فنون وفلسفة في تمثال مفيستوفيليس ومارجريتا المزدوج

فنون وفلسفة فى تمثال مفيستوفيليس ومارجريتا المزدوج
فنون وفلسفة فى تمثال مفيستوفيليس ومارجريتا المزدوج

بقلم : إيرينى سمير حكيم

رفض «مارجريتا» النظر إلى الشيطان والتعامل معه، بالإضافة إلى تقديم انطباع أنَّ الشر مهما يبدو متصدراً المشهد، والمسيطر الأوحد عليه، إلا أنَّ الخير موجود والنقاء باق، والتوبة متوافرة دائماً

يشهد الطابق الثانى من متحف سالار جونج» فى «حيدر آباد» بالهند، واحدة من أروع المنحوتات الخشبية على الإطلاق، والتى تعتبر أكثر الأعمال الفنية المعروضة شهرةً فى المتحف، وهذه القطعة شديدة الخصوصية هى تمثال «مفيستوفيليس ومارجريتا المزدوج»، المعروف بـ“Mephistopheles and Margeretta Double Statue»، وهو تمثال خشبى مزدوج يضم شخصيتين بارزتين من شخصيات الأدب العالمى الشهيرة على الجانبين، وقد تم نحته من قطعة واحدة من الجميز، فى وقتٍ ما خلال القرن التاسع عشر فى فرنسا، بواسطة فنان فرنسى مجهول الهوية، ويتسم هذا العمل بمستوى من التعقيد النحتى  لتصميم ثنائى التجسيم، غير مسبوق فى القرنين الماضيين، ويتميز عن أى عمل مزدوج آخر فى أى وقتٍ لاحق.

يُجسِّد هذا «النحت الخشبى المزدوج فى الواجهة، رجلاً يقف وصدره منتفخ بغطرسة، بشارب كبير وابتسامته شيطانية، مُحدِّقًا فى من يقف أمامه، ولكن عند النظر للمرآة الضخمة التى تقع خلفه، تكتشف وجود امرأة واقفة فى ظهره، بل إنها تتشكل فى ظهره، رزينة ورأسها منحن قليلاً، بوجه تريسم على ملامحه تعبيرٍ راضٍ، فى شيءٍ من الخجل، ويعود ذكر كلتا الشخصيتين للمسرحية التراجيدية الشهيرة «فاوست»، للكاتب الألمانى «يوهان جوتة»، التى نُشرت عام 1808، وهى تمثل معركة بين الخير والشر من كلاسيكيات الأدب العالمى، ومنها يستقى هذا التمثال رمزياته. 


تعدُّ قصة «فاوست» من روائع الأدب العالمى، ومن أعظم وأشهر أعمال «جوته» الأدبية، التى خلدت ذكره لعصور لاحقة، وتتناول هذه القصة بعض الأحداث التى تدور مع شخص «فاوست»، الذى كان يعيش وحيدًا، ووارث عن عمه الذى كان يرعاه أموالاً طائلة، وكان هذا الرجل حريصًا على العلم والتعلّم بشكل كبير، وكان يقضى معظم وقته فى التبحر فى العلم، وقراءة الكتب فى شتى أصناف العلوم التى عُرفت فى زمانه.


وبعد مرور العديد من السنوات بدأت تظهر عليه علامات الكبر، وشعر بأنَّه قد أضاع سنوات شبابه فى علوم لا فائدة منها، حيث إنَّه لم يكن يعيش حالة من الرفاهية، وعلى حد تعبيره فقد أضاع شبابه، بينما يعيش معظم الشباب فترة شبابهم فى تمتع بملذات الدنيا، ولا يحبسون أنفسهم بين جنبات الكتب.


ومن هنا قرر أن يتبحر فى علوم السحر الأسود، ليحصل على قوة تساعده فى استرداد الشباب ومتعته، حتى ظهر له الشيطان المُسمّى فى القصة «مفستوفيليس»، وأخبره «فاوست» برغبته، فعرض عليه «مفستوفيليس» أن يقايضه روحه بعهد دم، مقابل أن يعطيه أربعًا وعشرين سنة أخرى وهو فى عمر الشباب.

