ياسر عبد الحافظ يكتب من أمريكا عن.. «السنجاب الأعمى»

نهر آيوا
نهر آيوا

> ضمن سلسلة القراءات الأدبية التى عُقدت فى بيت شامبوا مساء كل جمعة قدمت هذا النص والذى يتخذ من  مدينة آيوا مسرحًا تتشابك عليه الرحلة إلى أميركا مع رحلات أخرى منها العراق بعد سقوط بغداد.

> شكلت اللغة عائقًا عن أن نتفق أنا وجندى من مرتزقة البلاك ووتر على سبب لما يحدث. كنا نقف على أرض الموت والخراب نفسها لكن كلينا يرى مشهدًا مختلفًا.

هل يعرف أحدكم أن هناك علمًا مفقودًا من المفترض أن يكون أعلى أحد الكبارى على النهر. أنا هنا مجرد عابر لكنى وجدت أنه من واجبى التنبيه لهذا الخطأ، لأن تثبيت لوحة معدنية تفيد بوجود علم لا وجود له، سيتسبب فى إرباك نحن فى غنى عنه، تخيل مشهدًا يتجمع فيه العابرون على الكوبرى وهم فى حيرة من أمرهم غير قادرين على المغادرة إلى الجهة التى يقصدونها أو العودة إلى الجهة التى جاءوا منها، كلهم يفعل مثلى، يقف ويدقق بحثًا عنه، إنما لحسن الحظ أنهم يجدون الأمر لا يستحق.

يمضى كلٌ فى طريقه على اعتبار أنه ليس أكثر من راية ترمز لتنوع جنسيات الطلبة الذين يدرسون فى آيوا. لكن هذا ليس مبررًا كافيًا بالنسبة لى، ليس لدى ما يجعلنى أتعجل العبور للضفة الاخرى من النهر مثل الباقين، ثروتى هنا الوقت وأتمتع بتبديدها على أمور لن يلتفت إليها أحد. أنا الوحيد إذًا الذى سيتبنى قضية هذا العلم المسكين، لكن وقبل الإقدام على أى خطوة قد توقعنى فى الحرج، أتخيل حوارًا بينى وبين مسئولين يأتون بناءً على طلبي: «وما هذا الذى يكاد يطير فى السماء.. أليس علمًا؟» أدقق فى الهواء استجابة لشك أنه يرفرف أمامى والخطأ يكمن فى بصرى، الذى يضعف بوتيرة تقتضى السماح للوهم بالتداخل مع الواقع، تدريب يسبق العمى، منح الحواس المهملة فرصة وضع افتراضات بديلة لما أعجز عن رؤيته. 


السماح للوهم بأن يفرض منطقه ليس سيئًا كما يروج المختصون بلصحة العامة بل له منافع عدة، مثلًا فقد أمدنى بقصص مختلفة عن السيدة الراحلة «Joannie Geifman» والتى خلد أحد محبيها ذكراها بكلمات على لوحة معدنية مثبتة على أحد الكراسى المواجهة للنهر «لا يتواجد الجمال فيما نراه ونتذكره بل ما نشعر به ولا يمكن نسيانه».


من ضمن أهم منافع خلط الوهم بالواقع أيضًا، أن الأزمنة تتجاور، يكفى للبرهنة على هذا أنّى بينما أقف على الكوبرى أضع الافتراضات المختلفة لتفسير اختفاء العلم يساندنى فيما أفعل الصبى الذى كنته والذى كان لديه جرأة كافية للتسلل من المدرسة يومًا لاستكشاف العالم الحقيقى بينما يلتهم قطعة من الآيس كريم فيما يراقب رجلًا نصفه الأعلى عارٍ، يسير بهدوء بين السيارات فيما يجر وراءه علمًا صغيرًا لأميركا وبعض المارة يحيونه كبطل. احتاج الصبى إلى سنوات إضافية ليفهم معنى المشهد.

ومن ثم لينخرط فى لعبة سكان الأرض فى ذلك العهد التى انقسموا فيها إلى فريقين.. الطيب والشرير، الشرق والغرب، المتعة والحرمان، أمام الجدار وخلفه. لكن اللعبة وعلى العكس من الجهامة التى ميزتها حافظت على طابعها المبهج بالنسبة للصبى لارتباطها بطعم الآيس كريم غالبًا، أو لأنها كما بدأت بالتمرد على قوانين مؤسسة التعليم ظلت وفية للمبدأ نفسه فجنبته السقوط فى فخ الاستقطاب ومارس صاحبها اللهو بين الطرفين. يدخن السجائر الفاخرة ويردد شعرًا نضاليًا ضد الإمبريالية.


