مشاهد تنبض فى ذاكرة مثقوبة| إعادة اكتشاف الوزير الأديب أحمد جمال الدين موسى

مشاهد تنبض فى ذاكرة مثقوبة| إعادة اكتشاف الوزير الأديب أحمد جمال الدين موسى
مشاهد تنبض فى ذاكرة مثقوبة| إعادة اكتشاف الوزير الأديب أحمد جمال الدين موسى

بقلم: د. حسين محمود 

تبدو تيمة الفشل والبحث فى أسبابها من التيمات المفضلة لديه، ففى روايته الأولى نهاية فاشلة لقصة حب رومانسى، وفى روايته الثانية «لقاء فى واحة الحنين» قصة لقاء أصدقاء قدامى يفشل فيها الالتقاء بينهم بل ويتحول إلى صدام، وفى روايته الثالثة «ملك التنشين» فشل ذريع لشاب أوصله طموحه إلى انتهاك الشرعية القانونية والانتحار

يبحث موسى فى جماليات المكان، بدءا من بلدة «المقاطعة» مسقط رأسه، ومرورا بكل المدن التى عاش فيها وعاشها، داخل مصر وفى أوروبا

هل كانت رواية فتاة هايدلبرج وثيقة براءة للشرق العربى والإسلامى من هجمات ١١ سبتمبر على البرجين التوأم فى الولايات المتحدة، أم كانت وثيقة إدانة للغرب فى تدخله السافر المانع للتطور الطبيعى لثورة أبهرت العالم

ينشر الدكتور أحمد جمال الدين موسى حاليا على صفحاته الفيسبوكية حلقات سيرته الذاتية -والتى يبدو ستكون طويلة  بعد أن وصل إلى المشهد 12 من الفصل السابع حتى الأسبوع الأول من شهر مايو 2022- وسوف يستمر فى نشر الحلقات حتى يكتمل العمل، وطبقا للخبرة السابقة له، سوف ينشره بعد ذلك فى كتاب. السيرة الذاتية تحمل عنوان «مشاهد تنبض فى ذاكرة مثقوبة»، أى أنها ذاكرة الأديب لديه تنقط قطرات من المشاهد المتفرقة التى تتداعى بطريقة تدفق الوعى، رغم الترتيب الزمانى الواضح فى تتابع المشاهد. 

هذا النشر على وسائل التواصل الاجتماعى اختيار ذكى من المؤلف، وأتصور أنها الطريقة المثلى- حتى الآن- فى استغلال هذه الوسائل من الناحية الأدبية، وخاصة إذا جاء النشر على حلقات، فهى بداية سلسلة التلقى، من المؤلف إلى القارئ مباشرة، ويتيح للطرفين المشاركة فى التأليف، والتفسير. ولسنا ندرى إن كان المؤلف سوف يستفيد من ردود الأفعال على وسائل التواصل لكى يعدل من الصيغة النهائية لكتابته، أو أنه سيحافظ عند النشر الأخير على الصيغة الأولى، ولكن المؤكد أنه سوف يتلقى، ومن ثم يقيس، مؤشرات التلقى الأولى، وله الحرية بعد ذلك فى التعديل قبل النشر الأخير، باعتباره لا يزال صاحب السلطة الأولى على نصه. 

من العتبات الدالة أيضا فى هذا النص المتوقع أن يكون طويلا، هو أننا لا نزال لم نبرح الجزء الأول، ومن المفترض أن تكون هناك أجزاء تالية، على الأقل جزءان، وأن هذا الجزء اختار له عنوانا تراثيا، وهو «سنوات التكوين»، فى استعارة تناصية من سفر «التكوين» فى التوراة، بدأه بسنوات طفولته الأولى، وفقا لميثاق السيرة الذاتية فى رواية سنوات الطفولة وفقا للكتاب الجميل الذى ترجمه المرحوم طلعت الشايب لتيتز رووكى بعنوان «فى طفولتى: دراسة فى السيرة الذاتية العربية»، والذى يقيس فيه أيضا، بوسائل علمية رصينة، مدى صدقية راوى السيرة الذاتية. 

والحقيقة أن تجربة أحمد جمال الدين موسى الأدبية تستحق أن تجاورها سيرة ذاتية تشرح لنا كيف بدأ نشر تجاربه الأدبية فى مرحلة عمرية متأخرة، كان قبلها أستاذا جامعيا مرموقا، وصل إلى رئاسة جامعة المنصورة، ثم أصبح وزيرا ثلاث مرات، للتعليم والتعليم والعالى، وكانت له إنجازاته العلمية المشهودة فى الحالتين، وتفرغ الآن لمشروعه الأدبى الذى ظل حبيس نفسه وأدراجه حتى آن له أن يظهر للوجود، وإن كان هذا لا ينفى استمرار مشروعه العلمى أستاذا للقانون والاقتصاد. 

