يوميات الأخبار

كيف نعيش بروح رمضان

مبروك عطية
مبروك عطية

ومعروف أن الإمام مالكا وأتباعه ما صاموا ستة من شوال إثر رمضان، وذلك لدفع شبهة أن يظن الناس أن رمضان ستة وثلاثون يوما

كنا نسأل من قديم عن سلوك المسلم بعد رمضان، كيف يستمر على عباداته وتطوعه، وحسن خلقه، وتواصله مع رحمه والناس؟ ومازال السؤال قائما إلا أن بريقه لم يكن كما كان، فللسؤال بريق وتوهج إذا ارتفعت فيه درجة الصدق، وقد قلت حرارة رمضان من غير شك نظرا إلى شيوع جرائم القتل فيه، ونظرا إلى الظروف السيئة التى يمر بها المسلمون، ويمر بها العالم كله، واستحالت ثورة النفوس إلى ثورة جدال حول التراويح، وصلاة التهجد، وكأننا نعيش رمضان لأول مرة فى حياتنا، وتولت الدعوة إلى صلاة التهجد فى البيوت خوفا من تفشى الأمراض، وحفاظا على سلامة الجميع إلى حرب من المغرضين الذين ربما لا يكونون يصلونها يقولون: إنها حرب لله ورسوله، وأساء بعضهم إلى الأوقاف وزارة ووزيرا، وإلى الدولة بصفة عامة، وكأننا لا نعرف قاعدة صلاة النوافل فى هذا الدين، وهى أفضلية صلاتها فى البيوت بما فيها التراويح، وقضى رمضان على خير، ولم نر الذين عبروا عن أحزانهم لغلق المساجد عدة أيام يعبرون عن أفراحهم بفتحها، منذ ليلة السابع والعشرين من رمضان إلى صلاة العيد التى تزاحم فيها الناس، الأمر الذى لا يدل إلا على اصطناع معارك، وإثارة قلاقل، ونشر فتن، فالطبيعى لمن أعلن حزنه لمنعه من شىء أن يعلن فرحته إذا أعطيه، أما أن يعلن حزنا ولا يعلن سروراً لزوال السبب المزعوم فهذا أكبر دليل على أنه لم يكن هناك من حزن ولا سرور، ولله عاقبة الأمور.


