جينا سلطان تكتب: «الضفة المظلمة» الرواية ثمرة إرادة صريحة بالكمال!

جينا سلطان تكتب : الضفة المظلمة: الرواية ثمرة إرادة صريحة بالكمال!
جينا سلطان تكتب : الضفة المظلمة: الرواية ثمرة إرادة صريحة بالكمال!

يخترق الروائى الإسبانى خوسيه ميرينو» عزلة الرواية المعاصرة عبر تقنية الكوابيس المفعمة بالألوان والمعقولية، والتى تمتلك القابلية على بلبلة الحالم تحت مظهر مصداقية لا يعتريها الشك، فيحولها إلى «ثمرة لإرادة صريحة بالكمال»، تتبع معايير سردية تتكئ بالدرجة الأولى على مقدرة الكاتب ـ الحالم على الاحتفاظ  بنبض حدسه الغريب والخفى، بمعزل عن الضياع الذى يتطلبه نقل الأفكار إلى الورق، والمقترن بتردى المعارف الحدسية أثناء الصراع ضد الكلمات، وبعيدا عن القصة بحد ذاتها.

تتلاءم بنية الكوابيس وتجلياتها فى الأذهان المترنحة مع دور المتاحف، كأمكنة ملائمة لتكديس الكائنات والأشياء المتباينة، وربطها بشبكة علاقات وثيقة ذات صبغة ضبابية، ومن ثم إطلاق سراحها لتنسج الأوهام التجريدية، وتغرقها فى مياه الأحلام العميقة. وبالتالى، تصبح رواية «الضفة المظلمة»،الصادرة عن دار سرد ، عدة روايات متداخلة عن صيرورة تلك الأحلام، وماهية التغيير الذى يطال الحياة من جرائها. 


تشكل منظومة «الأفكار التى تفكر من تلقاء ذاتها» نقطة استناد يسوقها «ميرينو» ببراعة، لصد هجوم النقاد عليه وتوسيع المدى أمام تدافع الانطباعات المتباينة وحقول الرؤية المختلفة، لأن الأدب فى المحصلة، كما يفترض، ليس إلا تدوين أخبار الرغبة وسرديات الضفاف المظلمة. 


تتفجر الأحداث بفعل «لوحة» داخل «متحف»، يضم بقايا الأمجاد الاستعمارية الإسبانية فى أمريكا اللاتينية، تقدم للبطل، الذى بقى مجهول الاسم، وجها يطابق كليا وجه أبيه. فيعيد «المتحف» تشكيل فرضية المرجعيات المؤسسة للحياة وفق تركيبة مستحيلة، لكنها مترعة بالاحتمالية.

وبالتالى، يغدو مكاناً مثالياً لبلبلة البطل وإدخاله ضمن منطقة عائمة تتاخم حدود اليقظة الجزئية وهلاوس الذهان. بالمقابل، تضيف التصورات الغرائبية أبعادا لا مرئية تعادل احتمالات افتراضية  للذات الشخصية للمؤلف ورؤيته الخاصة بإدراك مغزى الحياة وماهية الجدران التى تسور إرادة البقاء لدى الإنسان وتمنعها من الانفلاش نحو الجنون.    

 
فى اليوم الذى تؤرخه الرواية كمبتدئ للأحداث، يشعر البطل كما لو أن الاستيقاظ قد مُنح له لأول مرة، إذ يعادل خروجا أوليا من حلم لامتناه، كان غارقا فيه منذ بداية الزمان ولأسباب يعجز عن سبر أغوارها.

لذلك ينتابه الارتياب بأن وراء المظهر الحقيقى لكل ما يحيط به ثمة إمكانية تشرع لتشابكات حلم متينة بمحاصرته، وتتخذ شكل هلوسات شاذة تقلب اتجاه الزمن وترمم بقاياه الحية.


بغموض متكلف يتوغل قسريا نحو المجهول، يعبر «ميرينو» مع بطله إلى الضفة المظلمة حيث تنطفئ يقظة العقل، دونما فقدان للذاكرة، لتبدأ يقظة الإحساس، فيحصل وعى بحيز كبير من الفراغ يقوم خلف النفس، وكأنه يفارق هيكل اللحم والعظم ليصبح «فرقعة مقتضبة لمخيلة غريبة».


يشكل تقمص البطل لشخصية السليل المتبقى لصاحب الصورة فى المتحف، والذى يدعوه لاحقا بقريبى البعيد، مدخلا لـ«ميرينو» كى يُغرق القارئ فى متاهة ضبابية بتفاصيل دقيقة وإسهاب سردى مطول، يحيط بمفهوم التسلل إلى حلم الرجل الآخر وتلبس حياته. ليسقط البطل كنتيجة لذلك فى مجاهل الأرق، الذى يبقيه أثناء النهار فى حالة وهن تشبه تلك التى تسببها عملية التحول البيولوجى، لكن تواصل الأرق يتيح له تنظيم ذكرياته.

