بعد حصوله على وسام جوته الألماني.. محمد عبلة: لا أريد أن أكون مجرد عابر سبيل

محمد عبلة : مغامرة التجريب
محمد عبلة : مغامرة التجريب

بقلم :  شهاب طارق
الجوائز فى مصر مرتبطة بالشلل والمصالح وهناك ظلم كبير

أنا شخص «ملُول» ولا أستطيع الاستقرار فى مكان واحد لفترة طويلة

كنت أتمنى أن يكون تكريمى من مصر لكن بشكل عام الجائزة ستُكتب باسم بلدى

لم أحب أحدًا فى حياتى لدرجة اليقين
 


أعلن معهد جوته فى ألمانيا منح جائزته السنوية للشخصيات المؤثرة فى خدمة الثقافة على الصعيد الدولى، للفنان التشكيلى المصرى محمد عبلة ، ومن المقرر أن يتسلم الوسام فى احتفالية كبرى تقام بمدينة ڤايمار الألمانية، 28 أغسطس القادم، فى ذكرى ميلاد جوته. وتضمنت حيثيات منح عبلة جائزة وسام معهد جوته ارتباط أعماله بالحس الاجتماعى والإنسانى، وانشغاله بقضايا مجتمعه بفاعلية، وكذلك مشاركته فى كتابة الدستور المصرى بعد ثورة 30 يونيو، وتأسيسه متحف الكاريكاتير المصرى الذى يعد أول متحف لهذا الفن فى الشرق الأوسط.
كان الإعلان عن تتويج عبلة بوسام «جوته» الألمانى بمثابة تتويج لرحلة شاقة قطعها طوال حياته، حمل خلالها عبء وهمّ جيله من الفنانين، ولطالما كان شاغله الأكبر هو الهم الاجتماعى فانعكس ذلك على لوحاته، إذ يؤمن أن الفن هو تعبيرعن المجتمع.
يمكن نعته بالمثقف الشامل، فهو يمثل مفردة هامة من مفردات الثقافة المصرية خلال السنوات الأخيرة، ورغم رحلاته الطويلة للخارج، إلا أنه لم ينقطع أبدًا عن وطنه، ولم يفقد الصلة بينه وبين أبناء جيله، فقد شارك فى كافة الأحداث المهمة ثقافيًا فى السنوات الأخيرة، ولم يبخل أبدًا عن تقديم الدعم المناسب.
أحب عبلة منذ مرحلة مبكرة من حياته «التمرد» فقد التحق بكلية الفنون الجميلة رغم معارضة والده، وتمرد كذلك على حياته كلها، حتى على الأشياء والتجارب التى أحبها، إذ كان يقرر فجأة المضى قدمًا، تاركًا كل شىء جميل أحبه فى سبيل خوض رحلة جديدة من البحث: «لا يوجد شىء فى حياتى أحببته لدرجة اليقين، وكأنه حب «ناقص»، هذا الأمر ينطبق على حياتى كلها».
هذا البستان محاولة للاقتراب من عالم عبلة الإنسانى والفنى.

داخل مرسمه بمنطقة وسط البلد قابلنا الفنان محمد عبلة، مكان هادئ به دفء كبير وحميمية يمكن للزائر أن يتلمسها بمجرد الدخول إليه، يجلس عبلة على كرسيه، ويحكى لنا عن القاهرة، تلك المدينة التى أحبها، وحمل داخلها الكثير من ذكرياته. لم يحب عبلة مدينة بالقدر الذى أحبه للقاهرة، والتى فتنته منذ أن وطأتها قدماه، فقد استطاع من خلال لوحاته استنطاق المدينة والتعبير عنها كثيرًا رغم ذكرياته الأليمة معها عندما حُرق مرسمه، لكنه فى النهاية تجاوز أحزانه وسامح المدينة، فهى قادرة على إبهاره دائمًا رغم أنه ارتحل لكثير من المدن حول العالم، إلا أن القاهرة ظلت الأقرب بالنسبة إليه ولم تستطع أى مدينة أن تحتل مكانتها فى قلبه أو تفتنه مثلما فعلت، لكنه يرى أنها بالرغم من أنها مدينة مرحبة بالجميع، إلا أنها «قاسية» تحتاج لكثير من التعب والمشقة لبدء الحياة داخلها.