حفرت صورة العلم المجرور على الأرض والذى له طعم الآيس كريم، لنفسها مكانًا فى عقل الغلام، كمنت فى ركن ما عندما انتهت لعبة المعسكرين بمغادرة أحد الفريقين الملعب على عجل، ثم عادت الصورة للظهور بعد سنوات بينما الفتى الذى أصبح رجلًا الآن يقف أمام موظفة الجوازات داخل السفارة الأميركية بالقاهرة، وصوت يتردد بين الحين والآخر يفيد بأن ثمة تدريبًا بالأسلحة يجرى على أرض السفارة. يبتسم الصبى للصورة القديمة ويفكر الرجل فى رد مناسب على سؤال الموظفة المصحوب بنظرة متشككة، تثيرها الابتسامة التى لا لزوم لها: ما الذى تنوى أن تفعله بعد أن تنتهى إقامتك؟ يصمت لثوان، لم يخطر السؤال على ذهنه قبل اللحظة وعشرات الاحتمالات تبدأ فى طرح نفسها، يستدعى مشهدًا من فيلم قديم بطلتاه امرأتان تفران من شيء لم يعد يذكره. ولأنه وكما يقال «المعنى فى الرحلة لا فى الهدف منها» فإن هروبهما بالسيارة بين الولايات الأمريكية يتحول إلى رحلة تحرر تخلصهما من قيودهما، إلى أن تكتمل بالتخلص من عبء الحياة نفسه بالطيران بالعربة لتهوى بهما فى جرف فيما تضحكان. 


لن أذهب إلى أمريكا لأنتحر، لكن أليس من الواجب أن أحكى لموظفة السفارة عن الرجل الذى كان يجر علم بلادها على أرض الشارع قبل سنوات! يرتبط البلدان بعلاقات وطيدة يؤكد عليها الجانبان فى المناسبات المختلفة وقد أساهم فى تعميق تلك العلاقات بتقديم ما لدى من معلومات.

وإضافة مقترح بوضع صورة لطفل يلتهم قطعة آيس كريم على العلم الأميركي؟ ألن يكون لطيفًا لو استبدلت الدول النسور والصقور والنجوم والسيوف ورموز الصرامة المختلفة على أعلامها بقطع من الحلويات؟ من يدرى لعل هذا يسهم فى إبعاد شبح الدمار الجاثم فوق الرؤوس.  


استكمال الناقص فى الواقع بالوهم لا تقتصر منافعه على التكهن بألوان علم مفقود، أو بسيرة حياة سيدة قضى الرجل الذى كان صبيًا، فى المطارات يومًا بلا تصور ما عما هو قادم بشأنه قبل أن يرتاح من الأفكار على الكرسى الذى يخلد ذكراها أمام النهر. تضفير الوهمى بالواقعى مفيد للغاية فى تكملة الحوارت غير المفهومة التى تنشأ بسبب اللغة. لن يتفق معى الكثيرون فى هذا، الدقة واحدة من شروط حياتنا المتداعية، لكن الدقة لم تكن ما تنشده بائعة قالت لى عندما اعتذرت لها عن لكنتى التى عطلت تواصلنا للحظات: «لا تعتذر، أنا نفسى كانت عندى لكنة، اللغة ليست مهمة». لم أعرف إن كنت مخطئًا عندما اعتذرت.

ومن ثم ينبغى على الاعتذار مجددًا، أم أنها متسامحة بما لا يتناسب مع الواقع. اللغة ليست مهمة! ربما عليها أن تقول هذا لأبى الذى وجد أن تلقينى مبادئ اللغة أعظم شأنًا من أن نكون أبًا وابنًا تربطهما تلك العلاقة التقليدية المكررة، وهو ما عودنى لاحقا على صمت دائم أدقق فيه فى صحة القواعد اللغوية لما أريد قوله.

 
لم يكن لدى البائعة وقت كاف لأحكى لها قصة تدلل على أن الخمر وحدها قادرة على هدم حاجز اللغة. الخمر هى أفضل مترجم على الإطلاق، أو هذا على الأقل ما توصلت إليه بينما كنت أتشاجر ولسبب تافه مع أميركى فى أحد بارات القاهرة، كنا قادرين أنا وهو على تبادل السب ثم تشارك بقية الليلة فى حديث ودى ولم تكن حصيلتى من اللغة سوى جمل مقتطعة من الأغانى والأفلام. غير أنى وعندما زرت العراق بعد سقوطه، وكنت قد بدأت أزهد فى الشراب.

