حبيبة جمال
ماء النار تلك المادة الحارقة التي تذيب المعادن، صارت سلاحًا يستخدمه الخارجون على القانون كوسيلة للانتقام؛ بسكبها على الضحايا والأبرياء خلال المشاجرات أو حتى بالتهديد باستخدامها لترويع الضحية، ولما لا وهي سائل سهل شراؤها من المحال التجارية التي تبيع البويات وأدوات البناء المختلفة ولا يخلو شارع أو حارة من محل يبيع مثل هذه الأشياء، بجنيهات قليلة؛ الأمر الذي يتطلب معه سرعة سن قوانين تحظر منع الحصول على تلك المواد الخطرة دون تراخيص، ووضع عقوبة رادعة لاستخدام «ماء النار» فى غير أغراضه، وكما في الحالة التي بين أيدينا هذه وكان الضحية شاب لا ناقة له ولاجمل في المشاجرة التي وقعت في شارعه إلا أن تدخل لتهدئة الأمور؛ فناله ما ناله من تشويه وجهه وضياع عينه، وإلى تفاصيل المأساة.
عرف الشقاء منذ صغره، اعتاد أن يساعد أسرته البسيطة، فهو عائلهم الوحيد بعد مرض والده، ذات يوم حلم بغد أفضل، لكن ذلك الغد أصبح مجهولا ومظلمًا، وأصبح ليله كنهاره، بعدما حرم من نعمة البصر وبهجة الحياة على يد من لا يستحق الحياة، على يد شخص ملأ الحقد والكره قلبه، وطغى الانتقام عليه، فأفقده بصره وشوه وجهه دون أي ذنب اقترفه سوى شهامته ورجولته ودفاعه عن شخص ضعيف إذا كنا سنعتبر ذلك ذنبًا يستحق عليه العقاب.
محمد عبدالله، هو بطل القصة، شاب يبلغ من العمر ١٨ عامًا، يعيش مع أسرته الصغيرة المكونة من أب وأم وشقيقين داخل بيت بسيط بمنطقة بشتيل، بمحافظة الجيزة، بيت تملؤه الطيبة والمودة، هو الابن الكبير لتلك الأسرة، منذ أن فتح عينه على الدنيا، وهو يعرف معنى الشقاء، لم يكن كغيره من الأطفال الذين يحبون اللعب واللهو، وإنما قرر محمد أن يرتدي عباءة المسئولية منذ صغره، والخروج للعمل لمساعدة والده، فعمل مع خاله في ورشة الميكانيكا، محبوب من الجميع، يتميز بالطيبة، رباه والده على الشهامة والرجولة وحب الخير، لم يعلم محمد أنهما سيكونان سببا في فقدان بصره وتشويه جسده وهو في ريعان شبابه.
مشاجرة
منذ أكثر من عشرة أشهر، حدثت مشاجرة بين اثنين من جيران محمد، ونتيجة ما تربى عليه لم يتردد في النزول من بيته لفض تلك المشاجرة وإنهاء الخلافات بين الطرفين، بذل مجهودًا كبيرا لإنهاء تلك المشكلة لكنه فشل في ذلك، فكان أحد الطرفين والذي يدعى أحمد، يحمل سلاحا أبيض ويعتدي بالضرب على الطرف الثاني، وفي محاولة من محمد لأخذها منه أصاب أحمد في كتفه، لتصبح المشاجرة مع محمد، وهولم يكن طرفًا من البداية، ولم يكن قاصدًا أن يؤذي أحدًا، فتدخل الأهالي وفضوا تلك المشاجرة، وتم عمل محضر ضد محمد الذي لا ناقة له ولا جمل فيها، حاولت أسرة محمد أن يقنعوا الطرف الثاني بالتنازل عن القضية والصلح، وبعد محاولات منهم، وافقوا على التنازل مقابل المال، فدفعت أسرة محمد، واعتقدوا أن الأمر انتهى، وسوف تسير حياتهم كما كانوا، لكن الطرف الثاني ملأ الحقد قلبه، فطغى الانتقام عليه، وكان يعد الأيام والليالي للأخذ بالثأر، ورغم مرور شهور إلا أنه مازال يفكر في الانتقام بأي شكل كان، حتى أتيحت له الفرصة، وسيطر على عقله الشيطان.
يوم الواقعة
استيقظ محمد مبكرًا كعادته، وخرج للعمل داخل الورشة، انهمك في سيارة يعمل على تصليحها، وبعد يوم شاق ومتعب، عاد محمد لبيته ليستريح قليلا، ثم قرر النزول مرة أخرى لشراء جبن من السوبر ماركت، وأثناء ذهابه للمتجر،لاحظ وقوف أحمد بالقرب من المتجر، ولكن لم يحدث حتى ما يدعو للحديث معًا، وفي طريق محمد للعودة نادى عليه أحمد ووقف معه يتحدث في أقل من دقيقة، وفي لحظة غيب فيها الشيطان عقل الجاني، ألقى عليه مياة نار وتركه يصارع الألم ويصرخ بعلو صوته وفر الجاني هاربًا، كل هذا رصدته كاميرات المراقبة الموجودة بالشارع، استيقظ الأهالي مفزوعين من الصوت، فخرجوا مسرعين وكانت الصدمة التي عقدت ألسنتهم من الدهشة، محمد الشاب المحبوب ملقى على الأرض وجسده مشوه تماما، نقلوه سريعًا الى مستشفى قصر العيني ظل بها عدة أيام، ليبلغ الأطباء والدته بأن الابن فقد بصره، نتيجة مياه النار التي أتلفت قرنية عينه والشبكية تمامًا، كما إن هناك حروقًا من الدرجة الثالثة في صدره وذراعيه، بذل الأطباء قصارى جهدهم في محاولة إنقاذه وترقيع جزء من جسده، وفي نفس الوقت كانت الأم في حالة يرثى لها، تجلس على باب غرفته تبكي بدموع عينيها، ترفع يديها للسماء وتدعو أن يشفى نجلها ويعود كما كان.