 

يسترجع معنا عبلة ذكرياته، وأحلامه، ويحكى لنا عن مشاريعه المؤجلة، التى تركها فجأة دون مقدمات، وكذلك حياته الأولى التى ساهمت فى تكوينه، ورحلاته الخارجية التى أراد دائمًا من خلالها استكشاف عوالم جديدة أثرت تجربته الإبداعية.


رغم وجود عبلة داخل المدينة الصاخبة إلا أنه لا يملك «شلة» ولذلك يرى أنه لن يتمكن من الحصول على أى جائزة داخل مصر، لأن الجوائز خلال الوقت الراهن ترتبط بالشلل والمصالح، لذلك يعتز بمنحه وسام «جوته» لأنه فى رأيه لا يتم منحه إلا لمن يستحقه فعلًا.


تعلق بألمانيا بشدة منذ أن قرر الرحيل إلى أوروبا والاستقرار فيها،  هناك أنشأ أتيليه خاصاً به وواصل العمل لنحو 35 عامًا: «ارتبطتُ بألمانيا وبالثقافة الألمانية، لأنى عشتُ داخلها سنوات طويلة، واحتكيت هناك بالناس وارتبطتُ وتعلقتُ بهم، رغم أن الحياة فى أوروبا ليس من السهل على فنان مصرى مغترب أن يتأقلم عليها؛ لكن الفن بشكل عام ممتع ويفتح الكثيرمن الأبواب».


عندما سافر عبلة لأوروبا أصيب بنوع من الصدمة، وصفها بـ«صدمة حضارية» نتيجة التعرف على ثقافة مغايرة، إذ كانت فترة «قاسية» اضطر فيها إلى التخلى عن أشياء واكتساب أشياء جديدة: «كانت عملية صعبة جدًا، خصوصًا أننى كنت معتمدًا على ذاتى فى كل الأمور، إلا أننى فى النهاية استطعتُ أن أتأقلم مع التغيرات والثقافة الجديدة، فقد كانت رغبتى دائمًا ألا أكون مجرد عابر سبيل فى أى مكان أرتحل إليه، لكن الحياة داخل أوروبا كفنان ليست بالأمر السهل أو الهين نتيجة التنافسية الشديدة هناك، وكذلك بحكم أن الفنان ليس من أهل البلد، وبالتالى يواجه تحدياً كبيراً كى يجد مكانًا داخل الجاليريهات، نتيجة التنافس الشديد بينه وبين الفنانين». 


يحكى أنه قابل داخل أوروبا بعض العنصريين الذين تصوروا أن الفن «وقف» على أوروبا والغرب، وأن العربى والمصرى لابد أن يرسم «جِمال ونخل»، لكن فكرة أن يرسم الفنان العربى فناً حديثاً لم يتقبلها البعض.

وكانت تتطلب الدخول فى مناقشات كثيرة حول الأمر«لكن ما كان يحفزنى دائمًا هو أننى لم أقطع علاقتى مع مصر أبدًا، فقد كنت أتردد عليها دائمًا، لأكثر من 6 مرات فى العام، لأنها كانت تعطينى الطاقة للاستكمال والمضى قدماً».


كانت علاقته بألمانيا تحديدًا جيدة للغاية إذ سكن داخل قرية صغيرة تُدعى «فلس روده» واختارها نظرًا لحبه للطبيعة، فهى تحوى أكبر حديقة طيور فى العالم، وقد عاش داخلها لقرابة الـ35 عامًا، وكوَّن صداقات هناك: «من خلال وجودى فى ألمانيا تعرفتُ على الأدب الألمانى والثقافة هناك، فالفن الألمانى بعد الحرب العالمية الأولى هو الذى قاد العالم، وليس الفن الفرنسى أو الإيطالى كما يظن البعض، فألمانيا يوجد بداخلها أهم التجارب، وأهم الشخصيات الفنية المؤثرة فى العالم».