وزادت حصيلتى من المفردات عن ذى قبل، شكلت اللغة عائقًا عن أن نتفق أنا وجندى من مرتزقة البلاك ووتر على سبب لما يحدث. كنا نقف على أرض الموت والخراب نفسها لكن كلينا يرى مشهدًا مختلفًا. أظن أننا لو التقينا هنا فى آيوا، لو جاهدنا سويًا لنصعد التل، نحمل سنوات عمرنا وهزائمنا وخطايانا، نتوقف قليلًا عند استديو الرقص الذى كان قبلًا جيمانزيوم للسيدات وتحت وطأة الصمت التام الذى يغطى المدينة ليلًا وكأنه لم يعد سوانا أنا وهو فى العالم، سندرك أننا أرهقنا أرواحنا بالترحال لنصل إلى النتيجة التى وصلت إليها بائعة يافعة لا تتجاوز خبرتها بضع شوارع تقطعها يوميًا: اللغة ليست مهمة.    


كنت قد صعدت التل وحدى فجر اليوم التالى لمجيئى إلى آيوا قبل أن أصعده برفقة الجندى أستمع إلى اعترافاته النادمة عما اقترف، وأمنيته بالتخلص من عيون قتلاه التى تطارده أينما ذهب. لم أقص عليه مغامرتى فى يومى الأول فى المدينة، شعرت أنها بلا قيمة مقارنة بما لديه، مع أن الشك راودنى فى أن اعترافاته ليست صادقة، تبدو الكلمات التى يقولها والأداء المصاحب لها كأنما مجمعة من أفلام غاية صناعها التطهر الفنى من تدمير بلد ما.  


خرجت فجرًا أمارس الجرى فى شوارع المدينة، أقفز صعودًا سلالم مبنى الكابيتول القديم مثلما كان روكى يفعل فى متحف فيلادلفيا للفنون. أوفى دينًا للولد الذى آمن أنه بقدرتنا على أن نكون أبطالًا، أترك له القيادة بلا حذر من العواقب، يجرفنا الحماس فتختفى العلامات القليلة التى رصدتها للعودة، يختبئ الولد مثلما كانت عادته عندما يواجه موقفًا جادًا، ليجد الرجل نفسه وحيدًا وسط الحى السكنى، يخترقه البرد وتتجمد أطرافه والشوارع خالية إلا من سنجاب يقرأ حماقته فى عينيه. تطول النظرة بينهما عن المألوف فى منطق العلاقات بين عالميهما، لكن خاطرًا بأن البرد ينتقل من أطرافه ويهدد بالوصول إلى قلبه يصرفه عن التفكير فى دلالة نظرة السنجاب إلى أن يعود لتذكره فيما أحدهم يلاعب كلبه فى حديقة عامة فى شيكاغو، يرمى له الكرة فى الهواء لأبعد ما تستطيعه ذراعه ويعدو الكلب لالتقاطها.

يتعلق بصر الرجل بالكرة والكلب ويشعر بأن المشهد بأكمله يستغرق زمنا أطول مما هو مقدر له، يستنتج ساعتها أن نظرة السنجاب لم تطل عن الطبيعى لكنه نفس ما يجرى الآن، يتم مط الزمن استجابة لقانون يعرفه من يتقنون عيش الحيوات العابرة، تلك التى تبدأ بساعات سفر عدة لتقذف بالمسافر فى مكان آخر مختلف بالكامل، كأنما مر فى واحدة من تلك الأنفاق الضوئية الخيالية للتنقل بين الأبعاد. يلتقط الكلب الكرة ويبدو كما لو أنه انتبه إلى الرجل الغريب الذى يركز بصره عليه فيتوقف لحظة يبادله النظر قبل أن يناديه صاحبه يمنعه من التفكير فى عبثية اللعبة التى يمارسانها بصدق. 


كبشر، نحن مصممون على نحو يتماشى مع زمن يمضى فى خط مستقيم، أو هذا ما عودنا أنفسنا عليه لأن التجاوب مع الزمن الذى يلهو حولنا ويسحب الأحداث من ذيلها ليؤخر تقدمها فيصبح كل حدث كأنه حياة وحدها يحتاج بذل الكثير من التحكم لإدارته، يخرج الزمن فى هذه الحالة عن إطاره الطبيعى متسببًا فى الكثير من التشوش خاصة عندما يتقاطع مع زمن عادى، لهذا يبدو من الصعب على زوار مدينة ما وأهلها التوصل إلى زمن ثالث يمكنهما الالتقاء فيه، لهذا تبدو الأحداث التى تجمع الطرفين كأنها شريطا سينما يتم عرضهما على شاشة واحدة فيما المشاهد ليس سوى ذلك السنجاب الذى لا يمكن التكهن بما يدور فى رأسه من أفكار عما يرى.

اقرأ ايضا | ناهد الطحان تكتب: أسرار الدراما الإذاعية