والسبب الآخر الدافع وراء كتابته للسيرة الذاتية هى صدقية المؤلف/ الراوى، فقد وقع كثير من قرائه، بما فيهم كاتب هذه السطور، فى خطأ تصورى عند قراءة رواياته الأولى، ودفعهم صدق الراوى/ المؤلف إلى تخيل أن هذه الروايات ليست إلا جزءا من سيرته الذاتية، بينما لم تكن كذلك، أو لم تكن كذلك تماما، حيث أن حياة الكاتب لابد أن تنعكس على مؤلفاته التى تحكى عن رؤيته المنبثقة عن خبراته وتجاربه الحياتية. 

السيرة الذاتية لأحمد جمال الدين موسى، وكذلك رواياته، تدعونا بلا شك إلى إعادة اكتشاف هذه الشخصية الأدبية، التى كانت مختبئة تحت أعباء الالتزام العلمى والعملى لسنوات طويلة حتى آن أوان كشفها وإعلانها على عموم الناس. 

وهكذا نشر موسى أول أعماله عام 2013 بعنوان «فتاة هايدلبرج الأمريكية»، وكان مفاجأة حقيقية للوسط الأدبى، الذى لم يُعرف الوزير السابق أديبا من قبل، وقد أصبح عمره فى ذلك الوقت 62 عاما، وهى لا شك مغامرة، ولكن أستاذ القانون والاقتصاد الكبير استطاع تقدير حسابات هذه المغامرة واستشار من يثق فى رأيهم قبل أن يتورط فى نشر عمل أدبى قد يقلب مجده السابق إلى فضيحة أدبية. ولكن طبقا لما نشر وقتها عن هذه الرواية وعن ظهوره الأول الأدبى، لم تكن رواية «فتاة هايدلبرج» تحمل سمات اضطراب «العمل الأول» لشباب الأدباء، بل كانت عملا أدبيا مكتملا ناضجا، يفصح عن تمرس فى الكتابة وتدريب سابق عليه. والحقيقة أن أحمد جمال الدين كان يكتب دائما، وكان يكتب ولا ينشر، وله قصص قصيرة، وروايات غير طويلة، نشرها لاحقا وعليها تواريخ تعود إلى سبعينيات القرن الماضى، وهى قصص قصيرة فنية راقية المستوى، شكلا وفكرا وأسلوبا. 


تحكى «فتاة هايدلبرج» قصة حب بين أسامة المصرى وماجى الأمريكية، فى مدينة هايدلبرج الألمانية، وهى قصة الحب الفاشلة، لأسباب تتكرر كثيرا فى أعمال موسى اللاحقة، وخاصة فى روايته البديعة «ملك التنشين»، وهى عنصرية الغرب العمياء، والتى لا ترى قيمة المشاعر الإنسانية، وتترك العنان للأفكار المسبقة التى تتكون بفعل وقوة تأثير وسائل الإعلام التى تنجح دائما فى تسييس كل ما ليس سياسيا، وتطبق معايير مزدوجة. الغرب فى هذه الرواية يقبل لنفسه ما لا يقبله لغيره، ويفترض قيما يفرضها على غيره، ويكون هو أول من ينتهكها. 


وتبدو تيمة الفشل والبحث فى أسبابها من التيمات المفضلة لدى أحمد جمال الدين موسى، ففى روايته الأولى نهاية فاشلة لقصة حب رومانسى، وفى روايته الثانية «لقاء فى واحة الحنين» قصة لقاء أصدقاء قدامى يفشل فيها الالتقاء بينهم بل ويتحول إلى صدام، وفى روايته الثالثة «ملك التنشين» فشل ذريع لشاب أوصله طموحه إلى انتهاك الشرعية القانونية والانتحار. وربما، وهذا ما قد يظهر فى سيرته الذاتية، كان لنكسة يونيو تأثير فى ذلك، فقد كان الفشل الذى أصاب نظام «عبد الناصر» وقسوة هزيمة مصر الحبيبة، عميق التأثير فى نفوس هذا الجيل الذين ما فتئوا يبحثون عن أسباب النكسة، ربما حتى اليوم. 