وعلينا أن نحسن الدين فى رمضان قبل أن نسأل عن كيفية استمرارنا بعده، فسلوك المسلم فى رمضان هو سلوكه بعده إلا أنه فى رمضان يكون أحسن، والدليل على ذلك ما عهد عن النبى صلى الله عليه وسلم، أنه كان أجود الناس، وأكرم الناس، وكان أجود ما يكون فى رمضان، فالنبى صلى الله عليه وسلم كريم فى العام كله إلا أن كرمه يزداد فى رمضان، وقس على خصلة الكرم أوضح ما فيه، وأنبل ما يتحلى به المسلم فضلا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كل خصلة شريفة من النبل المفقود، والتراحم، وسائر ثمرات العبادة، فللعبادة المعروفة من الصلاة والصيام وتلاوة آى الذكر الحكيم ثمرات يمكن تلخيصها فى عبارة غير مخلة هى «تهذيب سلوك العابدين» فى التعامل مع الحياة والناس، وهذا الذى أسميه روح العبادة، فالعبادة تتكون من جسد هو إقامتها على وجهها الشرعى المعروف، ومن روح أى من تهذيبها سلوكه، والناس معظمهم يعرفون العبادة جسدا لا روحا، يصومون، فيمتنعون عن شهوتى البطن والفرج من طلوع الفجر إلى غروب الشمس، لكن يسبون ويلعنون ويشتمون ويضربون ويجرحون وربما يقتلون وهم صائمون بينما التوجيه النبوى الشريف يقول للصائم فإن سابه حد أو شاتمه فليقل: إنى امرؤ صائم، أى لا يرد الإساءة بإساءة، وعدم رد الإساءة بمثلها توجيه ربانى للناس ماداموا أحياء لا ماداموا فى رمضان، قال الله عز وجل: «ادْفَعْ بِالَّتِى هِيَ أَحْسَنُ» ودفعه بالتى هى أحسن منهج حياتى لا منهج رمضانى، وإن كان يتجلى أوضح وأكثر فى رمضان، كما كان كرم النبى صلى الله عليه وسلم يتجلى أكثر فى رمضان، لكنه أكرم الخلق فى سائر الأيام والشهور، وقول الله تعالى فى آخر آية من سورة المزمل: «فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ»، شاملا رمضان وغير رمضان، لم يستثن ربنا تعالى رمضان، وإن كانت زيادة التلاوة فى رمضان سنة مستحبة، والعطف على الفقراء والمساكين واجب فى رمضان وفى غير رمضان إلا أنه أوضح فى رمضان، لكن ماذا لو انقطع ذلك العطف بعد رمضان أنتركهم يموتون جوعا، لم يقل بذلك عالم ولا فقيه، وما التراويح إلا قيام لليل فى رمضان، وما سميت تراويح إلا للراحة التى تكون بين ركعاتها، يستريح مصلوها قليلا ثم يصلون، وقيام الليل على مر السنة، وأقله فى كل ليلة ركعتان، فالمسلم فى غير رمضان يقيم الليل بصلاة أقلها ركعتان ثم ينام ليصبح فى نشاط جديد وقد أوتى طاقة جديدة يستغلها فى عمله الذى يطعم به نفسه وأهله  ومن تجب عليه نفقتهم، وفى الصحيح يقول صلى الله عليه وسلم: على كل مسلم صدقة، فلما قالوا: فإن لم يجد قال: يعمل فينفع نفسه ويتصدق، وظل صلى الله عليه وسلم يذكر صنوفا من عمل الصالحات هى صدقة حتى انتهى إلى قوله: والكلمة الطيبة صدقة، ونحن بدأنا بما انتهى إليه النبى صلى الله عليه وسلم، ولم نحفظ من الحديث الشريف إلا «الكلمة الطيبة صدقة» صارت شعارنا اليتيم كأن النبى صلى الله عليه وسلم لم يقل قبلها شيئا، وقد قال، ونتيجة بدئنا بما انتهى إليه صلى الله عليه وسلم لها خطرها وأثرها الموجع فما تملك الكلمة الطيبة من سد جوعة جائع، ولا من كساء عريان، ولا معالجة مريض، إنما تكون الكلمة الطيبة صدقة العاجز عن التصدق بالمال، أما الغنى فصدقته تكون بالمال الذى آتاه الله تعالى: «وَآتُوهُم مِّن مَّالِ اللَّهِ الَّذِى آتَاكُمْ» لكن أن تكون صدقة الجميع كلمة طيبة فهذا ليس دينا، ولا من العقل والحكمة فى شىء، لأن الحياة بجملتها مجموعة من الفواتير، أى تحتاج إلى من يسدد تلك الفواتير، ولا بأس أن يناول الغنى المال، ويسمعه كلمة طيبة ليجمع بين الحسنيين، فنحن أمام ثلاثة أشياء لا شيئين، وهو ما اسميه الأختيار المهجور، إما أن نتصدق بالمال، أو بالكلمة الطيبة أو بهما معا، والأولى والأحسن أن نتصدق بهما معا، هجرنا نحن التصدق بهما معا، وما حفنا إلا خيارين: التصدق بالمال، والتصدق بالكلمة الطيبة، والشائع والذائع التصدق بالكلمة الطيبة التى لاتسد جوعا ولاتروى ظمأ، ولا تسد دينا ولا صفا إلى المروة أم من المروة إلى الصفا يشترى بها علاج، وجميع ذلك وغيره من حاجات الناس التى لابد أن تقضى، ومادام الله تعالى لا يكلف نفسا إلا وسعها فعلى من لم يجد مالا ألا يحرم نفسه ثواب الكلمة الطيبة، وهذا من أثر ابتدائنا بما انتهى إليه النبى صلى الله عليه وسلم.