جائزة خاصة

لطالما انشغل عبلة بالهم الاجتماعى والذى انعكس على لوحاته، فهو يؤمن أن الفن تعبير عن المجتمع وتعبير عن موقف الفنان نفسه من قضايا مجتمعه وأحداثها: «كنتُ مشاركًا –بشكل دائم–ومشتبكًا مع الأحداث الاجتماعية والسياسية، وهذا من الأسباب التى رشحتنى لنيل وسام جوته، إذ كنتُ عضوًا ضمن لجنة الخمسين التى كتبت الدستور، وأثناء «يناير» كنتُ فعالا فى جميع الاحتجاجات، فالفنان كائن سياسى فى المقام الأول، وقضيتى الأولى كانت التعبير عن الناس بشكل مباشر. لكن وسام جوته بالنسبة لى يختلف عن أى تكريم آخر وأقدّره جدًا، نظرًا لأنه مقدم من الحكومة الألمانية، وكذلك لمعرفتى بالألمان وأنهم لا واسطة عندهم ولا أى مجاملات، ولا يعرفنى أحد منهم بشكل شخصى، فهذه الجائزة تتم بطريقة ديمقراطية جدًا، وهى أن معاهد جوته فى العالم كله ترسل قوائم مرشحين من اختيارها، إلى جانب مرشحين آخرين من قِبل الجامعات المختلفة، وبعد ذلك يتم الاختيار والمفاضلة بينهم. وبالتالى ما حدث أن معهد جوته فى مصر أرسل ترشيحاته، والتى تم فيها الإجماع علىَّ لأنهم رأوا أننى مهتم بقضايا مجتمعى والعالم. ومن أسباب اعتزازى بالجائزة – أيضًا –تقديرى الكبير لجوته نفسه، لأنى عندما تعرفتُ على الثقافة الألمانية تعرضتُ لكتاباته، وهو شخص مثير بالنسبة لى، فقد كان شاعراً وروائياً، وعالم فيزياء وعالم تشريح، ووزير حربية ووزير مالية، كان شخصية متنوعة ومتفتحة، وهو أول شخص يكتب ديواناً كاملاً عن الحضارة الإسلامية، واهتم بالعلاقة بين الشرق والغرب، لذلك أنا سعيد بارتباطى بهذا الاسم العظيم».

«التربيطات» والشللية

رغم نيله للكثير من الجوائز والتكريمات الدولية إلا أن نصيبه من الجوائز داخل مصر لم يكن بالقدر الكافى، وهنا يتحدث عن الأمر وعلى وجهه ابتسامة، فهو متصالح مع فكرة عدم منحه جوائز لأنه يعلم أنه لا يملك «شلة» وبالتالى فرصة الحصول على أى جائزة شبه محسوما: «الجوائز فى مصر حاليًا مرتبطة بالشِلل والمصالح، وجوائز الدولة فى المقام الأول يتم منحها وفقًا للتصنيف التالى؛ فأولًا تُمنح للعاملين فى الجهة القائمة على الجائزة؛ أى المجلس الأعلى للثقافة؛ لذلك أول شىء يتم وضعه فى الاعتبار هو منح الجائزة للموظفين والمتعاملين مع المجلس الأعلى للثقافة، وبعد ذلك تتسع الدائرة لتشمل موظفى وزارة الثقافة، وأخيرًا أساتذة الجامعات من أصحاب العلاقات بهذه الدوائر، لذلك لا تخرج الجوائز من بين هذه

