عبدالنبي النديم يكتب: صاحبة الجلالة.. «مريضة»

عبدالنبي النديم
عبدالنبي النديم

امتطينا جواد الخيال، وتركنا لطموحنا الحبل على الغارب، وتركنا أحلامنا تناطح السحاب، وتسمو بنا إلى السماء، وطلت رؤوسنا فوق النجوم.. ولما لا وقد رسمنا خطوط للمستقبل البعيد ونحن على أول درجات سلم نطرق باب «صاحبة الجلالة».. ملاذ المواطن وعين الحقيقة وسوط العقاب لمن يحاول الخروج عن الصف، ويشق نسيج وحدة الوطن، ناقلة الحق ورمز الحقيقة، أبناءها أصحاب القلم، طريقهم الأمانة ونهجهم الحرية فهم نبراس وعين المواطن، والناصح الآمين للسلطة، وجسر التواصل بينهما..
ولكن لكل جواد كبوة، ولكل فارس استراحة، فخلال السنوات الماضية، والتي تعد مرحلة انتقالية صعبة، ومخاض عسير، ومعاناة مستمرة أصابت «صاحبة الجلالة» بالأمراض الإجتماعية، حتى أصبح أبناء المهنة بين رحا المسئولية التى يحملونها تجاه الشعب المصري، وصعوبة المعيشة والوضع الإقتصادي الصعب، فالسواد الأعظم من أبناء مهنة «البحث عن المتاعب» يرضخون تحت نيرها، حتى أصابتهم أمراض المهنة، ولا أقصد الأمراض العضوية التى تصيب الجسد مثل الضغط والسكر والقلب.. وغيرها من الأمراض المنتشرة بين الصحفيين، والتي يعاني منها الكثير من أبناء المهنة، إضافة إلى التوتر والقلق المتربط بمهنة أصحاب القلم، ولكن ما أقصده هنا هى الأمراض الإجتماعية، التى وضعت أبناء صاحبة الجلالة فى حيرة وصراع بين ضميرهم المهنى وإخلاصه لمهنته، وضيق ذات اليد وغلاء المعيشة، التى دفعتهم دفعا إلى الهروب سرا إلى مهن لم يكن يتخيل يوما أن يكون من أهلها، التي قد يكون قانون تنظيم الإعلام والصحافة يحرم عليهم إمتهانها...
فلا أتعجب إذا مررت بمحطة بنزين فأجد زميل بجوار ماكينة تموين السيارات ممسكا بمسدس البنزين، كعامل عادي بالمحطة، ولا تصاب بالدهشة عندما تطلب سيارة عن طريق الأبلكيشن لتجد سائق السيارة عضوا بنقابة الصحفيين. 
ومنهم من ترك المهنة من أجل عيون شركات العلاقات العامة، التى أصبحت تدير الصحافة برأس مالها، ومنهم من قام بعمل موقع إلكتروني إخبارى خاص به لجلب الإعلانات، التى حرم على الصحفيين العمل على جلبها.. ولا أتعجب أن يوما رأيت صحفيا يقف فى الشارع ينادى على السيارات بالشارع ، ممتهن مهنة سايس أو حتى ميكانيكى أو سمكري سيارات أو بائع فى محل أو مكتبة أو جرسون في مطعم .. أو .. أو .. فعلا هذا ما آل إليه السواد الأعظم من أبناء مهنة «البحث عن المتاعب».
والمتاعب المقصود بها هنا ليست متاعب لقمة العيش التي يرضخ تجت نيرها الصحفيين ..ولكن البحث عن المتاعب لكشف الحقيقة أمام المجتمع والرأي العام، فالصحفي في السابق لا يحمل هم توفير ما يكفيه من أموال توفر له حياة كريمة، فراتبه كان يكفيه ويفيض، للعيش فى مستوى معيشي يكاد يكون فى طبقات المجتمع العليا، أما الآن فالصحفى في حاجة لمبادرة «حياة كريمة» أو «مشروع تكافل وكرامة» حتى يستطيع مواجهة غلاء المعيشة وإرتفاع الأسعار، التي تحولت إلى وحش مع الأزمات العالمية المتلاحقة، والتى تؤثر على كل العالم، فالصحفي أصبح في مهب الريح، تتلاطمة أمواج المعاناة في مختلف مناحي الحياة، وأصبحت المهنة طاردة وليست جاذبة لأبنائها، ولم تصبح مركزا اجتماعيا مرقوما لم يعد يشار إليها بالبنان، بل أصبحت تثير الشفقة على أهلها.