هايدلبرج هى المكان الذى دارت فيه الأحداث، وموسى أثبت براعة فائقة فى وصف المكان فى جميع أعماله، وهو يبحث فى جماليات المكان، بدءا من بلدة «المقاطعة» مسقط رأسه، ومرورا بكل المدن التى عاش فيها وعاشها، داخل مصر وفى أوروبا، وخاصة فى فرنسا، وفى هذه الحالة هايدلبرج الألمانية، وهو ما أخذه عليه الطبيب الشهير عاشق الأدب والثقافة محمد غنيم، فقد أخذ عليه الإغراق فى وصف المكان، وذلك فى عرض نشرته   ديسمبر عام 2014:  «والرواية التى تدور أحداثها فى هايدلبرغ المدينة الألمانية الجميلة، بل الأكثر جمالاً فى ألمانيا [...]، ولكنّ هناك سبباً آخر شجعنى على اقتناء الرواية وقراءتها وهو أننى زرت هذه المدينة وأحببتها، بل إننى قبل أن أزورها سمعت عنها [...] فزرتها وأعجبت بها، وعرفت أنها مدينة ذات بناء يعود إلى الفترة القوطية، وتأتى رواية الكاتب المصرى على هذا الجانب بقدر جيد من التفصيل».


وعن المقال نفسه أنقل – بتصرف - ملخصا لأحداث الرواية، لا يغنى بالطبع عن قراءتها والاستمتاع بها، متعة حقيقية تماثل متعة المؤلف وهو يكتبها. 
تبدأ الرواية والدكتور أسامة فى الطائرة التى تقله، للمرة الأولى فى حياته، إلى نيويورك تلبية لحضور مؤتمر علمى دولى. وكان د. أسامة يحلم لسنوات طويلة بزيارة أميركا والمقارنة بين واقعها وما يسمعه أو يقرؤه عنها، وقد تساءل أكثر من مرة السؤال التالى: هل فعلاً يغلب على معظم الأميركيين سلوك رعاة البقر القائم على العنف والغرور والبحث عن المصلحة الذاتية قبل أى شىء آخر، أم أنهم مثل ماجى التى قابلها وتعلق بها قلبه منذ عقد من الزمان فى أثناء إقامته العابرة فى ألمانيا وكانت تفيض ـ أى ماجى ـ رقة وعذوبة وإنسانية. إنها فتاة رقيقة المشاعر، مثقفة ثقافة ممتازة، وهى تدرس الأدب الألمانى فى جامعة (هايدلبرج)، على غير رغبة والدها الضابط الذى أقام فى (هايدلبرج) لسنوات، بحكم الاحتلال الأمريكى لألمانيا عقب الحرب العالمية الثانية، وهو الاحتلال الذى لا يزال قائما وقانونيا باعتبارها الدولة المهزومة الراضخة لشروط الاستسلام، وأقامت هى أيضاً مع والديها فيها لسنوات، وعادت إليها، بعد أن توفيت أمها بحادث طريق، وبعد أن تزوج والدها من امرأة ثانية، وتظل (ماجى وليامز) على علاقة مع أبيها، تتصل به ويتصل بها، إن تعرضت لأمر ما. فى الطائرة التى تقله إلى نيويورك، يتذكر د. أسامة «فتاة هايدلبرج الأمريكية» وتعرفه إليها وما عاناه، يومها، لا من ماجى، وإنما من ضابط مخابرات أميركى سادى تعامل حتى مع صديقته الأميركية بقسوة ووحشية، مما جعل ماجى التى كانت صديقة لصديقته تنفر منه وتشمئز من سلوكه، ولا ترغب فى إقامة علاقة معه، حين عرض عليها الصداقة، يوم التقيا بعد سنوات من أيام المدرسة التى درسا فيها معاً، وعرفته خلالها. كان د. أسامة، فى أثناء زيارته (هايدلبرج) لبّى دعوة زميله التركى وصديقته الألمانية للعشاء فى مطعم إيطالى، بمناسبة عيد ميلاد الألمانية، وهناك تعرف إلى الأميركية (ماجى)، ليلتقيا بعد هذا اللقاء، مراراً، وليحلما معاً بأيام قادمة جميلة، إذ يدعوها لزيارة المدينة التى يقيم فيها فى فرنسا، بل ويحلم بأن تزوره فى مصر، ولكن الرياح تجرى عكس ما حلما به، ويعود الأمر إلى (دافيد فرتمان) الضابط الشاب فى وكالة المخابرات المركزية الأميركية، فقد رأى هذا، مجدداً، الفتاة البيضاء ذات الشعر الكستنائى تعبر برشاقة إشارة تقاطع الطريق، ولم يصدق عينيه أنه يرى (ماجى وليامز) أمامه مرة أخرى فى (هايدلبرج). كانت ماجى هذه تقيم علاقة مع شاب ألمانى اسمه مارك، وقد مرت هذه العلاقة، فى الفترة الأخيرة، بنوع من الفتور وصل حد القطيعة، ولما التقت بالدكتور المصرى فى حفل العشاء لم تمانع ماجى من التنزه معه فى المدينة، ولما رآها (دافيد فرتمان) كانت علاقتها بالشاب المصرى بدأت حديثاً، ولم يكن هذا هو السبب الوحيد الذى جعلها تعرض عن إقامة علاقة مع الشاب الأميركى، فالسبب الحقيقى هو ما عرفته عن (دافيد) أيام المدرسة، من قسوة وسادية وتعذيب لصديقتها. وإذ تُعرض ماجى عن (دافيد)، يبحث عن السبب، ويعرف أنها على علاقة مع شاب مصري، وهكذا يبدأ يحيك مؤامرة ضده، وقد أسعفته الأحداث، ففى فترة التعارف بين د. أسامة وماجى تحدث تفجيرات نيويورك، وتبدأ التشديدات على القادمين من العالم الآخر، وتحديداً من العالم الإسلامى، وسيلفق (دافيد) تهمة لأسامة، على أمل أن يبعده عن ماجى، وعلى أمل آخر أن يظفر بها، ويقف إلى جانب (دافيد) شاب ألمانى يكره الأجانب ولا يرحب بهم، ومنهم أسامة، لأنه ذو ميول نازية، إنه (بيتر شتنهوف) ـ لم تبرز الرواية صورة وحيدة للألمان، فهناك شخصيات ألمانية أخرى تبدو إيجابية فى المطلق، بخاصة صورة الأساتذة الألمان، والسكرتيرة هايدى فى قسم الفيزياء ـ.ولا يكتمل اللقاء بين د. أسامة وماجى وليامز، الفتاة الأميركية الوديعة المثقفة رقيقة المشاعر التى تحب الخير للآخرين وتكره الحروب ومن يسببها، الفتاة غير العنصرية، الإنسانية إلى أبعد الحدود. يتعرض د. أسامة إلى مضايقات ويُستدعى للتحقيق من الألمان الذين يطلقون سراحه، ليتولى الأميركان فى (هايدلبرج) متابعة أمره، ولم ينقذه من بين أيدى الأمريكى الغيور الضابط الذى يستغل منصبه علّه يظفر بماجى إلاّ ماجى نفسها، إذ تتصل بأبيها الضابط الذى يتابع الأمر، ويعمل على إطلاق سراح أسامة، مقابل وعد ماجى بأن تعود إلى أميركا.


