فيصل الأحمر يكتب |عندما يتغلب السياسى على الثقافى

فيصل الأحمر يكتب |عندما يتغلب السياسى على الثقافى
فيصل الأحمر يكتب |عندما يتغلب السياسى على الثقافى

أعتقد أن لهذه النزعة أصلا قديما لا غبار عليه، فقد كانت هنالك مراكز ثقافية فى البلاد العربية (وربما فى العالم كله)... ووجودها لا عيب فيه ولا مهرب منه، بل إن لنا تجارب ممتازة معه، فنحن نحسب علماء قدامى فى الثقافة العربية ظهروا فى أماكن بعيدة جدا عن هذه المراكز، ولكن طريقة بسيطة شاعت فى الثقافة العربية كانت تعيد التوازن بين المركز المستقطب للعبقريات وبين المدن المنجبة لها؛إذ نجد تسميات العلماء تحمل نظام اعتراف عميق الاشتغال بعيد الأثر: النيسابورى- البخارى- الشنتمرى- الصقلى- الطوسى- القالى – القلقشندى- الدمشقى- الغرناطى- اللإشبيلى- القرطاجنى- المسيلى- الشريشى- الكوفى- الكاشانى- الديلمى- الخاقاني- الفيروزآبادى- الشنترينى- الدينورى- ... أما ما نراه اليوم فسيئ من باب أنه صار يتلاعب بالحقائق وبسلم القيم، وذلك بسبب أن بواعثه السياسة أقوى بكثير من أى باعث آخر...


لقد لاحظت منذ سنتين -على هامش منح الفيلم الكورى البديع Parasite عدة جوائز أوسكار- كيف أن الرئيس ساعتها دونالد ترمب قد عبر عن امتعاضه بتغريدة معادية لكوريا طبعا مفادها أنه لم يكن ينقصهم إلا أن يحصلوا على الأوسكار فى ديارنا... وكان رد المؤسسة(أكاديمية السينما) واضحا فى الدفاع عن القيمة الإبداعية للعمل السنيمائى وتفوقه على باقى الأفلام بمعزل عن أرض صناعته أو جنسية صانعيه...


أعتقده درسا جيدا للمشرفين على كثير من المنابر والجوائز فى البلاد العربية (وفى الخليج تحديدا، وبدون تحديد لا منبر ولا جائزة، لأن هذا ليس هو الهدف من مداخلتنا)...
هنالك محاولات سياسية عربية حديثة متنوعة لأجل تشكيل قطبية ما من تلك القطبيات المأسوف عليها التى كانت على ايام الحركات التحررية، والجو اليوطوبى المشبع بتعظيم موقع الثقافة فى بلداننا ومجتمعاتنا، كردّ سياسى وإيديولوجى على الصورة البائسة التى اجترحها الاستعمار، والتى سنكون نحن المستعمرين،بمقتضاها، جهلة مجبولين على الهمجية ... إلا أنها محاولات مورطة مع أشكال غير نظيفة للممارسة السياسية للأسف الشديد؛ أشكال يغلب عليها أن تكون مستنسخات للفساد السياسى الذى هو فساد عقلى طبعا... وهذا ما يفسر بؤس المشهد.


 من المؤسف ما نراه من نشأة شوفينيات تصل إلى حد السماجة وتحدى أبسط الأصول التى لا يخطئ فيها صبى، فما بالك والشخصيات البارزة التى تلمع على أعلى هرم الجوائز (وهو هرم أراه يتقلص بسرعة كبيرة للأسف الشديد)... من المؤسف أن نقرأ على لائحة الفائزين فى إحدى الجوائز مجموعة أسماء من بلد نعلم جميعا ويقينا أنه البلد المهيمن على لجنة الترشيحات، ولا أحد يتكلم فى ذلك أو يدين السلوك بأنه سلوك يضحى بقيمتين إذا انتفتا انتفى كل شىء: الموضوعية المتجردة فى إصدار الأحكام والتعامل النبيل مع العالم والأشياء... أشياء مثل هذه أصبحت طبيعية للأسف الشديد.


