« سِفْر الأحلام ».. بين التمرد والجدلية

« سِفْر الأحلام »..  بين التمرد والجدلية
« سِفْر الأحلام ».. بين التمرد والجدلية

بقلم : د. طارق عبد العزيز
المعرض يسبح في عالم خاص من التخيل والتأمل دون قيود، مثل الحلم الذي يراه الإنسان في كثير من الأحيان دون نهاية واضحة المعالم، لكنه غالبًا يتذكر بدايته

لا شك أن الفنان بموهبته التي حباها الله له يفوق أى إنسان آخر في قدرته على استيعاب الكثير من المؤثرات الخارجية التي تنعكس على شخصيته سواء بالسلب أو بالإيجاب، وهو عادة ما يترجم هذه المؤثرات بصورة أو بأخرى في أعماله، وهذه المؤثرات قد تشمل التجارب الحياتية التي مر بها الفنان طوال مسيرته، إضافة إلى المواقف والمفردات التي ساعدت في تشكيل وجدانه الفني، فهناك من تجذبنا أعماله حيث الأسلوب والتكوين، وربما الخطوط والمساحات، وهناك آخرون يهتمون أكثر باللون ودلالاته، مع مراعاة باقي أركان العمل، ولكن في حدود ضيقة.

وقبل الخوض فى أعمال الفنان زكريا أحمد» الفنية نتعرف أولًا على سيرته الذاتية، فهو فنان أكاديمي مصري – من مواليد عام 1958 -  يعمل أستاذًا متفرغًا بقسم التصوير بكلية الفنون الجميلة - جامعة المنيا، بعد أن كان وكيلًا للكلية لشئون البيئة، أقام العديد من المعارض في مدن إيطالية مثل «روما – نوتونو – ميلانو – فينياتا – فينسيا – فلورنسا» ..، وفي مدن أمريكية مثل «نيوجيرسي – نيويورك – كاليفورنيا»، بخلاف معارضه في أسبانيا «مدريد»، النمسا «فينا» ، انجلترا «لندن»، فرنسا «باريس - كان – مونتكارلو» ... إضافة إلى عدة معارض جماعية وفردية فى مصر، وقد استطاع بموهبته حصد العديد من الجوائز وشهادات التقدير أهمها: الجائزة الكبرى في معرض «باربريني» بروما، وجائزة صالون الشباب الرابع.


وبتأمل أعماله أجد أول ما يجذبني في لوحاته.. اللون وكيف اختاره بعناية فطرية، ثم عالمه الخاص الملىء بالشجون والخيال، وبراعته في تجسيد رؤيته بهذه الكيفية والمصداقية مع مراعاة الشكل والحركة في المجالين الروحي والمادي، وكل من هذه العناصر يحمل عنده دلالة ومعنى خاصًّا، فالفن مجموعة خبرات لحياة الفنان الجمالية والعقلية والاجتماعية، ثم يأتي بعد ذلك الإحساس والتفاعل من خلال تلك المؤثرات، وينعكس كل هذا بوضوح في إنتاجه الفني.


سِفْر الأحلام
ونحن نطالع آخر تجارب الفنان من خلال معرضه الشخصي الذى أقيم، بقاعة «صلاح طاهر» بساحة الأوبرا فى الفترة من 7-12 مايو 2022، تحت عنوان يأخذنا إلى عالم مفعم بالغموض والتأمل والخيال.. «سِفْر الأحلام»... 

المعرض يسبح في عالم خاص من التخيل والتأمل دون قيود، مثل الحلم الذي يراه الإنسان فى كثير من الأحيان دون نهاية واضحة المعالم، لكنه غالبًا يتذكر بدايته. 
وبتأمل أعماله فى هذا المعرض، نجده قد اهتم بتجسيد تخيلاته عن عالم الإنسان الأول منذ بدء الخليقة وكيف تطورت نشأته ومعيشته مرورًا بالمؤثرات الخارجية حتى وقتنا الحالي، مستخدمًا في ذلك الرموز الشعبية والفرعونية والأساطير التي تسبح بنا في عالم وتعبيرات بصرية أشبه بالخيال والتمرد والغموض، عالم لا يبوح بأسراره لأحد، فهناك وجوه تعلوها الابتسامة لكنها حزينة، ووجوه في قمة تركيزها لكنها شاردة.


وكعادة الفنان في مجمل أعماله يستلهم عناصره من الطبقات الفقيرة الكادحة متأثرًا بأعمال الفنان عبد الهادي الجزار الذي تميزت أعماله بالغموض والوطنية وتحويل الاتجاهات الأكاديمية إلى اتجاهات حديثة بأسلوب سيريالي.