فى ختام مقاله يرى عادل الأسطة أن «فتاة هايدلبرج الأمريكية» هى  (راشيل كورى) أخرى، تلك الفتاة التى قتلها الإسرائيليون بالجرافة، يوم تعاطفت مع الشعب الفلسطينى ووقفت، بجسدها، أمام الجرافة، فدهسها السائق الإسرائيلى وقتلها، ووجه الشبه بين الفتاتين هو أنهما أمريكيتيان طيبتان، ويخلص من هذا إلى أن «ثمة أميركيون طيبون أيضاً».


ويختلف مع هذا الرأى قليلا مقال بديع نشرته صحيفة الدستور منسوبا إلى وكالة أنباء الشرق الأوسط، بأسلوب يختلف كثيرا عن أساليب وكالات الأنباء، ففيه تحليل واف، واحتفاء مميز بنشر الرواية، فهو يتفق على وجود شخصيات متنوعة متأرجحة بين الخير والشر، ولكنه يقدم الدكتور أسامة على أنه الضحية، وربما كان فى ذلك ممثلا لمواطنيه ولوطنه. يقول المقال: «وشخصية ماجى ويليامز نموذج مضىء للأمريكية المثقفة المستقلة وذات الجوهر الإنسانى الحر مع عذوبة الروح والرقة البالغة وكذلك شخصية البروفيسور الألمانى كاسل بينما كانت مشاهد الرعب والتعذيب اختصاص وكالة المخابرات المركزية الأمريكية الشهيرة بالاختصار «سى اى ايه» التى دفعت ماجى للخوف العميق على مستقبل العالم إذا كان من يقود ويسيطر ويحدد مصيرنا هم على شاكلة دافيد فرتمان أما أسامة بعلمه وثقافته فهو الضحية .»


