كنوز| «كيوبيد» يطارد «العندليب» في دمشق وبيروت !

«العندليب» وأشهر حكاية حب مع سعاد حسنى التى رحلت فى ذكرى ميلاده
«العندليب» وأشهر حكاية حب مع سعاد حسنى التى رحلت فى ذكرى ميلاده

عندما نضىء لعبد الحليم حافظ الذى لا يغيب عن الوجدان 93 شمعة فى ذكرى ميلاده التى تحل علينا21 يونيو من كل عام، جاء للدنيا عام 1929، وغادرها 30 مارس1977، 48 عاماً عاشها «عندليب» الغناء بكل عذاباتها وآلامها وأفراحها القصيرة، نستعيد فى ذكرى ميلاده مقالا كتبه لمجلة «الكواكب» عن كيوبيد الحائر بين دمشق وبيروت، وما أكثر من وقعن فى غرام العندليب الذى كتب يقول :

لن يضايقها أن أروى للناس قصتها لأننى سأحتفظ باسمها سراً مقدساً لا أبوح به لأحد، يغرينى برواية القصة طرافتها، ويعفينى من كتمانها انها لم تمس قلبى، وإلا كنت أودعتها قلبى وحده، هدأت محركات الطائرة بعد رحلة بين القاهرة ودمشق، تنفسنا الصعداء عندما بلغنا أرض البلد الشقيق الحبيب، وأنسانا كل المتاعب اننا وجدنا جمهوراً هائلاً ينتظرنا ويتوق لرؤيتنا، ولا يملأ القلب سروراً مثل هذه الحفاوة التى نقابل بها فى كل بلد عربى، صافحت الأيدى التى امتدت لتصافحنى، وابتسمت للبعيدين عنى، ولوحت بيدىّ لكل الذين تجشموا مشقة انتظارى، لكنى وجدت بين الأعين التى تحدق فىّ عينين طال تحديقهما وتتبعهما لى، ابتسمت لصاحبة العينين فبادلتنى الابتسام وسرت إلى وجنتيها حمرة مفاجئة، كانت جميلة، شعرها الأسود الفاحم ينسدل على كتفيها، عيناها واسعتان تستطيع صاحبتهما أن تضع فيهما المعنى الذى تريده، وعودها ممشوق ورائع، أقبلت سيارة فحملتنا إلى الفندق، واختفت ذات الشعر الفاحم فى الزحام .
فتيات كثيرات مثلها تراهن العين ولا يشغلن البال، وأنا لا اؤمن بغيرالحب الذى تتفاعل فيه القلوب، ولا أؤمن بالحب من أول نظرة لأنه ثورة، وليس من عادتى أن أمد حبال الأمل لواحدة، ولست ممن يبنون القصورعلى الرمال لهذه أو تلك، أنا واقعى ! .

فى اليوم التالى اجتمعت مع زملائى الموسيقيين فى قاعة بالفندق خُصصت للبروفات، ورأيتها بين الجمهور الذى أقبل ليرانا مرة ثانية، أقبلت علىّ فى جرأة، صافحتنى، ضغطت يدىّ فى حنان، اختارت مقعدا الى جوارى وراحت تحدثنى، أثنت على أغنياتى وتمثيلى ورابطة عنقى بعبارات الاطراء، بدأت أتململ لأنها انتقلت من الاطراء للغزل، تخلصت منها عندما أقبل ضيوف كثيرون ليصافحوننى، وفى ليلة الحفلة، رأيتها بين الكواليس، الوقت ضيق فاكتفت بأن هزت لى رأسها بالتحية من بعيد، وفى صباح اليوم التالى.