وضبطها فى مواقيتها الصحيحة. وفى الوقت نفسه، يتعشق نسيج ذكرياته المبهمة داخل تفاصيل حكاية قديمة للخالة مارثيلنا، تدور حول جندى تائه يبحث عن كنوز الإلدورادو، فيتلبس شخصية الجندى ويدخل معه إلى معبد مهجور للإله الضب، فى منطقة تمارس فيها عبادة الزواحف. وحين يغلبه النوم يشاهد الإله الضب وهو يستبدل جسده بجسد الجندى النائم ويستخدمه للبحث عن قرية، يرجح العثور فيها على مؤمنيه وأتباع طقوس عبادته.


ينجح البطل بعد عناء طويل بالنوم ضمن متوالية الأحلام، ويشاهد حلما مليئا بالزخم، يتراءى له كفصل جديد من مغامرة أوسع بكثير، يحدس تتمتها المؤكدة وإن كان غير قادر على تذكرها، وحين يستيقظ تبقيه احتمالية الأوهام الحلمية قلقا لوقت طويل.

لذلك تقترح عليه زوجته رحلة إلى قنوات ساحل الأطلسى تخففا من عبء الكوابيس، وهناك يفاجئه تداخل كل شىء مندغما بدقة فى تجاويف روحه السرية، فيدرك بأنه بفعل اجتماع الضوء والحر وكثافة المكان يدخل تلك المنطقة بأمل قوى فى التوصل إلى كشف ما.

وعلى القارب فوق مياه النهر يستغرق فى الإنصات إلى رواية كتبها الربان، فتدخله بدورها فى متاهات جديدة متعاقبة تواظب على أسره وخلخلة تركيبته الداخلية بتجارب حدية استثنائية.


يطل «ميرينو» من خلال شخصية أديب وهمى يدعى بيدرو بالاث، ليشترك مع بطله فى مسرحة الحياة، منوهاً إلى أن حياته الحقيقية كانت ملحقة بحيوات قرأها، واصفاً تداخل العوالم التى عرفها فى التخيل القصصى مع مشاهد حياته الواقعية، فتقوده هذه الذاكرة المتحولة إلى حياته نفسها، والمكونة من مزيج حميم من المعيش والمقروء. وهذه الحساسية تؤهله للحكم على رواية الربان التى كتبها إبان مراهقته، حين كان مدفوعا بزخم عاطفى لا يقهر، فيعيش «ميرينو» ضمن روايته، عبر ثنائية البطل والناقد التى تبطن سعيه إلى الكمال.


يزرع «ميرينو» الألغام فى حقول روايته، فتهدد بالانفجار فى أية لحظة تحت وقع ابتكاراته الضبابية، كرواية بيدور بالاث التى تصف ثلاثة أيام من حياة رجل هاجر إلى أمريكا اللاتينية طلبا للثروة، لكنه عاش حياة بؤس وتحولت ذاكرته إلى مجرد حلم ظل عالقا فى ذاكرته.

وتصل هذه الرواية إلى أبعاد غير متوقعة، حين تختلط فجأة جميع الذكريات والشكوك والحقائق اليقينية، فلا نعرف أين ينتهى التفريج عن النفس وأين يبدأ الإبداع؛ إذ يكتب «التخيل» نفسه بنفسه، خارجا من ظلمة ليس الكاتب فيها إلا مجرد ناقل بسيط، فينبع من أرض تصبح مرئية شيئا فشيئا. وأثناء ذلك يبقى البطل هادئا مستقرا فى مكان بلا أبعاد ولا زمان، حيث الحركة حقيقية بالنسبة للآخرين، بينما بالنسبة له هى مجرد وهم ينعكس حوله.


تجسد رواية الربان الحالة الحركية للحياة، من خلال رمزية مكان غامض يرتسم على شكل قاعدة رباعى وجوه، يتم اجتياحها من قبل غزو خارجى، فيما تشكل الوجوه الثلاث الأخرى ثلاثة أشخاص، يواجه كل منهم منظورا مختلفا، بحيث لا يمكن لأى من الوجوه أن يعكس المشهد نفسه، لتلتقى القصص الثلاث المختلفة، كما لو أنها تصل إلى زاوية التطابق، فتنغلق الدائرة. 
أراد «ميرينو» عبر الروايتين الدخيلتين التكهن بالطريقة التى يتوحد بها سلوك الشخصيات الثلاث، لكن البطل المستمع يشعر بالقلق حيال كلمات الربان، وكأن تلك القصة قادرة على تهديده والنيل منه شخصيا، أو كما لو أنه هو نفسه متورط بطريقة ما فى الحبكة، وبذلك يحدس الأبطال مسبقا بعمق الهاوية التى يجرهم إليها المؤلف، ويحاسبونه على متاهته المبعثرة.
حين يوحى «ميرينو» بأن الناقد بالاث كائن وهمى، أوجده شخص يدعى مارثان، يأتى رجل يزعم أنه بالاث.