وأن يحظى بخدمة «مفستوفيليس» نفسه، الذى سيجعله عالمًا وساحرًا ذا قدرات خارقة للطبيعة، ومتنعمًا طوال هذه المدة بكل متع الدنيا، وفى النهاية يستحوذ على روحه فى الجحيم الأبدى، وكان هذا الاقتراح مُغريًا فى نظر فاوست فوافق على الفور.


وبدأ فاوست يعيش حياة مختلفة مليئة بالإجرام وإزهاق الأرواح والتعدى على الآخرين، ولكن فجأة يدخل الحب الحقيقى فى قلب فاوست تجاه فتاة تُدعى «مارجريت»، بريئة ونقية ومؤمنة، ولكن بدفع من «مفستوفيليس» ومحاصرة من «فاوست»، استسلمت «مارجريت» للخطيئة معه، حتى تُنبذ وتموت اجتماعيا ومن ثم فعليا، ولكن يكُتب لها الخلاص بسبب ندمها واستغاثتها بالسماء، وبعد تجارب أخرى لفاوست مع «مفستوفيليس»، تنقذه السماء من براثن عهده مع الشيطان فى اللحظة الأخيرة، وينال الغفران وتذهب روحه إلى السماء فى استقبال من الملائكة وصلوات «مارجريت» لأجله.


وكما اهتمت مسارح العالم بتقديم هذه القصة على مر السنين، بأنواع فنون مسرحية مختلفة، فلقد ظهر اهتمام كبير من الفنون الأخرى للتعبير عن عِبرتها بصور مختلفة أيضًا، ومنها فن النحت الذى أبدع فى تجسيد فلسفة هذه المسرحية، فى هذا التمثال بطريقة متفردة، تحمل إبداعًا عبقريًا فى قطعة نادرة.

وهى القطعة التى نتحدث عنها هنا، فهو يجسد شخصيتين تجمعان الطبيعة المزدوجة للإنسانية كما رُوِيَت من خلال فاوست، فمن ناحية يتجسد «مفيستوفيليس» الشائن، الشيطان الذى يتجسد عند فاوست والتمثال فى صورة إنسان، يُلهِم الخوف فورًا بمجرد النظر فى عينيه المؤذيتين، ويحمل خنجرًا وابتسامة خبيثة، فهى ابتسامة مخيفة تُنبئ من يقف أمامه بمعرفة خطواته وخطاياه، وخنجر يشير إلى قدرته على القتل، فهو أكبر قاتل فى تاريخ البشرية، واضعًا يدًا خلف الخنجر، فى رمزية لمسالمة زائفة تتناقض مع تعبيرات وجهه، ويد أخرى خلف ظهره تُخفى ما تحمِل، كمن يحمل سكينًا، ولكنها ربما تُمسك عقدًا!، وبينما يرتفع رأسه بتكبر وعجرفة، داخل غطاء عباءته المتراجع قليلًا للوراء، يظهر فى الخلف غطاء رأس عباءة «مارجريتا» المحتشمة حتى العُنق، رمزاً لعفتها الحقيقية، بعيدًا عن دفعِها نحو الإنزلاق الحسى، ليحوى رأساً منحنيا قليلاً بملامح متواضعة نقية يحيطها إكليل من زهور، ليوحى وجهها كله بالصلاة والتأمل، تُمسك بيدها أزهارًا رمزاً لرقتها وعاطفتها، وباليد الأخرى كتابًا، يبدو كتابًا دينيًا نظرًا لفطرتها المتدينة.


إن هذا التمثال المزدوج النادر الإبداع، هو إعادة سرد لقصة فاوست، باستغلال قطعة واحدة من الخشب بطريقة مذهلة، حيث استخدم فيها الفنان نفس الارتفاع لانعكاس جسد كلتا الشخصيتين، ليجعل تفاصيل كل منهما مُكمِّلة للآخر، حتى إنَّ كل يد لكل منهما، هى يد للآخر من الجهة العكسية للمشاهد، فعلى سبيل المثال، تجد أن يد «مفيستوفيليس» التى يخفى بها شيئًا خلف ظهره، هى يد «مارجريتا» المُمسِكة بكتاب دينى من الواجهه الأخرى.