والحقيقة أن لى قراءة قد تختلف عما نَحَتْ إليه التفسيرات المنشورة عنها، ففى ظنى أن ماجى شخصية نقية، ولكنها سليلة الحضارة الغربية التى صنعت نفسها اعتمادا على تراكم معرفي، وإبداع أدبى متميز بمدارسه المختلفة حتى وصلت إلى الرومانسية، أفضل اتجاه أدبى يعبر عن ذاتية الفرد وأحلامه وطموحه. وأسامة أيضا هو شخصية نقية، ابن هو آخر  لحضارة ضاربة فى القدم علمت البشرية شرقا وغربا، ولكنه أيضا ينتمى إلى تلك الأمة الموصومة بالتخلف الفكرى الذى قاد إلى ظاهرة الإرهاب. 


ولكن بطاقة التعارف بين شخصيتى الرواية نتلمسها من هذا الحوار الذى جاء بالفصل الأول من الرواية: 
• هل تعرف يا أسامة أن تاريخ قلعة هايدلبرج يحكى بجدارة قصة صراع البشر المتواصل من أجل سلطة لا تدوم ومكسب سرعان ما يتلاشى عبر السنين والضحية هو الإنسان البسيط... حروب لأتفه الأسباب وطغيان من جانب الحكام واستهانة بمصير الناس البسطاء الذين هم على الدوام وقود كل معركة ونزاع... 
رد أسامة مسلما: 
• ليس تاريخ قلعة هايدلبرج هو وحده الذى يصور مأساة الحرب والظلم الواقع على البشر الأقل قدرة على الدفاع عن حقهم فى حياة كريمة ومسالمة. لقد جئت من منطقة يجسد – ربما بشكل أعمق وأكثر مأساوية – هذه السمة من سمات ماضينا البشرى.. 


من هذا الحوار نستطيع أن نفهم كيف صمم الكاتب شخصياته، والتى لا تعكس أفرادا بعينها التقت مصادفة وتحابت فيما بينها، وإنما تعكس لقاء حضارتين، لهما تاريخ متشابه، تاريخ يتسم بصراع من أجل سلطة لا تدوم، ومكسب سريع، وحروب لأتفه الأسباب، وطغيان من جانب الحكام ، وظلم واقع على البشر الأقل قدرة على الدفاع عن حقهم فى حياة كريمة ومسالمة. هذا هو الواقع المشترك رغم ما قد يظهر من تقدم غربى وتخلف عربى، وضحية هذا الواقع هو الإنسان البسيط والذى يستهان بمصيره والذى هو وقود كل معركة ونزاع.


أليس هذا هو واقع المجتمع المصرى فى عام 2011 عندما قامت فى أوله ثورة تطلب حياة كريمة مسالمة؟ ثورة تلتقى مع العالم وتسير على خطى التقدم الحضارى، وتحلم بأمة تساير باقى الأمم فى تحضرها؟ هذا  اللقاء الذى لم يتم، لسبب جوهرى، وهو أن «أصحاب السلطة» فى العالم لم يشاؤوا له أن يتم، اللقاء بين أسامة وماجى حكم عليه ضابط المخابرات الأمريكى سادى النزعة، والقائد العسكرى (والد ماجى) بحتمية ألا يتم. والحقيقة أن أية علاقة صحية نقية لا يمكن أن تنجح إذا تدخل فيها جهاز مخابرات عالمى السطوة.


فهل كانت رواية فتاة هايدلبرج وثيقة براءة للشرق العربى والإسلامى من هجمات 11 سبتمبر على البرجين التوأم فى الولايات المتحدة، أم كانت وثيقة إدانة للغرب فى تدخله السافر المانع للتطور الطبيعى لثورة أبهرت العالم. التجارب والتاريخ الذى عاشه أحمد جمال الدين موسى يقولان بوضوح أن أى مشروع من مشاريعنا يبشر بالنجاح ويمكنه أن يبهر العالم يتم اجتثاثه على الفور. 


هذا التأويل الخاص الذى قرأته فى الرواية قد ينطبق على ثورة يناير وقد ينطبق على أية حالة بها طرفا المعادلة نفسها، ومن هنا عمومية وعالمية الفكرة التى سرد من خلالها أحمد جمال الدين موسى قصة اللقاء الرومانسى الحالم الفاشلة، بين ثورة حالمة طموح وغرب تغيب عنه «الكثير من مفاهيم الإنسانية التى يدعى العالم المتقدم امتلاكها». 