فالآن الصحافة لا تطعم خبزاً.. ولا تستر عورة.. ولا تنصف أبنائها، وفي حاجة ملحة وشديدة إلى نظره ممن يحنو عليهم، فالصحفيين يعانون من توفير نفقات علاجهم، ومدارس لأبنائهم، أو حتى توفير سكن مناسب وملائم لمكانتهم في المجتمع، ولا نقول حتى المأكل والمشرب لأسرته.. حتى أصبح الصحفيين عرضه للأزمات المتتالية، ولن أنسي زميل توفي بشقته ولم يجد من يقوم بتكريمه ودفنه، ومن يختبره الله بالمرض فيسعى الجميع إلى التواصل مع المسئولين بالهيئة الوطنية للصحافة ومجلس الوزارء لتوفير سرير فى رعاية مركزة، أو إجراء جراحة على نفقة الدولة، أو يقوم بعض الزملاء بجمع نفقات علاج لزميل لم تسعفه مهنته فى توفير وتدبير حق العلاج، فما بالك لو أن هذا الزميل أصيب أحد أفراد أسرته بالمرض فله الله. 
الأمر لم يقف فقط عند الصحفيين العاملين بمختلف أنواع الصحف، قومية أو حزبية أو خاصة، ولكن طال البحث عن لقمة العيش وتوفير العلاج الكثير من كبار الصحفيين، الذين خرجوا للمعاش أو أغلقت صحفهم، دون أن يجدوا أي دعم أو مساندة، اضطر أحدهم إلى اللجوء لبيع أكياس بلاستيكية لإطعام أبنائه، وآخر طلب مساعدات من الزملاء لاستكمال سعر الأدوية، حيث لا يكفي بدل التدريب الذي يحصل عليه من النقابة للوفاء باحتياجاته.
فمهنة «صاحبة الجلالة» وصلت بالصحفيين إلى درجة من المهانة والإستهانة بهم، يتطاول فيها بعض المصادر وبعض رؤساء شركات القطاع العام على الصحفيين، خاصة الشركات التى يتحصل رؤساءها على رواتبهم بالدولار، الذين يشككون في نزاهة بعض الصحفيين، متهمينهم ببيع أقلامهم، وأنهم يكتبون لمن يدفع لهم. 
نداء عاجل للمسئولين عن الصحفيين.. صاحبة الجلالة «مريضة»، وكل من هب ودب يتطاول عليها دون عقاب، وأبنائها مشغولون فى توفير لقمة العيش، حتى أصبحت المهنة مُستباحة، وبات الصحفيون في مؤخرة الصفوف، يحتاجون إلى إجراءات عاجلة لتصحيح المسار، في وقت تشهد فيه المهنة تحولات جذرية في أدواتها، وتحول الصحافة الورقية إلى إلكترونية. 
ولكن هناك بارقة أمل لاحت في الأفق لتعديل وضع الصحفيين الإجتماعي، فالوقت متاح لكل المؤسسات الرسمية المسئولة عن الصحافة المصرية خاصة نقابة الصحفيين والهيئة الوطنية للصحافة والمجلس الأعلى للإعلام، بعد إطلاق الرئيس عبدالفتاح السيسي الحوار الوطنى بين كافة مؤسسات الدولة، لعرض ما تمر به المهنة من صعوبات تؤثر على أداءها لدورها المنوط بها أمام الرأى العام المصري، والعمل على طرح كافة السبل والأدوات التى تحقق توفير الحياة الكريمة للصحفيين، حتى يستطيعوا القيام بمهام مهنتهم المقدسة تجاه الشعب، فلا بد من تكاتف الجميع حتى يكون للصحافة دورها وحقها خلال الحوار الوطني، وانتشالها من عثرتها، واستعادة رونقها التى فقدت بريقه، وعلاج آلآمها من الأمراض التى أصابتها، ورفع المعاناة عن أبنائها.