عبد الهادي عباس يكتب: الزواج "قد" يكون ضاراً جداً بالصحة!

عبد الهادي عباس
عبد الهادي عباس

في صباي كنت أتخيل أنهار الأُنس والدلال التي ستغمر روحي بعد الزواج؛ كنت أعيش في الوهم اللذيذ حين يسرح خيالي في زوجتي المستقبلية الآتية من الجنة وهي تطعمني بيديها، وتقرأ لي أشعار مجنون ليلى وكُثير عزة وعمر بن أبي ربيعة، وأمثالهم من سلاطين الحب العذري؛ كانت سفينة تيتانك تُبحر في قلوبنا قبل أن تبحر إلى المحيط، نشتري ملصقات "جاك" وهو يحضن "روز" حين تفرد جناحيها أعلى مقدمة السفينة، ونغضب من القدر الذي قرر التفريق الأبدي بينهما؛ ونشتري ديوان فاروق جويدة "في عينيك عنواني" من مكتبات الجامعة بثلاثة جنيهات، لنحفظه كاملا في ساعتين لا أكثر!
كانت هذه هي حياتي "المعلنة" وحياة المجايلين لي في فترات الجامعة وما قبلها، ولن تختلف كثيرا حياة من قبلنا ولا من بعدنا، فخطوط الطول والعرض واحدة، إلا من تأثيرات الفوارق الاجتماعية الطفيفة.. أما الآن فكما التحذير المشدد على علب السجائر بأن التدخين ضار جدا بالصحة ويُسبب الوفاة ويُصيب بالأمراض الفتاكة ومنها السرطان، يجب أن نكتب على وثيقة الزواج المميكنة بأن الزواج ضار جدا بالصحة العامة؛ صحيح أنه قد يكون دواء لأوجاع جسدية كثيرة، ولكنه الدواء الذي كان مدار فيلم "حياة أو موت" لعماد حمدي ويوسف وهبي، ذلك الدواء الذي "به سم قاتل"!
كنت دائما أصادق نوارس الزواج وأهرب من غربانه السود الكوالح، بل وأقف على منبر النصح ملتحفا مخزوني الديني لأعظ أصدقائي العزاب بأن الزواج علاج وفطرة التلاقي والاندماج، فيضحك مني الأول ويقول إنه سجن اختياري وأعوذ بالله من السجن؛ ويقول الثاني ساخرا إنني مؤيد للرأي القائل بأنه لا داعي لشراء البقرة إن كنتُ أشرب كل يوم كوبا من الحليب؛ أما الثالث فيرد بفلسفة الوجودية ويقول إنه يحب أن يذهب من هذه الدنيا خفيفا كما جاءها، لا ظالما ولا مظلوما، لا عليه ولا له!
قد تبدو هذه الردود وساوس سوداوية لكنها حقيقة واقعة، ندفن رؤوسنا في الرمال إن أنكرناها أو تجاهلنا تأثيرها العميق في مجتمع آسن أصبح يدخل إلى الزواج من شباك المنفعة الشخصية لا باب العلاقة الروحية؛ ولقد كنت أتعجب من زميلتي التي تبحث عن عروسة لأخيها وتشترط أن تكون مدرسة وأن تكون نحيفة وخالية من الأمراض، وغيرها من الشروط وكأنها تشتري بقرة لعيد الأضحى من سوق الأحد؛   ولهذا لا عجب من النتائج المرعبة التي نراها الآن: عزوف جماعي عن الزواج من الجنسين؛ أو انفصال حاقد، سواء بالطلاق السريع بعد عدة أشهر، أو بالطلاق بعد عشرين عاما بعد إنجاب نصف دستة أبناء، أو الحياة بين زوجين "عايشين وخلاص" بالدفع الذاتي من أجل الأبناء.
قانون الأحوال الشخصية الذي يتم طبخه الآن في عدة منصات وطنية لم يكن له أن يتحرك لولا تدخل الرئيس شخصيا، فقد ظل جامدا خامدا ست سنوات كاملة، ورغم هذا فإنه ليس مجرد قانون والسلام، بل هو قانون يجب أن نتحرك فيه بسرعة عاقلة، حتى لا نقع في فخاخ الجور والتعصب، لا للرجل ولا للمرأة، ولا لمشايعة الأفكار الغربية التي لا تتفق مع مجتمعنا ولا أن نتجاهل أيضا ما قد يكون نافعا من تلك القوانين الغربية التي أصبحت أكثر مسايرة للعصر بشرط أن نُشكلها بشكلنا ونطبعها بطابعنا؛ كما أن لدينا أسسًا إسلامية هادية في فقه الزواج والطلاق، ولدى إخوتنا المسيحيين أيضًا دينهم الذي يرتكنون إليه، ولا يحق لأحد أن يلغي أوامر الأديان.
لا يساورني الشك في أننا قادرون على تغيير مستقبلنا بعدما غيرنا بالفعل حاضرنا إلى الأفضل، وإن كانت التغييرات الاجتماعية تتطلب قدرا من الوقت لتستوي على سوقها وتصبح جاهزة للممارسة بعيدا عن اللهوجة والتسرع، وهو ما ستقوم به مؤسساتنا الراسخة بكل ثقة.