أما الرواية الثانية لأحمد جمال الدين موسى فهى لا تقل إثارة عن الرواية  الأولى، وإن كانت أكثر نضجا على مستوى السرد، وجاءت بعنوان «لقاء فى واحة الحنين»، وعنوانها رومانسى مثل هايدلبرج وفتاتها، ولكن أحداثها كاشفة عما يعترى الواقع المصرى من أسباب تمنع الانطلاق  نحو المستقبل بأمان. 


ليست هناك علاقة بين تعبير «اللقاء» وواحة الحنين، فقد كان فى حقيقة الأمر صداما، يعبر عن تشتت واختلاف مس بالتشوه الشخصيات التى تقابلت لا لكى تستعيد أيام كفاحها الوطنى، وإنما لكى تواجه بعضا البعض بمنتهى الشراسة والعدوانية. 


الحكاية تبدأ برغبة واحد من مجموعة طلابية شاركت فى اعتصام الطلاب الشهير بجامعة القاهرة فى يناير عام 1972، وربما كان هو الراوى الرئيسى فى الرواية، وربما كان أيضا هو المؤلف نفسه، أراد أن يجمع زملائه فى الاعتصام الذى شارك فيه شخصيا، كما سنفهم بعد ذلك من سيرته الذاتية، ولكنه يبقى شخصية درامية فى رواية متعددة الشخصيات ومتعددة الأصوات، على النحو الذى سار عليه من قبل نجيب محفوظ فى رواية ميرامار، والذى جمع شخصيات ما بعد ثورة 1952 فى بنسيون ميرامار لكى يحاكم عصر الثورة كله.

وكذا فعل – حتى على مستوى التقنية السردية – أحمد جمال الدين موسى عندما جمع شخصيات تنتمى إلى فترة زمنية فى حكم الرئيس  السادات رفضت فيه تقاعسه وتردده فى خوض الحرب ضد إسرائيل، و «إزالة آثار العدوان»، وبعدها بنحو أربعين سنة أصبح هؤلاء الشباب المناضل من أجل عزة ونصرة بلده إلى كهول، ليحاكمهم هو أيضا ويفضح التغير فى المبادئ والقناعات، وتحول المواقف من النقيض للنقيض. وجاء هذا اللقاء / الصدام بعد ثورة يناير 2011. وهى أيضا الفرصة المناسبة لأستاذ القانون والاقتصاد لكى يعبر عن المشاكل  الاقتصادية التى تعانى منها مصر، فهو ينتقد بشدة الخصخصة والطرق التى تمت بها من قبل الرئيس السادات أولا، ثم الرئيس مبارك بعده، وكانت له أبحاث مهمة فى هذا الصدد، كذلك كان أحمد جمال الدين فى الرواية وفى الحياة معاديا لسياسة الانفتاح التى انتهجها الرئيس السادات، والتى كانت فيصلا فى تغير المواقف من جانب كثير من الشخصيات التى كانت فى عصر ناصر محددة الملامح، واعية بدورها الوطنى. فقد تحول الطالب الماركسى الذى كان يسكن فى المقابر إلى اشتراكى معتدل، ثم شخصية رأسمالية وقيادة بارزة فى الحزب الوطنى الديموقراطي، وتهرب الطالب الأخر من انتمائه الإخوانى خوفا من البطش البوليسى، قبل أن يفتخر فيما بعد بانتمائه الإخوانى، ومؤازرته للجماعة،  لينتهى بنا المقام فى النهاية إلى ثورة يناير التى أوهمتنا فى بدايتها أن الشعب قد اتحد وهب من رقدته وسباته العميق، ليتضح فيما بعد كم الفرقة والتباعد الذى ضرب الشخصية المصرية، لكى نكتشف أن رفاق نضال الأمس قد شوهتهم المصالح الشخصية، وحلت البغضاء محل الصداقة، وتتبادل المجموعة المعايرة بالانتماءات، سواء الإخوانية أو السلفية أو الفلولية. 


وينتهى هذا النص منضبط الإيقاع بنهاية مفتوحة، فقد تعرضت المجموعة بعد انتهاء لقائها للاختطاف وعجزت أجهزة المخابرات عن اكتشاف هوية المختطفين. 
هذه هى النهاية التى تقرب رواية «لقاء فى واحة الحنين» مع «فتاة هايدلبرج»، فالمختطفون خارجيون، وقد اختطفوا الثورة التى اختارت نخبتها من شخصيات شوهتها التجربة، وهم جديرون بهذا الاختطاف، وكأن المؤلف يقول إن مصر لن تستفيد من أية ثورات للإصلاح قبل رأب الصدع بين المصريين أنفسهم، وربما كان هذا هو هدف الجزء الثانى من الثورة الذى تم فى 30 يناير، والذى بدأ بتصفية هذا التصدع وإنقاذ البلاد من مصير بلاد أخرى فى الجوار، وكان الهدف المعلن لثورة يناير هو بالفعل ما «حن» إليه مؤلف الرواية، أن تكون مصر واحة السكينة والطمأنينة والسلام الاجتماعى،  تاركا للغرب المختطف معاييره المزدوجة  وخططه لتخريب المشروعات القومية الطموح، بل وتاركا إياه يختطف هذه النماذج التى فسدت. 