ذهبت الى بيروت وقد كنت ضيفا على الحكومة السورية فى فندق دمشق، ولكن الصديق الأمير الشيخ عبدالله المبارك أصر على ان أكون ضيفا عليه فى نفس الوقت فى اوتيل «كابيتول» وقد حجزلى جناحا فخما، وصلت للفندق وصعدت لغرفتى لأستريح، لكنى فوجئت بالخادم يهرول وهو يقول: «تليفون من سوريا مستعجل»، حسبت أن ظروفا استجدت تستدعى عودتى لدمشق، قفزت من فراشى وما كدت أضع السماعة على أذنى حتى سمعت صوتا نسائيا ابتدرنى قائلا: انا «.......»، فقلت: «أى خدمة»، قالت: «إزاى تسافر من غير ما تقول؟» قلت بدهشة: «أسافر من غير ما أقول. ليه بأه ؟» قالت: «بحق الصداقة»، ولم أجد ما أقول، فاستطردت هى: «ماتتضايقش انا قلت اطمن عليك».

وضعت السماعة قبل أن أجيب، أحسست أننى كنت جافا، لماذا لا أكون رقيقاً ؟، إذا كنت رقيقا فقد تعلق على رقتى آمالا وتتطورالأمور عندها إلى ما لا أحب !
فى صباح اليوم التالى كنت أهبط درجات الفندق، وانا خالى البال، وفوجئت بها تجلس فى بهو الفندق، قفزت من مقعدها، وأقبلت فى ترحاب وبشاشة حولت إلينا الأنظار كعشاق، صافحتها بتحفظ ودعتنى الى الجلوس على مائدتها فقبلت، ولكننى تلمست عذرا لأغادر مائدتها، سألتنى وهى تحس أننى أتخلص منها: «رايح فين»، قلت: «رايح سوريا».

وكأنما ظنت أننى أكذب فسألتنى «سوريا ؟»، فقلت: «زملائى اتصلوا بى وقالوا إننا سوف نحيى حفلة للجيش السورى الليلة»، فقالت: «انا سمعت الخبر ده فى دمشق، ورغم كده جيت بيروت علشان اشترى شوية حاجات»، فقلت: «اتمنى لك التوفيق، مع السلامة»، صافحتها وغادرت الفندق قبل ان تغادره وكان رأسى يطن بأفكار كثيرة لقد بدا عليها أنها تعلقت بى، وكنت حريصا على ألا أتركها تفعل هذا.

وقلت لنفسى: « ذنبها على جنبها »، كنت اتوقع ان تلحق بى الى دمشق، وصدق حدسى، كانت تقود سيارتها بجنون، فلما بلغت الفندق فى دمشق وجدتها فى انتظارى، تشاغلت عنها بزملائى وأصدقائى، ولم أرها فى الليل، ربما كانت ترانى وأخفت نفسها لأننى كنت فظا فى معاملتها فى الصباح، عدت لبيروت بعد الحفلة وما كدت أصل للفندق حتى وجدتها على التليفون فى انتظارى، قالت «تعرف انى حاجزة الخط علشانك»، قلت: «طيب وليه يا ستى المصاريف دى»، قالت «علشان أسمع صوتك»، قلت «وسمعتيه»، قالت «واطمنت عليك، تصبح على خير » !

فى الصباح، وجدتها تقف عند موظف الاستعلامات، رأيتها توقع استمارة يوقعها النزلاء، أردت الخروج وعندما بلغت باب الفندق، استدارت قائلة: «عبدالحليم»، تسمرت فى مكانى، وانا اقول لها فى يأس «اهلا وسهلا»، وجلسنا معا بعد أن استدارت الرءوس نحونا، قالت: «أنا حجزت غرفة جنب الجناح بتاعك، مبسوط !»، فقلت وكأنى أصفعها «مبسوط موت»! 

قلت لصديقى الشيخ عبد الله المبارك الذى اتفقت معه على ان امكث اربعة ايام فى الفندق «انا حستأذن منك فى السفر النهاردة»، ظل يقنعنى بأن أبقي، لكنى قلت له «اننى احس توعكا ولا أعالج نفسى إلا عند طبيبى الخاص بالقاهرة»، وبدافع من الحرص على صحتى تركنى أعود، وتوقفت المطاردة عند هذا الحد بعد أن داخ «كيوبيد» بين دمشق وبيروت !

عبد الحليم حافظ «الكواكب» 11 يونيو 1957