إلى السينما لمشاهدة أحدث العروض.

من نظمي؟

اسم “نظمي” جاء بعد أن كان يلقي الشعر في المدرسة، ورائه أحد أساتذته، فسأله: “من نظم هذا الشعر؟”، فرد عليه: “هذا الشعر من نظمي”، فقال المعلم: “إذا فأنت نظمي”، ومنذ ذلك الوقت أصبح اسم نظمي هو لقب العائلة.

صلاح كان طفلًا شقيًا خفيف الظل برع في التقليد والمحاكاة، فأصطحبه المدرسون بمدرسة “الأميركان ميشان”، ليقوم بتقليدهم وتقليد مدير المدرسة، وحينما بدأ إحتراف الفن، أتقن أدوارًا متنوعة في السينما، خاصة دور الشرير، لأن تكوينه الرياضي وإجادته لرياضة الملاكمة، كانت عاملًا هامًا في تميزه بتلك الأدوار، ورغم أن ملامحه الحادة وهيئته الجسمانية الضخمة حصرته في أدوار الشرير ثقيل الظل، إلا أن موهبته الكبيرة جعلت منه فنانًا متعدد الشخصيات. 

قرار إداري

توفى والد صلاح وهو طفل رضيع - وكان يعمل رئيس تحرير صحيفة “وادي النيل” – لكن أسرته أصرت على أن يستكمل تعليمه، حيث تخرج في كلية الفنون التطبيقية وعمل مهندساً بهيئة التليفونات، وظل بها إلى أن وصل إلى درجة مدير عام، ولم يترك تلك الوظيفة، فقد كان لديه قناعة أن الوظيفة تحميه إذا تخلى عنه التمثيل، وفي مرحلة ما كان لصلاح مدير اسمه هنري أبادير، شعر هذا الرجل أن صلاح لن يستطيع التوفيق بين التمثيل والعمل، فأصدر قراراً خاصاً بأن يعفى من توقيع الحضور والإنصراف حتى يتفرغ لفنه، وكانت هذه لفتة طيبة من تلك الإدارة التي لم تقف أمام موهبته، وهذه الواقعة تكشف عن أسلوب وتعامل الناس في ذلك العصر، وأستمر صلاح في هذا العمل حتى أحيل للمعاش عام 1980.

بعد تخرجه من معهد الفنون المسرحية عام 1946، بدأ صلاح حياته الفنية في المسرح مع المطربة ملك صديق والدة الشاعر محمود باشا تيمور، وهو من رشحه للعمل في فرقة المطربة “ملك”، وبالفعل أسندت إليه دورا في مسرحية “مدام بتر فلاي”، ثم توالت أدواره الناجحة، وقدم العديد من المسرحيات، منها “الأمير الصعلوك، بمبة كشر.. وغيرها”، حتى سمعت به الفنانة فاطمة رشدي، فطلبته للعمل معها في فرقتها المسرحية، وظل يعمل معهما في نفس الوقت، وبعدها انتقل إلى فرقة مسرح “رمسيس”.

إهانة على الهواء

رغبة صلاح في الظهور على شاشة السينما ألحت عليه منذ البداية، حتى عرض عليه المخرج هنري بركات سيناريو فيلم “هذا ما جناه أبي” عام 1945، بعدها أنطلق في عالم السينما، وأشتهر بدور الشخص الذي يحاول دائما التفرقة بين البطل وحبيبته، لهذا عندما سُئل “العندليب” عبد الحليم حافظ في برنامج إذاعي “من هو الفنان الأثقل ظلا؟”، فأجاب “صلاح نظمي”، وكانت هذه هي القشة التي قسمت ظهر البعير، حيث ثار صلاح وقرر مقاضاة حليم ليثأر لنفسه، ولتصبح قضيتهما هي الأشهر بين الفنانين في أواخر الستينيات.. رأى نظمي أن “حليم” أهانه أمام آلاف من المستمعين، فرفع عليه قضية يتهمه فيها بالسب والقذف والتشهير، لكن بعد فترة قضت المحكمة برفض الدعوى وبراءة “حليم”، بعدما أكد محاميه أمام القاضي أنه ما كان يقصد شخص صلاح، وإنما كان يتحدث عن طبيعة الأدوار التي يؤديها، وهو ما يعد مدح في حقه، حيث استطاع أن يتقن أدواره بصورة كبيرة وهو أمر لا يعد ذما على الإطلاق، وبعد انتهاء الجلسة ذهب “حليم” لصلاح، واصطحبه إلى بيته ليشربا سويا الشاي، ويمنحه دورا في فيلمه الجديد والأخير الأموال لم تعن يوما ما شيء لصلاح، فلم يهتم بجمعها أو حتى إدخارها أو شراء عقارات، لدرجة أنه حتى لم يفكر في شراء مقبرة لدفنه بعد وفاته.

أيام الحب والشقاوة

في عمارة بشارع الحمام المتفرع من شارع سراي القبة بميدان روكسي كان يسكن الشاب صلاح نظمي، وهناك رأى فتاة أجنبية من أصل أرميني أعجب بها من النظرة الأولى، ولمحها تتردد على إحدى الشقق في الدور الأول، وهي شقة بها شاب أعزب، وظن أن الفتاة على علاقة بهذا الشاب.