بالمقابل أريد الوقوف على نقطتين يحركهما سؤالان: كيف كانت حال الأدب العربى قيل انتشار هوس الجوائز هذا؟
ثم... ما هى المعايير الغائبة/المغيّبة حينما يحضر المعيار الذى يجعل كل تفكير فى هرمية ما داخل عالم الأدب ناتجا بالضرورة عن هرمية تعود أصولها المباشرة إلى لوائح الجوائز عالية المكافآت؟


أعتقد أن هنالك خطأ عميقا يتفق الجميع على ارتكابه، وهو خطأ تغليب السياسي/ الدبلوماسى على الثقافى والإبداعى والفكرى... وقد يتساءل القارئ: ما دخل الدبلوماسى فى كل هذه الشؤون المتعلقة بالكُتاب والكُتُب؟ الإجابة هى أن الكتاب الكبار فى بلدانهم سريعا ما يتحولون إلى لعب دور دبلوماسى لا مهرب لهم منه. الكاتب الشهير أو الحاصل على جائزة أو الذى يتحول إلى وجه إعلامى يصبح سفيرا لثقافة بلده (ولسياستها، كيفما كانت، وحيثما مالت رياحها)...

وهو يصبح كذلك بقوة الأشياء، وبموافقة وتواطؤ منه؛ وهذه نقطة هامة علينا أن نقولها ونحن نتذكر موقف برتراند راسل ذات حرب عالمية أولى حينما قررت بلاده التصويت فى البرلمان على الدخول فى الحرب، فكتب هو مقالتين ضد قرار الحرب؛ وهما مقالتان لهما معنى واحد: دخوله السجن لمعارضته ما صار قانونا بعد التصويت...

وجميل جدا أنه حينما سئل لاحقا عن سبب فعله ذلك، قال: كنت أريد أن تعلم الأزمنة الآتية أنه فى وقت عمّ فيه الجنون الجميع، كان هنالك فى هذه البلاد الطيبة رجل عاقل حافظ على سلامة عقله.


لقد كان الكتاب إلى غاية الأمس القريب رجالا محترمين يفكرون بنبل وترفّع، قد نخالفهم الرأى ولكننا لا نستطيع ألا نحترمهم، كانوا كبارا فى السن والعقل، لهم آراء تعارض آراء أخرى، كانوا يفرضون أسماءهم بجمال ما يكتبونه وقوته.

وكان أجمل ما لدى الواحد هو استمرار مشروعه أو تحولاته المنطقية أو الموصوفة المعلومة، ومآلاته العديدة حسب الظروف والمستجدات والمعطيات التاريخية أو الشخصية المعلومة... 


أما اليوم فالكاتب لديه كتابان وجائزة عربية أو عالمية التسمية، ثم تراه يحمل رسالة سياسية يزوده بها مرسلوه فى سفر، أو مستقبلوه فى فندق أو سفارة؛ رسالة الغالب أنه لا يفهم منه إلا نتفا صغيرة قبل أن ينعزل فى البار مع بعض الغامضات والغامضين الذين يقضون وقتا طويلا فى تضخيم ذاته المتناهية فى الصغر، والتى يعلم الجميع صغرها وحداثة سن كل شىء فيها...


شراء الذمم صار قانونا نبتسم له صامتين وهذه كارثة حقيقية.
الدور الأكبر فى علاج هذا الوضع يعود إلى الميديا أولا ثم إلى العملاق النائم: الجامعة.
علينا – كما يقول الفلاسفة- أن نغمر العالم من حولنا بالتفكير النظرى فى الأشياء... تفكير هدفه الإجابة على الأسئلة التالية: ما دور الثقافة فى العالم الذى نحلم به حينا ونشارك فى صنعه؟ هل الكاتب هو اسم ملحق بجائزة؟ ومن هذا الذى يقف خلف الجائزة؟ ثم من تراه ذلك الذى يقف خلف من يقف خلف الجائزة؟ 


أعتقد أن الواجب هو اتباع سياسة نشطة وعميقة هدفها فضح الحقائق الصغيرة الكثيرة حول هذه النزعة الشوفينية ومخرجاتها البائسة، وحول الدور السيئ للجوائز فى كل ذلك... حقائق صغيرة وكثيرة تبدو دائما فى حجم ألياف لا ترقى إلى تشكيل حبل قوى، ولكنها ألياف تنتهى بأن يلتف بعضها حول بعض فى بنيان قوى جدا اسمه: الحبل القوى للحقيقة الساطعة.

اقرأ ايضا | عثمان الشيخ يكتب: حينما لا يغدو الأدبُ أدباً