عالمٌ آخر
تتحرك العناصر في لوحات «سِفْر الأحلام» وتتعدد الخطوط بأشكالها وألوانها ودلالاتها لتأخذنا في رحلة أو حلم من أحلامه الغامضة اللانهائية بين السماء والأرض.. بين الحقيقة والخيال، تشعر معها وكأنك في عالم آخر.. عالم يحتوى على عناصر ثلاثة «الماضي والحاضر والمستقبل»، والغريب أن كل عنصر من عناصر «سفر الأحلام» بألوانه المتداخلة والصريحة يضيف عمقًا جديدًا ببصمة ونكهة مختلفة يجعلك تشعر بأن تلك العناصر توشك على التحرك والحوار الصامت وربما أحيانًا الانهيار، وهذا يفسر لنا عشق الفنان للتراث المصرى القديم والبيئة الشعبية واستلهاماته منهما تفصيلات وقراءات عديدة خلقت تجانسًا فى العمل الفنى.


رأيت فى أعماله المُولد بأجوائه الشعبية المزدحمة والصخب الصادر من مريديه، لمست الحركة على مسطحات لوحاته والنظرات التأملية لهذا المشهد الدرامى، اسمتعت بالأراجوز وصندوق الدنيا وحكايات من الأساطير الشعبية مثل حكاية أبو زيد الهلالى، وعنترة بن شداد، وسيف بن زى يزن، وقصص من العشق والغرام مثل حسن ونعيمة، وعزيزة ويونس، وقيس وليلى، ومقتطفات من حكاوى ألف ليلة وليلة، ومولد سيدنا الولى.

رحلة الإنسان
شاهدت شريطًا سينمائيًّا يحكى لنا رحلة الإنسان المصرى التى امتدت لآلاف السنين بداية من العصر البدائى مرورًا بالفرعونى واليونانى والرومانى المسيحى والإسلامى.. وحتى الحضارة المعاصرة بكل ما تشمله من قلق وسرعة مضطردة وتكنولوجيا متطورة، وتأثيرات كل هذه العناصر على الفنان سواء بالحزن أو الفرح، ومن ثم ترجمة هذه المعانى بما يتلائم مع شعوره وانطباعه الداخلى وتجسيده لها فى لوحة من لوحات «سِفْر الأحلام»...


وإذا تعمقنا فى ألوان اللوحات ومغزاها نجد أن الفنان استخدم الألوان الزيتية مع التأكيد فى كثير من الأعمال على عدة ملامس خشنة تؤكد على الشحنة التعبيرية والإنسانية التى يبوح بها على مسطح الرسم، ورغم أن فكرة المعرض غامضة خيالية، إلا أن الفنان يسعى بكل ما يملك من طاقة على تقديم رسالة جمالية وإيجابية تساعد على تحمل قسوة الحياة وتقلباتها...


الرزق على الله
على سبيل المثال هناك لوحتان أطلق عليهما الفنان عنوان «الرزق على الله» يود أن يرسل لنا رسالة أن الرزق بيد الخالق، إذ الرزق مجهول بالنسبة لنا، وجاءت مفردات العمل كما رسمها الفنان عبارة عن منضدة كبيرة عليها سمكة، والسمكة هنا كما يصفها رمزًا للخير، ودائمًا هذا الرزق غير معلوم فهو فى قاع البحر، وإذا بحثنا عن رمزية السمك فى الحضارات القديمة سنجد أنه يرمز إلى الخير.


ويكمل الفنان عناصر العمل بالتفاف ثلاثة أشخاص حول المائدة مغمضى العينين وكأنهم فى حلم وصراع من أجل الوصول لهذا الرزق، ورسم فى مواجهة الأشخاص الثلاثة شخصًا رابعًا يكتسى باللون الأخضر قوى البنيان كأنه كاهن أتى من عالم آخر غير معلوم بهدف تحقيق الحلم المنتظر.


تجربة «سِفْر الأحلام» برموزها التى تتراءى بالطريقة الغامضة عند الفنان تعكس انحيازه وخبراته المتراكمة داخل مصر وخارجها لعالمه الخاص بشفراته وحواسه باحثًا عن المفردات البصرية التى يأملها فى التكوين واللون .. تجربة أساسها الوجدان والجمال والطابع الفلسفى رغم دلالاتها المأسوية ..


وقد صدق الفنان الأسبانى بابلو بيكاسو فى مقولته الشهيرة: «كل شىء يمكنك أن تتخيله هو حقيقى بالنسبة لك».

اقرأ أيضا | هواجس على طريق القصيدة