ويتهم مارثان بممارسة لاستلاب الذهنى، فيراجع مارثان تحولات حياتيهما ويكتشف بأن لها طابعا روائيا، لكونها حصيلة هذيان لعوب، ويتكهن بوجود احتمال ينسب السجال الروائى إلى واقع وهمى من نسج الخيال فقط، حيث يتبع المنطق أبعاداً أخرى وقوانين مختلفة.


النمط الدائرى للحدث الواحد فى الرواية، والذى يمكن رده إلى التأثر بالسرديات الصينية التقليدية، يدفع «الربان» لإلحاق قصته برواية نونيا، رفيقته إبان المراهقة فى الزمن المتماسك، والتى تتحرك أيضا فى دروب الأحلام الوعرة.

وتدور حول زوجين من الحجاج عرفتهما فى مراهقتها، وقادهما الزمن عبر ثالوث الحب والخطيئة والهزيمة، لينتهى بهما المطاف بالاستقرار داخل أحلامها، كهاجس ملح يتكرر لسنوات على شكل محاولة يائسة لتحقيق اللقاء المستحيل بين العاشقين.


وعلى التوازى، وفى توالى الحلم الضبابى نفسه، يعود البطل مرة أخرى إلى شخصية المكتشف الضائع فى قصة الخالة مارثيلنا، وفى الوقت نفسه، يصبح طفلا رشيقا يراقب إيغوانا؛ حلم آخر داخل دائرة الأحلام السابقة، يوضح نوع المعرفة التى يكتسبها البطل جراء سلسلة الأحلام كلها. فيستغرق من جديد فى الحلم بوعى كامل له وبإحساس ممتع بالراحة، ويحس بأنه يُصاب بتضاؤل وتضخم فى الوقت نفسه، ويدرك أن مجرد إشارة من إرادته ستكفى لإدخاله إلى الأبد فى عالم لا ذاكرة له، لكنه يسلم نفسه إلى ذلك الدوار ويتشبع متلذذا به.


يُدخل التزامن فى الرؤية البطل فى نوع من  المعرفة المطلقة، وينبثق من بين شباك ذلك الحلم المتاهى وغير النهائى إدراك شديد الوضوح باليقظة، يتوج بلحظة إشراق تجعله يستشعر نبض النباتات والحشرات والطيور وحتى الجبال الجامدة. فيترافق وصوله إلى نهاية الرحلة مع الوعى الكلى بهويته، فينطفئ تفكيره ورؤيته المفتوحة على شتى الاحتمالات، ويجد نفسه إلى جانب قريبه البعيد،  يجتران التفكير نفسه، وحينها يدرك أنه لا يمكن لشىء أن يحول دون لقاء كل منهما بحقيقته الخاصة.


تزيح رحلة العودة إلى إسبانيا الهوة المشيدة من الأحلام والأحاسيس، وتتيح للبطل التفكير بحماسة فى كتابه الجديد، والتيقن بأن أحلامه السابقة باتت تجلب له البهجة. وعند وصوله إلى منزله يسلمه البواب رسالة من قارئ شاب يعبر فيها عن إعجابه ورغبته فى التعرف عليه.

وتتجسد المفارقة فى أن القارئ والكاتب يتقابلان فى زمن فسيح على هامش الساعات؛ الزمن الذى يتطلبه اجتياز حدود الأحلام واليقظة، ليتبين أن القارئ ما هو إلا الربان حين كان فتيا، فيدرك بطلنا أنه على وشك الاستيقاظ؛ فهكذا ينتهى، ليبدأ كل شيء!


تحوير المعرفة الحدسية عن طريق الأحلام وهلوسات اليقظة قد يخرج الرواية عن النمط التقليدى فى القص ويعيد ترتيب الأفكار لتواكب تسارع الأيام، لكنه أيضا يغلف بالغموض التلقى المعرفى ويغرقه بالضبابية. بالمقابل، يدفعنا التوصيف الدقيق لألفة كابوسية، مبنية على الجمل الطويلة المرهقة والمتقنة فى الوقت نفسه والمتسمة بالغموض وبالحرفية العالية، نتساءل بدهشة: أين هى الحياة الحقيقية؟

اقرأ ايضا

أبوالحسن الجمال يكتب : رسائل المقريزى فى طبعة جديدة