المنظومة التى ذكرتها، كما أن هناك أجيالاً تسلم أجيالًا أخرى، فالأساتذة مثلًا الذين حصلوا على جائزة الدولة التقديرية يمنحون جائزة الدولة التشجيعية لتلاميذهم وهكذا تُدار العملية، وأنا أرى أن الأمر به ظلم كبير، وأحزن كثيرًا لأنى أُكرم فى الخارج بينما لا أُكرم من قِبل بلدى، لكن الحياة علمتنى ألا أتوقف، والمؤكد أننى أتأثر بما يحدث؛ ليس من أجل نفسى وإنما من أجل الأجيال القادمة والأمل الذى ينتظرونه، فكيف أُجيب على شاب يسألنى عن الوضع؟ لا يمكن أن أقول له: «اشتغل فقط وستتلقى التقدير فى الوقت المناسب» بل يجب أن أتحدث معه بواقعية وأن أخبره أن الأمر يرتكز فى الأساس على «التربيطات» والشللية؛ لذلك أنا واقعى مع الشباب، وهم وحدهم من يختارون، سواء الانضمام إلى شلة ما أوأنهم سيحترمون أنفسهم ويبتعدون عن مثل هذه الأمور، لكنى لستُ ضد الدولة ولم أدخل فى عداء مع أحد ولا أريد معاداة أحد، ففى النهاية مصر دولة كبيرة جدًا، وهذه الأمور قد تتغير، الفكرة كلها أن تكريم المبدع الحقيقى يعطى أملًا للأجيال الصغيرة والشباب. أما بالنسبة لى؛ فلم أشعر بغربة حين تم الإعلان عن فوزى بالوسام، لأننى عشتُ سنوات طويلة داخل ألمانيا وتعتبر جزءًا من حياتى، هى وطن ثان. ورغم أننى كنت أتمنى تكريمى من مصر، لكن بشكل عام الجائزة فى النهاية ستكتب باسم مصر، لأن الأشخاص زائلون وما يتبقى هو القيم المتوارثة التى لا تموت، وقيمة أن فنان مصرى يفوز بوسام مهم دون أن يتلقى دعماً من أحد وبدون مساعدة أحد من الممكن أن تشجع وتعلم الأجيال القادمة».

النشأة الأولى

وُلد محمد عبلة بمدينة بلقاس إبان ثورة يوليو سنة 1953، وقد ساهمت نشأته داخل المدينة المزدهرة التى تحيا على بقايا الإقطاع الذى ألغته الثورة، فى نمو فكره خلال مرحلة مبكرة من حياته، فرغم صِغرها كمدينة إلا أنها كانت مدينة اقتصادية من الدرجة الأولى، واستقطبت داخلها الكثير من الأغنياء والإقطاعيين، وهو الأمر الذى ساهم فى خلق جو ثقافى خاص بها، وكانت تعد من المدن القليلة داخل مصر التى ضمّت مسرحًا للفنون وسينمات، بجانب المصانع، والمكاتب العامة، والمدارس الخاصة: «كانت بلقاس مدينة ذات طابع خاص، وهذه الخصوصية ساهمت فى تطويرى بشكل كبير، إذ كنتُ أحتك مع مثقفى المدينة منذ مرحلة مبكرة من حياتى، وكانت تدور بيننا حوارات ثرية من خلال الندوات، لذلك الجو العام الذى نشأتُ فيه ساعدنى كثيرًا فى أن أرسم منذ مرحلة مبكرة، ولم ألقَ أى استنكار، وظهرت موهبتى فى المرحلة الابتدائية والإعدادية، وحين دخلت الثانوية العامة بات واضحًا للجميع أننى قررتُ الالتحاق بكلية الفنون الجميلة، رغم معارضة والدى الشديدة لهذا القرار، لكنى بشكل عام أعتبر نفسى محظوظًا لالتحاقى بكلية الفنون الجميلة جامعة الإسكندرية، إذ درَّس لى أهم فنانى مصر مثل سيف وانلى، والدكتور حسن ظاظا، والدكتور سعد المنصورى، وغيرهم. هذه السنوات كانت مثمرة بالنسبة لى، لكن نظرًا لمعارضة والدى فكرة التحاقى بالكلية، قررتُ الاعتماد على نفسى واشتغلتُ «نقاشاً»، ورغم ذلك استفدتُ من فترة الكلية وتعلمتُ الكثير من اللغات، وساعدنى على ذلك جو الإسكندرية كمدينة حوت داخلها ثقافات أجنبية متعددة، إلى جانب وجود المكتبات، فقد كانت مكاناً خصباً لجميع المهتمين بالثقافة والفكر، وهناك تعلمت الكثير من الأمور».