خرج محمد من المستشفى وعاد لبيت أسرته، وظل في الفراش لا يقوى على الحركة، تساعده والدته أثناء دخوله الحمام، تركت عملها لتكون بجانبه، فشقيقاه ما زالا صغيرين لا يقويان على مساعدته، ووالده مريض ،أصبح ليله كنهاره بسبب شخص معدوم الضمير، شخص بلا أخلاق أو نخوة، سلبه حياته وبصره، وكل ذلك لشهامته، وحرم أسرته من عائلهم الوحيد، تركهم في عذاب ليل ونهار.
زرع قرنية
تواصلنا مع والدة محمد وقصت علينا القصة كاملة كما سردناها، قالت: «عشنا عمرنا كله لتربية محمد على الشهامة والرجولة، ولكن دفع الثمن غاليًا من حياته، كان سندنا أنا ووالده في الحياة، العكاز الذي من غيره أصبحنا لا نقوى على الحركة، لم يكن له أي عداوات مع أحد، عشنا طول عمرنا نتجنب المشاكل والخلافات، حتى جاءت تلك المشكلة التي لم نكن طرفًا فيها من الأساس، ورغم الصلح ودفع الأموال إلا أنهم كانوا يفكرون في الانتقام حتى حدث ما لم نكن نتوقعه».
وبنبرة صوت حزينة ودموع تملأ العينين، قالت: «محمد طول عمره يجري على أكل عيشه بالحلال، كان يساعدنا في مصاريف البيت خاصة بعد مرض والده، كان هو الراعي والسند لنا بعد ربنا، الآن أصبح عاجزًا بعدما فقد بصره، ويحتاج لزرع قرنية وعملية في العين غير عمليات التجميل لجسده الذي أصبح مشوهًا، أمنيتنا بسيطة لكن ظروفنا صعبة لا نستطيع تحمل تلك التكاليف».
بعد هروب المتهم، تمكن رجال المباحث من تحديد مكانه، وتمكن كل من النقيب وليد كمال، وإبراهيم فاروق، وعبد الحميد مرسي معاوني مباحث قسم شرطة أوسيم من إلقاء القبض عليه، وتولت النيابة التحقيق.
وقالت والدة محمد: «تم استدعاء محمد في النيابة لأخذ أقواله في تلك الواقعة، فأخذته لهناك وحكى لرئيس النيابة عن التفاصيل المؤلمة من البداية وحتى تلك اللحظة، وتسلمت النيابة تقرير مستشفى قصر العيني عن حالة محمد، والفيديو الخاص بلحظة إلقاء مية النار عليه، وأصبحنا ننتظر القصاص العادل وعودة حق ابني».
واختتمت الأم حديثها بمناشدة وزير التعليم العالي والبحث العلمي والقائم بأعمال وزير الصحة الدكتور خالد عبد الغفاربتبني حالة محمد والنظرإليهم بعين الرأفة والرحمة ومساعدتهم حتى يعود له بصره من جديد ويعودوا لحياتهم الهادئة.
تغليظ العقوبة
مياه النار، أداة جريمة لا تكلف الجاني سوى بضع جنيهات ليلقيها على ضحيته بغرض الانتقام وتكون النتيجة آثار لا تزول بمرور الوقت، ولكي نعرف هل هناك قانون يجرم استخدام مياه النار أو ما هي العقوبة، كان علينا التواصل مع محمد كساب المحامي، فقال: «القانون لا يوجد فيه توصيف محدد أو تجريم لماء النار، وإنما تندرج تحت تهمة الشروع في القتل او إحداث عاهة مستديمة»
وفيما يخص العقوبة، قال: «المادتين 240، 241 من قانون العقوبات تنصان على أن كل من أحدث بغيره جرحًا أو ضربة نشأ عنها قطع أو انفصال عضو وفقد منفعته أو نشأ عنه كف البصر أو فقد إحدى العينين أو نشأ عنه أى عاهة مستديمة يستحيل درؤها يعاقب بالسجن من ثلاث سنوات إلى 5 سنوات.
أما إذا كان الضرب أو الجرح صادرًا عن سبق إصرار أو ترصد فيحكم بالسجن المشدد من ثلاث سنوات إلى 10 سنوات، أما في حالة انصراف نية الجاني لقتل المجني عليه وخاب قصد الجاني لسبب لا إرادة له فيه يكون القيد والوصف للجريمة هو الشروع في القتل وتصل عقوبته للمؤبد».
ويرى كساب أنه لابد من تعديل قانون العقوبات وتغليظ العقوبة وتقنين استخدام مياه النار حتى لا تكون مباحة في أيدي الجميع.