مرة أخرى ربما يكون فى هذا التفسير قفز على محتوى النص المباشر، ولكن قراءة  السيرة الذاتية للمؤلف هى التى قادتنا إلى إضاءة كان لابد منها لتفسير أعماله السابقة عليها. 

وفى الرواية الثالثة «ملك التنشين» يعود أحمد جمال الدين إلى مناقشة تيمة «الفشل» التى يبرع فى تحليلها، ومرة أخرى نجد أنفسنا أمام الطبقة نفسها، طبقة البرجوازية الصغيرة التى عانت من آثار نكسة يونيو، وكافحت من أجل استعادة العزة والكرامة، ثم تشوهت «بفعل فاعل» لكى تكون سببا فى انتكاسة اجتماعية أخرى، انتكاسة خطيرة عبر عنها غريب بطل الرواية. 


اختار الأديب أحمد جمال الدين موسي، لروايته «ملك التنشين»، عنوانا جانبيا هو «انعكاس الشفق»، وكلاهما عنوان دال فى حد ذاته، فبينما يعبر العنوان الأول عن الشخصية الرئيسية بتركيبها الدرامى الذى يعكس التركيب السردى للرواية كلها، يعبر العنوان الثانى عن مآل العنوان الأول، أى عن نهاية البطل، ونهاية الرواية، وزيف القوانين التى أنتجت الشخصية وزيف المجتمع الذى أنتج هذه الشخصية.


وغريب هو شخصية أقرب إلى نمطية شخصيات محجوب عبدالدايم ولكنه أكثر شرفا وغيرة على عرضه، ومحفوظ عجب، ولكنه أكثر شرفا فى خصومته، أو أنه شخصية جديدة ابتدعها الكاتب من خلال تجربته الخاصة فى العوالم التى عاشها، طالبا وباحثا ومبتعثا ومحاضرا ومسئولا، وفى تأمله للواقع المنتهى أمام عينيه. ونستدل من اسمه على أنه «غريب»، ليس بمعنى الغربة، رغم أنه عاش مغتربا منذ التحاقه بالجامعة بعيدا عن بيته، وإنما بمعنى الاغتراب، الذى سوف نكتشف أنه واقع متجاوز للواقعية التى نعرفها والتى تعالج الواقع فى الأدب معالجة فنية، وأننا أحيانا، وفى فترات متقطعة من حياتنا، نصبح مغتربين مثل غريب، عندما تواجهنا نفس المساحات الرمادية التى أغرت البطل على ممارسة الفساد المقنع المبرر بالمنطق الخاص للشخصية.


هل يصبح غريب هذا مفتاحا لفهم شخصيات «واحة الحنين»؟ لقد قام المؤلف بتشريح دقيق للشخصية، بكل التفاصيل التى مر بها فى تجربته وخبرته. 
ويمكن وصف هذه الرواية بأنها «سيرة غير ذاتية»، سيرة البطل التراجيدى غريب التى تتماس مع حياته وحياتنا، على الأقل فى تركيبة الشخصية التى نراها أمامنا متكونة، ولكننا لا نعرف كيف، إلا من خلال التحليل النفسى/الاجتماعى الذى قدمه المؤلف لها. فضلا عن عناصر كثيرة أخرى لا تخطئها عين الناقد الحصيف، مثل الزمان والمكان، وبنية الرواية التى أقر البطل نفسه أنه روى فيها حياته، حتى دقائقها التى ربما يعتبرها البعض غير مهمة، وهو يتمنى أن تكون ذاكرته قد أسعفته فى ذكر كل شىء دون خوف أو تردد، ودون أن يضع فى اعتباره ككاتب سيرة ذاتية ردود الأفعال، فقد قدر بطل الرواية أن «قصة حياته» سوف تنشر بعد ثلاثين عاما، حينما تكون الأمور قد تغيرت، وعندما يصبح المجتمع أكثر قدرة على القبول والتسامح.