حين تخرّج عبلة من الكلية كان ترتيبه الأول بين أقرانه فى الكلية، وحصل على شهادة البكالوريوس مع مرتبة الشرف، وكان من المفترض حينها أن يلتحق بالسلك الأكاديمى للكلية، لكنه قرر أن يتركها لرغبته فى السفر، إذ قُدمت له منحة من إسبانيا للدراسة، وهناك لم تعجبه الدراسة فقرر السفر ليعيش «فنانًا». لكنه لم يندم على تركه فرصة الالتحاق بالتدريس فى كلية الفنون الجميلة عقب تخرجه، رغم أن تجربته فى إسبانيا لم يكتب لها الاستمرار، لأنه رفض أن يدرس دراسة أكاديمية طويلة وشعر أن الوضع هناك لا يلائمه، فذهب بعدها إلى فيينا وهناك درس الطباعة والجرافيك، ثم عاد مرة أخرى لسويسرا ودرس النحت وعلم النفس، يقول: «كنت دائمًا أنتقى أماكن بعينها للدراسة داخلها لكنى لم أحب أن تكون دراستى طويلة أبدًا فى تلك الأماكن».

استقر عبلة فى ألمانيا وهناك بدأ من وقت لآخر الارتحال داخل أوروبا للتدريس فى المعاهد والكليات الموجودة بهولندا، وسويسرا، والنمسا، والسويد.

تمرد مستمر

يميل عبلة - دائمًا - إلى التمرد على حياته، وحتى على الأشياء والتجارب التى يحبها، فهو دائم التنقل بين المدن وكثير الارتحال، والسبب فى رأيه هو أصله البدوى، إذ يرفض البدو الاستقرار – على حد قوله – ويميلون إلى تغيير أماكنهم دائمًا: «أنا شخص ملُول، لا أستطيع الاستقرار فى مكان واحد لفترة طويلة، أو أن أرسم شيئًا واحدًا لفترة طويلة، فهذه الشخصية تتضح من خلال أعمالى، لأنى أرفض الاستمرار فى نمط واحد بالنسبة للفن، وأدرك أن الفن «بحر»، وأنا أرى أنه من الخسارة أن يظل الإنسان يرسم نمطاً واحداً، لذلك أحب دائمًا أن أتذوق من كل صنف؛ ولهذا أنا دائم التنقل والتجريب، وبما أن الفن بالنسبة لى عبارة عن يومياتى وتجاربى الشخصية التى أرسمها، وأنا بطبعى متغير جدًا ومتنقل، فلوحاتى متغيرة مثلى تمامًا، لذلك أنا أمارس الكثير من الأشياء كالطباعة والنحت، وغيرها من الأمور، هذه الأشياء تتفق مع طبيعتى، لكن الشىء الوحيد الذى لم أستطع التخلى عنه هو الرسم لأنى أرسم يوميًا، فإذا أُصبت بضيق أرسم وإذا أصبت بسعادة أقرر الرسم أيضًا، الرسم بالنسبة لى ليس علاجًا، وإنما تعبير عن نفسى وعن حالتى، لذلك أنا أرسم فى جميع الحالات يوميًا، ولى مرسم فى كل مكان أذهب إليه. عندى مرسمان فى الفيوم، وثلاثة فى القاهرة، لأنى لا أتصور أبدًا حياتى بدون الرسم».

ذكريات مؤلمة

أثناء حريق المسافرخانة الشهير بالقاهرة كان يقع على مقربة منه مرسم محمد عبلة، كان وقع الحادثة شديداً على مثقفى مصر نظرًا لقيمة المسافرخانة بالنسبة لهم كفانين، إذ ارتبطوا بالمكان طوال حياتهم، لكن بالنسبة لعبلة كان الحادث مرير الوقع عليه، إذ تأثر مرسمه وفقد جميع لوحاته التى رسمها على مدار 20 عامًا إثر الحريق، يحكى أنه بعد الحادثة ذهب لأمه وأخذ يكتب أفكاره هناك، ويسترجع حياته السابقة، وفجأة قرر أن يرسم كل يوم لوحة، فأخذ مرسمًا جديدًا بجزيرة القرصاية، وهناك تخطى ألمه بمجرد أن أُحيط مرة أخرى بلوحات جديدة من أعماله.

