سميحة خريس تكتب.. الجمال يسند بعضه ويتكامل

سميحة خريس تكتب |الجمال يسند بعضه ويتكامل
سميحة خريس تكتب |الجمال يسند بعضه ويتكامل

رغم أن النزعة الشوفينة كمفهوم صدرت من فرنسا حاملة لاسم واحد من المتعصبين لقوميته، إلا أنى أظنها نزعة إنسانية عامة، لم ينج منها شعب من الشعوب ولا فئة من الفئات، كل طرف يرى نفسه الأول والأعلى والأجمل، بينما الأخر جمع من المثالب.

ولعل تلك النزعة توارت زمناً، خاصة بعد الحرب العالمية الثانية التى تسببت بدمار عالمى جراء الاعتقاد بتميز الجنس الآرى عن سواه، وكأنما العالم تعلم درساً قاسياً وراح يعالجه باطلاق الأفكار الأكثر انسانية والتى تحاول التكفير عن الشر الذى وقع فى العالم، وهكذا تخفت الشوفينة وارتدت أقنعة مسالمة واتخدت أشكالاً لائقة وتحطمت مسلمات كثيرة، لم يعد هناك فى الظاهر المعلن عبد وسيد، ولا جبل بينما الناس حجارة.


 لكن كل هذه المفاهيم لم تقتل الفكرة الأصلية فى زهو الإنسان بتميزه واعتقاده بتفوقه الطبيعى، كأنه ينتظر هبة ريح تزيح الرماد عن الواقع، وإذا كان هذا يجتاح العالم كله فما بالك ونحن ورثة ذلك الزهو والفخر المحمول على الأدب دوماً، ألسنا أحفاد عمرو بن كلثوم الذى قال: إذا بَلَغَ الفِطَامَ لنا صَبيُّ تَخِرُّ له الجبابِرُ ساجِدِينا؟  وأبى فراس الحمدانى الذى قال: لنا الصَدرُ دونَ العالَمينَ أَوِ القَبرُ؟


هذا على صعيد الاعتزاز بالهوية، ولعل الحركات القومية التى نصنفها فى سياق سعينا للتحرر والوصول إلى الحرية أعلت من شأن تلك الشوفينية، وانسقنا ورائها إلى أبعد من مراميها بحيث كان عسيراً أن لا ننظر إلى العالم كله خارجنا على أنه أخر يحاول سحقنا بمؤامراته. 


كيف إذاً على صعيد الأدب؟ قليلة هى التجارب التى حاولت فى الأدب التحرر من تلك النزعة، ربما لأن الأديب فى تركيبته النفسية شخص معتد بنتاجه، ومهما بلغ من الإنسانية ومحبة الآخرين إلا أنه يضع نتاجه فى ميزان شديد الحساسية، إنه أيضاً حفيد المتنبى: أنا الذى نظر الأعمى إلى أدبى .. وأسمعت كلماتى من به صمم. 


فلا العشيرة ماتت ولا القبيلة باعت نوقها والإبل، ولا الانفتاح على الحداثة والأفكار الانسانية الواسعة يمكنه أن يقلل من فخر الأديب بكلماته، قد يصل الأمر حد المرض، إذ يحدث خلل فى قدرة الكاتب النقدية التى تمكنه من تفحص تجربته ومحاسبتها.

وبالتالى يقوده هذا الخلل إلى اعتقاد أن انجازه لم يكن مسبوقاً ولن يكون مثله فى قادم الأيام، أحياناً يعزل هذا الاحساس المتعجرف الأديب عن واقعه، وأعرف أن كتاباً كثر وقعوا ضحايا هذا الوهم الذى يضخم الأنا ويعمى النظر عن رؤية تجارب الاخرين وعن تذوق نتاجهم، كما يحكم على التجربة باجترار نفسها دون تقدم يذكر.


قد يكون بعض الاعتداد مفيداً فى سياق الثقة بالذات، ولكنه ليس نهاية المطاف، على الكاتب أن يشعر أن هناك الكثير ما زال منقوصاً فى تجربته حتى يجد مبرراً لاستكمال طريقه، عليه التخلص من عبء العمى الكلى الذى يتركه فى مواجهة مرآته فقط.

وبالطبع لا أقصد أن عليه التواضع إلى درجة أن يذهب إلى منافقة الأخرين أو مجاملتهم وخلط الأوراق بين الغث والثمين، لأنه بذلك قد يساهم فى افساد الساحة الثقافية، وقد شهدت على كتاب كبار لعبوا هذا الدور فأوهموا الصغار بتميز تجاربهم وقضوا على امكانية العمل الجاد لتصويب تلك التجارب وتقدمها ونضجها. 


وإذا كان الكاتب من باب ثقته بما يكتب ويقدم مغروراً إلى درجة مقبولة، فهو غرور جميل، ولكن بالمقابل أن لا يقلل من شأن التجارب الأخرى، كما يفعل البعض، لقد اكتظت الساحة الثقافية العربية باراء اقصائية ولقينا كل كاتب يهمش سواه. هذا يشعرنى بعدم نضج الكتاب، كأننا مراهقون فى مدرسة نتنافس ونقصى بعضنا بعضاً، غير قادرين على العمل فى مشروع متكامل لخدمة الأدب العربى.


بالطبع التنافس على الجوائز أدى إلى وضوح مثل تلك الاصطفافات، هناك كتاب ونقاد لا يخجلون من اظهار تحيزهم الذى لم يبن على ضوابط ابداعية تتعلق بالفن وبالسوية الابداعية، ولكن لهم دوافع مغايرة فى معظمها تصنف شوفينة عالية، كالانزياح إلى جنسية بعينها، أو جندر بعينه، أو حتى مصالح ذاتية مرتبطة بدور النشر وبالصداقات الشخصية والشلل الأدبية أو الأحزاب.

ولا ينطبق هذا الأمر على لجان التحكيم أو المشرفين على الجوائز فحسب، لكنه ينساق أيضاً على القراء، فنرى أن شعباً يغضب لأن الفائز لم يكن منه، يحدث هذا بعفوية كبيرة وتصطف وسائل الاعلام وراء هذا الشعور بالمظلومية والتهميش، ويفصح القراء والاعلاميون عن تحيز دون محاذير يسبق قراءة الأعمال التى يقيمونها ويحاكمونها قبل قراءتها. 


ليس من حل جذرى لمثل هذه الاشكالية، ولكن يمكن التخفيف منها باختيار لجان تحكيم وازنة وحكيمة وقادرة على الحكم السليم عندما يتعلق الأمر بالجوائز الأدبية، كما لا بد من محاسبة الاعلام الذى يذهب إلى تفجير قضايا جانبية تاركاً لب الموضوع وموجهاً القراء إلى الانحياز فى غير محله، وفى كل هذا نأمل فى نضج الكتاب روحياً وفكرياً ليعلموا أن الجميل لا يظهر  وينجلى لأن العالم يغص بالقبيح، ولكن الجمال يسند بعضه ويظهر بعضه، ويتكامل. 

اقرأ أيضا | الخشت يهنئ د. أحمد درويش لفوزه بجائزة عبد العزيز سعود في نقد الشعر