إننا أمام شخصية لا يمكن الحكم عليها بالخير أو بالشر، بالحكمة أو بالرعونة، بالانتهازية أو بالاجتهاد. ما يحكمها هو ولاؤها لطموحها، وأمام شخصيات فى الرواية قد تحكم عليها بالعجز، أو بالمثالية المفرطة، ولكنها مبررة إذا نظرنا إلى الرواية على أنها «مسح» فنى أدبى لطبقة اجتماعية لها خصوصيتها، الطبقة البرجوازية «الصغيرة» التى تعانى عدم القدرة على اتخاذ مواقف حدية قد تضر بوضعها الطبقى وتشكل خطرا عليه. وهكذا نجد الأستاذ المشرف على رسالته العلمية مساندا لما تصور أنه امتداد له ولطبقته، حتى وإن اقتصرت العلاقة معه على توجيهه للاستفادة من علمه ومواهبه، وابتعدت عن تشجيعه على الفساد. وعموما لا نجد فى شخصية الدكتور حافظ شكرى أية ملامح خاصة تقربنا منه، فنحن لا نعرف عنه غير علاقته بغريب، وباقى حياته لابد أن فيها ما فيها، وأنها طبيعية إلى حد كبير، أو هكذا نتخيل.


ورغم ما نلمحه من انفراد غريب بالسرد، وأنه ليس هو المؤلف، وإنما الشخصية الرئيسية، وهو ما يجعل الرواية أشبه بالمونولوج الطويل، ومن ثم فهى أقرب إلى الأسلوب الذاتى فى التعبير، والذى يساعدنا كثيرا فى تحليل شخصيته، وكأنه على «شزلونج» الطبيب النفسي، يجتر أحداث حياته، وكلها مربوطة بخيط دقيق جدا سوف نتبينه تدريجيا. وإذا كان لنا أن نصنفها فيمكننا أن نضعها ضمن «الرواية النفسية» ونطبق عليها نظريات فرويد فى التحليل النفسى، ونبعد بها عن تدفق الوعى الذى يتميز أساسا بفقدان الخيط الرابط بين الأحداث على نحو ما نجده فى روايات فرجينيا وولف، والتى تعتبر من أهم ممثلى مدرسة تيار الوعى. إننا فى هذه الرواية أمام ثلاثى فرويدى بامتياز: الأنا والرغبة والأنا العليا. هذا الخيط الدقيق الذى يربط الرواية معا، والذى لا تستعصى رؤيته على أى قارئ ولو عابر، هو ما أسلفت الإشارة إليه فى أن العنوان يعكس تركيبة الرواية، أى أن «ملك التنشين» يحدد بدقة شخصية غريب، والتنشين فى حد ذاته «رياضة» تمارس فى الموالد بكثرة، ومن يكسب فيها يفوز بهدية، وأقول «رياضة» تجاوزا، فالحقيقة أن البطل فى هذه الحالة يمارس مع نفسه «سباقا» ضد الزمن، وضد المجتمع، وضد أخيه «دينى التكوين» وفى الوقت نفسه «انتهازى السلوك»، وضد أى شىء يمكنه أن يجعله يخسر سباقه للانعتاق من وضعه الطبقى الذى لا يوافق طموحه.


إن «غريب» بورجوازى صغير دخل سباقا لا تستطيع إمكانياته ومواهبه وقدراته الخاصة أن تساعده على الصمود فيه، ومن ثم فإنه يُلقى فى النهاية «منديل» الاستسلام للهزيمة، هزيمة بالنقاط وليس بالضربة القاضية. وهو أيضا مسئول عن أفعاله فى تراجيديا ليس فيها أخطاء نبيلة، ولكن فيها أخطاء كارثية تتطلب منا جميعا الانتباه والوعى، والتربية والتعليم، وكلها مسئوليات مجتمع يعكسها شفق غريب، بطل الرواية.


وبعد، فبوسعنا بعد كل ذلك أن نقرر أن ثلاثية أحمد جمال الدين موسى كانت كلها تحكى عن مصر، وعن قضيتها، وعن علاقاتها، وعن الأمل فى تخليصها من مشاكلها، وعن الشخصية المصرية المعرضة دائما «للاختطاف»، سواء فى نظامها التعليمى أو سياساتها الاقتصادية، وعبرت عن مصالح طبقية وهمية، ولكنها تحمل أيضا  برنامجا نهضويا بامتياز على المستويات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وهى تصطدم بنا، لكن دون أن تجرحنا أو تفضحنا، وتلتمس لمثالبنا أسبابا يمكن التغلب والخروج منها بسلام. 


اقرأ ايضا | ميشيل فولان: غالبا ما أصف لقائي بمصر بالحب من النظرة الأولى