يتذكر أنه لم يشر لحالة الفقد تلك خلال أعماله، إلا أنه دائمًا ما كان يصيبه نوع من الاضطراب: «أحيانا كنت أرسم لوحة ما، وعندما أنتهى منها أقول لنفسى، هذه اللوحة رأيتها من قبل، وهذه كانت فترة صعبة علىَّ لأن لوحاتى التى حُرقت كانت تظهر لى دائمًا؛ لذلك فالمرحلة كانت شاقة، والجو المحيط حولى كان صعباً لأن الحكومة منعت النشر حول الحريق، والوزارة بدورها لم تكن تريد أن يتحدث أحد عن الحريق الذى حدث فى نطاق المسافرخانة، لأسباب لا أعلمها لها علاقة بالحكومة وقتها، لذلك لم أكن قادرًا حتى على الصراخ، لكنى فى النهاية استطعتُ أن أتجاوز الأمر مثلما تجاوزتُ الكثير فى حياتى».

مدينة قاسية

رغم الذكرى الأليمة التى سببتها له القاهرة كمدينة نتيجة الحريق، إلا أنه أحبها، وكانت علاقته بها مركبة؛ فهى مدينة –حتى هذه اللحظة– قادرة على إبهاره بشكل مستمر، وبالرغم من ارتحاله الدائم لكثير من المدن إلا أنه يعتبر أن القاهرة مدينة مرحِّبة لكل من يأتون إليها: ««بمجرد أن يأتى شخص إلى القاهرة؛ بعد أسبوع واحد يجد صُحبة ومقهى خاصاً به وسكناً، وهذه ميزة لم أجدها فى الإسكندرية لكنى وجدتها فى القاهرة، التى أرى أنها حضن كبير يتسع للناس، ولن يشعر أحد داخلها بالغربة، بسبب التنوع الشديد الموجود داخلها بالنسبة لأى فنان، فهى متحف لكل الفنانين، ومركز ثراء لهم، فمن يريد أن يصبح إنساناً «تافهاً» داخل القاهرة سيجد ضالته، ومن يريد أن يصبح ذا شأن سيصبح أيضًا، لكن رغم أن القاهرة مدينة مرحِّبة، فهى فى نفس الوقت مدينة قاسية جدًا، لأنها تحتاج لتعب ومشقة لبدء الحياة داخلها، وأنا سكنتُ الكثير من الأماكن داخلها ولا أملك داخلها أية تجارب سيئة، لذلك أحبها، وعندما قررتُ أن أذهب إلى الفيوم بعد رحلتى داخل أوروبا كان ذلك بسبب أننى أردت أن أخدم الناس، واحتجتُ مكان كى أدرِّس للطلبة تمامًا مثلما كنت أفعل فى أوروبا، وهذا الأمر لم يكن ممكنًا داخل القاهرة، نظرًا لارتفاع المعيشة داخلها، وكذلك قِلة وجود أماكن بها تصلح لتنفيذ فكرتى، لذلك قررتُ أن أذهب إلى الفيوم كى أبدأ هناك تجربة جديدة، وبالفعل بنيتُ مركز الفيوم للفنون، إذ أردت أن أهيئ مكاناً يلتقى داخله الفنانون الشباب».