صلاح حاول أن يخطف الفتاة من جاره الشاب، فحاول أن يتودد لها، لكنها نهرته بقوة، ثم صفعته على وجهه، فجن جنونه وقرر ملاحقتها، وأخذ يراقبها إلى أن عرف مكان عملها في أحد المحلات، فذهب إليها وأخذ يجذبها إليه بشراء الكثير من الملابس، لكنها لم تهتم، وأخيرًا قرر الذهاب إلى جاره الذي كانت تتردد عليه، ليكتشف أنه شقيقها، وهنا بدأت نظرته إليها تتغير، وأدرك أن مشاعره تجاهها حقيقية، وعرض عليها الزواج، ووافقت وشهد الفنانان شكري وصلاح سرحان على عقد الزواج، وفي محاولة من شكري للتأكد من مشاعر الزوجة، طلب من صلاح أن يدعوها للإسلام، فما كان منها إلا أن وافقت قائلة: “سأفعل ذلك من أجلك”، وبدلت اسمها من “أليس يعقوب”، إلى “رقية نظمي”، على اسم والدة زوجها، لتشهر إسلامها يوم عقد القران، ويرزقهما الله بعد عام بأبنهما الوحيد، حسين.

لماذا حسين؟

أطلق صلاح على طفله الوحيد اسم “حسين” كنوع من رد الجميل للفنان حسين صدقي، حيث مر الأول بضائقة مالية وظل فترة دون عمل، وبالصدفة ألتقى بصدقي، الذي سأله عن سبب إنشغاله وظهور الهم عليه، ليرد صلاح: “اقترب موعد ولادة زوجتي ولا أجد أي عمل في الوقت الراهن، ولا أعرف ماذا أفعل؟”، فرد صدقي وهو يضحك: “كيف ذلك وأنا أرسلت لك عدة رسائل حتى تأتي لتقوم بدور مميز في فيلم نحضر له حالياً؟”، فإندهش صلاح وفرح كثيراعندما علم أنه هو من يقوم بدور البطولة فيه.

ثم أخرج صدقي من جيبه مبلغاً من المال، وكان معه سيناريو لفيلم أعطاه منه نسخة، ثم أتفق معه على باقي الأجر، وطار صلاح من الفرح، وعاد إلى المنزل لا يسير على قدميه، بل أوقف تاكسي وعاد به بسرعة إلى زوجته، ليعطيها المال، ويدخل حجرته يقرأ السيناريو، ويستعد للفيلم، لكن مرت الأيام، وأسبوع وراء الآخر، وبعد 3 أشهر ذهب صلاح إلى صدقي وسأله: “متى التصوير؟”، ليرد عليه قائلا: “عن أي تصوير تسأل؟”، رد صلاح: “عن الفيلم الذي أخذت (عربون) من المال من أجله”، وسكت صدقي وسأله: “زوجتك وضعت؟”، فقال: “نعم.. ورزقني الله بطفل منذ أيام ولد.. لكننى اسألك عن الفيلم.. فتسألني عن الولادة؟”، ضحك صدقي وقال: “يا صلاح.. لا يوجد تصوير ولا فيلم ولا أي شيء”، فرد: “والفلوس التي أخذتها؟”، رد صدقي: “هدية مني لأبنك الصغير”، ثم أكمل: “نحن إخوة وأصدقاء، وما كان يجب أن أتركك تمر بتلك الضائقة المالية وزوجتك اقتربت من الوضع، وما كنت ستوافق على أخذ الفلوس على سبيل (السلفة)، فأضطررت أن اخترع حكاية الفيلم حتى توافق وتأخذ الفلوس”، وحاول نظمي أن يرد الأموال لصدقي لكنه رفض بشدة، وأخبره أن الأموال هدية لمولوده الجديد، فسكت صلاح قليلاً ثم قام وأحتضنه وتركه قائلاً: “أنا ذاهب إلى مكتب الصحة”، ثم أخبره فيما بعد أنه أطلق على أبنه اسم “حسين”، والذي أصبح فيما بعد مخرجًا تلفزيونيًا.

موقف إنساني

بعد الزواج بعدة سنوات، أصيبت زوجة صلاح بمرض نادر، نتج عنه إصابتها بالشلل، ولحبه الشديد لها، حرص صلاح على خدمة زوجته القعيدة لمدة 30 عام، رافضا أن يتزوج عليها، فكان ينفق الأموال التي يتقضاها من أعماله الفنية على علاجها، ولم يمل يوما لطول مرضها، وظلت مريضة لسنوات طويلة، ولم تكن تترك الفراش نهائيا، وألحت عليه كثيرا في الزواج من أخرى، إلا أنه كان يرفض بشدة، فهي الحب الوحيد في حياته حتى توفاها الله، ليدخل بعدها نظمي في اكتئاب، ويُنقل بعدها إلى المستشفى، ويظل لشهور في العناية المركزة، وحتى بعد خروجه منها، ظل حبيسا لأحزانه، وسيطر الاكتئاب عليه لمدة عامين، حتى وفاته عام 1991 عن عمر ناهز الـ73 عامًا.