لم يقل النبى صلى الله عليه وسلم سيظلكم شهر كريم، وإنما انتظر حتى دخل الشهر، وبكل هدوء وجمال قال أظلكم شهر كريم الأمر الذى علينا أن نتوقف عنده فيما عرف بالاستعداد لرمضان من أول رجب، والسادة المعاصرون من العلماء يقولون لا بأس، ولى بحث فى هذه العبارة موجع، حيث فتحت علينا لا بأس مواويل ما كان أغنانا عنها، حيث توارت لا بأس وحل محلها يجب، فصار واجبا أو شبه واجب أن تكلم الناس فى الاستعداد لرمضان قبل قدومه بأشهر، والاستعداد لرمضان من باب «لا بأس» لا من باب «يجب»، وكذلك الوارد عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا دخل العشر الأواخر شد مئزره وأيقظ أهله، راجع هذه العبارة إذا دخل العشر الأواخر لا قبل دخولها يتكلم عن الاعتكاف، وفضله ومكانته كما نفعل نحن المسلمين، بل إنه حين رأى تزاحم زوجاته فى بناء الأخبية جمع خباء من أجل الاعتكاف قال: آلبر أردتن؟ لن أعتكف، ولم يعتكف صلى الله عليه وسلم فى هذا العام، كم من المسلمين يعرف ذلك،؟ وكم فى المسلمين من يدرك الحكمة فى عدم اعتكافه صلى الله عليه وسلم، إن الأمر هين هين ونحن تحت شعار لا بأس أفسدنا الاحكام الشرعية المعروفة فى علم أصول الفقه، وليس فيها حكم اسمه «لا بأس».


الإمام مالك واتباعه لا يصومون الستة من شوال


ومعروف أن الإمام مالكا وأتباعه ما صاموا ستة من شوال إثر رمضان، وذلك لدفع شبهة أن يظن الناس أن رمضان ستة وثلاثون يوما، وفى كتاب نيل الأوطار للشوكانى يذكر رحمه الله أن أبا بكر وعمر رضى الله عنهما لم يضحيا مدة خلافتهما مع أنهما لم يكونا فقيرين، وذلك حتى لا يظن الناس أن الأضحية واجبة، ومعنى ذلك أن إيهام الناس بفرضية السنة أمر خطير، ولا يعنى ذلك التقليل من شأنها كما هو شأن الذين لا يعلمون، وإنما يعنى أن هذا الدين يقوم على الركن لا على النافلة، والنافلة من عملها حصل على ثوابها، ومن لم يفعلها غير منكر لها أو متكبر عليها لم يؤاخذ على تركيه إياها، وفى الصحيح عن معاوية رضى الله عنه أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: «من يرد الله به خيرا يفقهه فى الدين».


وهذا من فقه الدين، إن من صورنا له النافلة من عزم الامور وما هى من عزم الأمور ربما تقاعس عن أداء الفريضة، وأحس بحسرة فى قلبه نتيجة عدم الفقه فى الدين، حملناه مالا يقوى على أدائه، وكلفناه مالا قدرة له على تحمله ومن دعاء القرآن الكريم، «رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ» إن هذا الدين يسر كله، وقد روى أن الرشيد زار الإمام مالكا واخبره برغبته فى نشر كتابه الموطأ على مستوى الدولة الإسلامية مترامية الأطراف، وحمل الناس جميعا عليه، وهذه الرغبة تسر أى عالم أن ينشر مصنفه فى الدنيا جميعا لكن مالكا أبى ذلك، وقال له: لا تفعل ياأمير المؤمنين، وذكر له العلة فقال: لقد تفرق صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم فى الأمصار، وكل حدث بما سمع، أى أن من الخير أن يختلف الناس مادام لهم مصادر وشواهد وأدلة، وحملهم أجمعين سيؤدى إلى فتنة وقلق واضطراب، ومنع ذلك كله من متن الدين قال الله تعالى: «وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ» وقال جل فى علاه: «وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ» ومن الناس من يصور له شيطانه أن ما عليه هو وجماعته هو الحق، وسائر الناس على خطأ وضلال، وخذ مثالا على ذلك شيوع أن على المسلم أن يختم القرآن كل ثلاثة أيام أو كل أسبوع، فى حين أن الله تعالى يقول: «فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ» فى رمضان وفى غير رمضان كما أشرنا، فارحموا الناس يرحمكم الرحمن ففى الحديث من لم يرحم لا يرحم، ولا تفتوا الناس بغير علم، وعولوا على عزم الامور، وهو ما ينبغى أن يقوم عليه الخطاب الدينى، قال تعالى: «يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ» ومن يتصحف القرآن الكريم يجد خمسه عبادة، وأربعة أخماسه معاملة من البر بالوالدين والإحسان إلى الجيران وقول الحسن للناس وأداء الأمانة إلى أهلها، والرحمة والتراحم والعطف على اليتيم والأمر بالصدقات وغيرها.