تجربة فاشلة

وفى الفيوم  أقام متحفًا للكاريكاتير رغم أنه لم يمارسه أبدًا طوال حياته، يحكى أنه منذ مرحلة مبكرة، وتحديدًاعندما تخرج فى كليته، كان حلمه أن يصبح رسامًا للكاريكاتير، وبالفعل ذهب لمجلة صباح الخير، وهناك أشادوا بموهبته فى الرسم، لكنهم أوضحوا له أنه لا يملك موهبة الكاريكاتير: «رغم تجربتى الفاشلة هذه، إلا أننى أحببت الكاريكاتير فجمعتُ الكثير من الرسومات التى تؤرخ لهذا الفن عبر المراحل المختلفة، إلى أن جاء إلىَّ صديقى سمير عبد الغنى، وشاهد ما أملكه وأشار علىَّ بتنفيذ متحف لجمع المقتنيات، وبالفعل بنيتُ أول متحف للكاريكاتير فى الشرق الأوسط وإفريقيا، رغم أننى لم أرسمه، لكنى أحبه ومؤمن جدًا برسالته، والكاريكاتير المصرى من أهم الإنجازات الفنية التى حدثت فى مصر، فشخصيته أثرت كثيرًا ولعبت أدواراً عديدة، وفنانو الكاريكاتير دفعوا ثمناً غالياً جدًا نتيجة أعمالهم، فقد حُبسوا وشردوا، لذلك كان لا بد من المحافظة على تاريخ هذا الفن، وأنا بشكل خاص لمستُ أن فنانى الكاريكاتير لا يهتمون بأعمالهم بعد أن تُنشر على صفحات الجرائد، لذلك وجدتُ صعوبة كبيرة فى عملية جمع مقتنيات المتحف، لكن بشكل عام؛ أمارس أحيانًا رسم الكاريكاتير داخل أعمالى الفنية، خاصة الأعمال ذات الصبغة السياسية».

أزمة الفن التشكيلى

يرى محمد عبلة أن الفن التشكيلى داخل مصر– فى الوقت الراهن–يعيش «أزمة خلل» فى المنظومة «عدد المتاحف لا يتناسب أبدًا مع عدد السكان، وعدد الصفحات والمجلات وكتب الفن التشكيلى، لا تتناسب مع الرقم السكانى، وكذلك عدد البرامج فى الإذاعة والتلفزيون لا يتناسب مطلقًا، وأيضًا حصص الرسم والتربية الفنية داخل المدارس لا تتناسب، فنحن نعيش أزمة لكن رغم ذلك هناك أجيال جديدة متميزة وهناك جاليريهات كثيرة تُفتتح، رغم أن دور الحكومة يتراجع قليلًا مقارنة بالماضى وهذا شىء محبط قليلًا؛ لكن الفن بشكل عام يحتاج جهوداً كبيرة جدًا، من جانب المنظمات الأهلية والجامعات، فلا يوجد دولة أو حضارة تُبنى بدون الفن لأنه متداخل فى جميع مناحى الحياة، لذلك لابد من الاهتمام بالفن، لأنه من المؤكد أننا عندنا أزمة فى الثقافة الفنية، لكن هناك أجيالاً  جديدة مميزة، وإذا أردنا أن نسأل أنفسنا عن سبب ازدهار الفن داخل أوروبا، فهذا سببه أن الفن قد تحول لرافد اقتصادى مهم جدًا، والاقتصاد بدوره يرفع من قيمة السلع، وبالتالى حدث انتعاش فى الفن بسبب وجود عائد اقتصادى، لكن الجانب الاقتصادى فى مصر غير منظم وأثره غير موجود، رغم أن فاروق حسنى فى فترة رئاسته للوزارة كان قد بدأ التفكير فى فكرة «اقتصادات الفن»، لكن المشروع لم ير النور فى نهاية الأمر، بسبب رحيله، لذلك أرى أن اقتصادات الثقافة أمر مهم للغاية. أما بخصوص التوسع فى كليات الفنون خلال الوقت الراهن فهذا أمر يسبب خللاً فى المنظومة بشكل كامل وهو أمر خاطئ، لأننا لا نملك كوادر تستطيع التدريس بدرجة كافية، والسبب الثانى أننا لا نملك سوق عمل، ولا حصصاً للرسم، وبالتالى خريج هذه الكليات يكون عنده قصور فى مناح كثيرة، لذلك نحن نعيش فى انتظار صدفة ما كى يخرج لنا فنان حقيقى، فعلاج الأمر يتطلب الاطلاع على التجارب الأخرى الموجودة فى العالم وكذلك الاطلاع على القيم التى يمتلكونها».