حتى فى اختياره لتوظيف تمثيلهما خلف بعضهما، لا بشكل جانبى، كان له معان رمزية عميقة الرسائل، ومنها رفض «مارجريتا» النظر إلى الشيطان والتعامل معه، بالإضافة إلى تقديم انطباع أنَّ الشر مهما يبدو متصدراً المشهد، والمسيطر الأوحد عليه، إلا أنَّ الخير موجود والنقاء باق، والتوبة متوافرة دائماً، فوجود «مارجريتا» الخَيِّرَة خلف «مفيستوفيليس»، يتمثل الطعنة فى ظهر الشر، وغيرها من الانطباعات الأخرى يسببها النظر إلى هذا التمثال الدرامى، وهذا هو دور العمل الفنى، أن يكون متعدد الرسائل، وأن يكون منفذاً على الخيال والتوقع، ودافعاً للإحساس والتقويل. 


وهذه القطعة النحتية المميزة، هى إحدى القطع الفنية النادرة فى متحفها، التى أُقتنيَّت من كل حدبٍ وصوبٍ لتقبع فيه، فمتحف «سالار جونج Salar Jung» يُعَّد مستودعاً للأشياء النادرة من جميع أنحاء العالم، من أوروبا إلى دول الشرق الأقصى فى آسيا، فهو مكانٌ لا يمكن لمحبى الفن أو عشاق التاريخ أن يفوتوه. 

وقد تم افتتاح المتحف فى عام 1951، وهو يقع فى دار الشفاء، على الضفة الجنوبية لنهر موسى فى مدينة حيدر أباد، ولاية تيلانجانا فى الهند، وهو أحد المتاحف الوطنية الهندية الثلاثة، وقد كان «سالار جونج الثالث Salar Jung III» هو المسئول عن جمع القطع الفنية النادرة من جميع أنحاء العالم لهذا المتحف، كان «سالار» نبيلًا وشغل منصب رئيس وزراء حيدر أباد ديكان، فى عهد النظام السابع لـ «مير عثمان على خان» عام 1912،  ثم تخلى عن منصبه فى نوفمبر 1914، وكرَّس حياته لإثراء كنوزه من الفن والأدب. 

انتشرت أخبار حبه العاطفى للفن على نطاق واسع، وكان قصر أسلافه ، «ديوان ديودى  Dewan Deodi»، ممتلئًا بباعة السِلع من جميع أنحاء العالم، كما كان لديه عملاء فى الخارج أرسلوا له كتالوجات وقوائم من تجار التحف المشهورين.

ولم تقتصر مشترياته على هذه المصادر فحسب، بل قام أيضًا بعمليات شراء شخصية، خلال جولاته فى الخارج إلى أوروبا ودول الشرق الأوسط، ولم يكن فقط جامعًا نَهِمًا للتحف والفنون والمخطوطات النادرة ، بل قام أيضًا برعاية الشعراء والكتاب والفنانين، وشجَّع الأنشطة الأدبية والثقافية، كما كان مسئولاً عن نشر العديد من الكتب عن أفراد عائلته.

وقد استمر هذا لمدة أربعين عامًا حتى وافته المنية فى 2 مارس 1949، وتُرِكَت المجموعة بأكملها دون وراثة، ثم اجتمع أفراد عائلته ليُجمِعوا على تقديم المجموعة الرائعة للأمة، حيث لم يكن هناك عرض أفضل، ومن ثم أصبح متحفًا وطنيًا مهمًا.


ويجمع هذا المتحف المبهر تحفًا قيمة نادرة، من جميع أنحاء الهند والعالم تقريبًا، ففى القسم الغربى منه، يُعرَض أشياء من دول مثل فرنسا وإيطاليا وبلجيكا وألمانيا وتشيكوسلوفاكيا والنمسا وإنجلترا وأيرلندا، كما يتاح للزوار أيضًا رؤية أشياء نادرة من اليابان وبورما، والصين وتايلاند وكوريا ونيبال وإندونيسيا، وسوريا وبلاد فارس، والجزيرة العربية ومصر فى القسم الشرقي.

اقرأ ايضا

 سميحة خريس تكتب.. الجمال يسند بعضه ويتكامل