التصوف.. والبحث عن المجهول

كثيرًا ما يُنظر لأعمال محمد عبلة بأنها تحمل طابع التصوف، إذ إنه بدوره لم ينف نزعته التصوفية: «علاقتى بالدين إلى حد ما قوية، والدين الإسلامى يمثل بالنسبة لى رافدًا مهمًا، فقد قررتُ من قبل–خلال مرحلة من حياتى– البحث فى الأديان الأخرى مثل البوذية وغيرها، لكن ظل الدين الإسلامى رافدًا مهمًا فى الأفكار، وهو بدوره يقود للتصوف لأن معظم الإنتاج الأدبى جاء من التصوف، وقد قرأتُ كثيرًا فيه، ومن خلاله أدركت أن ممارسة الفن هى نوع من التجرد الذى يقترب من حالات التصوف، فالمتصوف يبحث عن الله لكن الفنان يبحث عن المجهول، والبحث عن المجهول يقودك لتنقية الاختزال وتنقية الأفكار، الفن هو لغة مجردة تمامًا مثل التصوف، وكى يصل الفنان لهذه اللغة المجردة يجب أن يتعلم إزالة الشوائب الموجودة فى حياته وهذه هى اللمحة التصوفية فى أعمالى».

تجارب جديدة

فى إطار حديثه عن مشروعه القادم؛ يقول محمد عبلة إنه خلال حياته لم يكمل شيئًا حتى النهاية: «طوال سنين عملى التى تتجاوز الـ40 عامًا هناك أشياء كثيرة لم أكملها نظرًا لرغبتى فى خوض تجربة جديدة، لكنى خلال الوقت الراهن أفكر فى استكمال الأشياء التى تركتها فى الماضى، كما أننى أود أن أتوقف مع نفسى قليلًا وأن أنظر إلى تاريخى الفنى كله وأستكمل المناطق التى لم أكملها، وقد بدأت فى هذا الأمر بالفعل».

اعترافات

يملك عبلة الكثير من اللوحات التى لا يعرضها أبدًا ولا يريد لأحد أن يشاهدها: «أشتغل كثيرًا لكنى أعرض القليل من أعمالى. فأنا أملك أربعة مخازن، إلا أننى حين أعمل لا أكون راضيًا عن شغلى أو إنتاجاتى، أشعر أنها أعمال لا تستحق أن تُعرض، طوال الوقت يراودنى هذا الشعور». 

 

 


وهنا يبدو أنه قد قرر الاعتراف أخيرًا بما يحمله داخل نفسه، فبدأ يتحدث حول شكوكه المستمرة: «أنا دائم الشك فى كل شىء أفعله، وأشعر دائمًا أننى أريد أن أدخل «جوة» نفسى، وأن شيئًا ما ينقصنى، فالفن ليس خطًا بيانيًا، بل هو خط متذبذب، وأحيانًا أقوم بفعل أشياء تافهة جدًا، وفى نفس الأسبوع أفعل أشياء قد تبدو عبقرية، لأنى دائمًا أرغب فى الاستمتاع مع نفسى بقدر كاف وهذا ما يهمنى، لكنى لم أصل أبدًا لحالة الرضا، لأنى أدرك أن هناك فنانين قاموا برسم أشياء عبقرية للغاية، بينما أنا متصالح مع نفسى وأعتبر أننى لم أقم بأشياء تستحق أن يتم وصفها بالـ«عبقرية»، حتى وإن وصفنى البعض بهذا اللقب، فأنا مازلت «هوائى» وأتذكر دائمًا قصة سيدنا إبراهيم حين نظر للشمس وقال هذا ربى، وفى الليل نظر إلى القمر وقال هذا ربى؛ أنا أشاهد الأشياء وأُعجب بها لكن لا يوجد شىء فى حياتى أحببته لدرجة اليقين، وكأنه حب «ناقص» وهذا الأمر ينطبق على حياتى كلها، فأنا مثلًا لم أحب أحدًا فى حياتى لدرجة اليقين».

اقرأ ايضا | في مجال الشخصيات المؤثرة | الفنان التشكيلي «عبلة» يحصل على أرفع وسام ألماني